للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي التاسع للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

اللغة العربية واللغات الأجنبية.. وَصْل لا فَصْل

إميل‎ أمين

 

اللغة عند علماء النفس هي الرابط الأقوى بين أعضاء المجتمع الواحد، لا سيما أنها رمز لحياتهم المشتركة، حيث تسهم في تعزيز العلاقات الاجتماعية، وتنمي أسس الروابط الإنسانية، ولهذا يجزم علماء الاجتماع بأن اللغة هي الرابط التاريخي القوي والمتين عبر القرون بين الأجيال المختلفة.

والشاهد‎ أن اللغة العربية تتمايز عن غيرها من لغات العالم بأنها لغة متجاوزة للأعراق والأقوام، للحدود والسدود، إذ إنها تمثل لغة القرآن الكريم، ما يعني أنها وإن كانت لغة نحو ثلاثمئة مليون عربي من جهة، إلا أنها في واقع الحال تمثل لغة المسلمين الذين يعدون زهاء المليار ونصف المليار مسلم حول العالم.
ويعد اليوم العالمي للاحتفال باللغة العربية مناسبة مهمة للإشارة إلى الإسهامات العظيمة للغة العربية في الحضارة البشرية، فقد كانت اللغة العربية، ومازالت، سبيلاً لنقل المعارف في مختلف ميادين العلم والمعرفة، ومنها الطب والرياضيات والفلسفة والتاريخ وعلم الفلك.
على‎ أن أحد الأسئلة المثيرة للانتباه التي يعلو صوتها في مثل هذا اليوم: «هل باتت اللغة العربية في خطر، وهل تيار العولمة الجامح والجانح في ذات الوقت، يمكنه عند لحظة بعينها أن يمثل تهديدا على حال ومآل اللغة العربية، لا سيما من جراء التنافح والتلاقح الثقافي مع لغات العالم الأجنبية من جهة، والانفتاح اللساني إن جاز التعبير على لغات أعجمية أخرى غير العربية؟
إن تلك المخاوف غير موصولة باللغة العربية فحسب، بل إنها مخاوف مشروعة عند أصحاب اللغات الناجزة والفاعلة لدى كثير من الشعوب والتي تخشى من أن تكون عملية انهيار الحدود الثقافية، سوف تأخذ اللغة الوطنية والمحلية معها، ما يفقد الأمة أحد أعمدة خيمتها الأخيرة والمهمة في الوقت ذاته.

تهديد وتهويل
ما‎ يطرحه بعض العرب من مخاوف هذه الأيام بشأن اللغة العربية، سبق وطرحه بالفعل الشعب الفرنسي منذ بضعة أعوام، وذلك حين ثار جدل كبير، ونقاش واسع بين علماء الاجتماع ورجالات السياسة والأدب، وكافة فاعليات الحياة العامة، حول دخول بعض الكلمات الأجنبية من اللغة الإنجليزية إلى اللغة الفرنسية، ويومها طالب الفرنسيون بضرورة ابتكار مصطلحات فرنسية وتأصيلها في التربة الفرنسية، وحتى لا يصحو الشعب الفرنسي ذات نهار ليجد لغته قد سرقت، ومعها التراث الإنساني لا سيما تراث عصر النهضة.
غير أنه يستوقفنا هنا أن الفرنسيين لم يتوقفوا عن تعلم اللغات الأجنبية والتميز فيها، والتعامل بها عالمياً، ما يعني الاستفادة قدر المستطاع من المعرفة بها، ضمن حدود المعرفة، وليس في أطر أو سياقات التخلي عن اللغة عماد الحضارة.
‎ والشاهد أن هناك أزمة معلنة أحياناً ومكبوتة أحياناً أخرى، تدعي أن تعلم اللغات الأجنبية في حواضننا العربية، أمر في محتواه التعليمي والأيديولوجي يؤثر بلا شك على قوى التماسك المعرفية العربية والإسلامية، بسبب اختلاف المضمون العقدي والديني لأي لغة أجنبية عن العربية، وكذلك تباين الموروث الثقافي والسلوكي والقيمي والخلقي لتلك اللغات عن العربية.
يصل‎ التهويل في حقيقة الأمر إلى قول بعضهم إن اللغات الأجنبية تزرع في الطالب الانتماء إلى اللغة والثقافة الأجنبية بكل ما تحمله من معانٍ وأفكار ومفاهيم لا ترتبط بالتراث الوطني والتربية القومية.
أما‎ أصحاب فكرة (المؤامرة اللغوية) إن جاز التعبير، فيذهبون إلى أن أعداء الأمة، قد فطنوا إلى العلاقة الوثيقة بين اللغة العربية والدين الإسلامي، وعليه فقد قاموا بمحاولات عديدة لإضعاف هذه اللغة التي حملت هذا الدين الحنيف لزعزعة العقيدة في نفوس وعقول الجماهير المسلمة، ولا سيما بعد أن فرضت اللغة العربية نفسها في المحافل والمنظمات الدولية.
يختلف‎ منظور أصحاب نظرية المؤامرة هذه مع روح ونص الرسالة التي وجهتها السيدة اودري ازولاي، المديرة العامة لـ«اليونسكو» العام الماضي بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، والتي اعتبرت اللغة العربية في الوقت الحاضر، وكما كانت في السابق، مساهما مهما في منجز الحضارة البشرية وفي العصر الرقمي تحديداً، ولا سيما من خلال أنشطة الشباب العربي الذين يشكلون نسبة كبيرة من السكان في البلاد العربية ويستخدمون الكثير من سبل التواصل التي تتيحها الوسائل التكنولوجية الحديثة.
تعني‎ كلمات المسؤولة الأممية أن اللغة العربية لغة حية نابضة بالحياة والحركة والتفاعل مع العالم الرقمي الخارجي، الأمر الذي ينفي فكرة تآمر الآخرين من منطلق إيماني أو عقائدي، وأن الأمر هو بمثابة هواجس أو وسواس قهري سببه الخوف من دخول ثقافة جديدة مغايرة على ثقافة أخرى قائمة عبر مئات السنين.
ولعله‎ من المقطوع به أن مسالة تعلم اللغات الأجنبية لا تعني أبداً وبالضرورة عدم الالتفات إلى اللغة الأم والاهتمام بها إيمانياً وحضارياً، واللغة العربية بنوع خاص هي حصاد الحضارة العربية أولا ، وهذه سبقت ظهور الإسلام، وقد تناولنا عبر صفحات الاتحاد الثقافي الغراء في أكثر من مناسبة أبعاداً عميقة لتلك الحضارة ومكوناتها، ما يبين أن هناك شعوبا ذات تراث لغوي وفكري ومناهج متقدمة في الحياة عرفتها الصحراء العربية قبل ظهور الإسلام، ومع بدء الدعوة الإسلامية انتشرت اللغة العربية في أزمنة الخلافة والتي كانت حريصة كل الحرص على رعاية اللغة وعلمائها، الأمر الذي جعل المسلمين من غير العرب يقبلون على تعلم تلك اللغة لما فيها من فوائد معرفية حضارية على مختلف أصعدة الحياة، الأمر الذي فعله الإمام البخاري على سبيل المثال، والذي كان حريصا كل الحرص على تعلم اللغة العربية لنشر منتجه الفكري، والذي بقي لدينا حتى الساعة.
بالقدر‎ نفسه يمكن القول إن اللغة العربية تثاقفت مع لغات أخرى عديدة في دول مجاورة وامتد تأثيرها والرغبة في تعلمها كما الحال مع اللغة التركية والفارسية، الكردية والأوردية.

تفاعل
على‎ أن المثال الأكبر لثقة أهل اللغة العربية في ذواتهم وحواضنهم العلمية والفكرية، وانفتاحهم الخلاق على لغات العالم الخارجي، وتعلمها من غير خجل أو وجل، وبدون أدنى مخاوف من أن تؤثر على أيديولوجيا أو إبستمولوجيا الأمة يتمثل في مشهدين: المشهد الأول في عصر الخليفة هارون الرشيد، فقد كانت تلك الفترة الذهبية لتعلم اللغات الأجنبية لا سيما اليونانية واللاتينية، وقد لعب النصارى العرب دوراً مهماً في هذا الإطار، مما يبين أريحية وسعة عقل وفكر الخلافة الإسلامية ورؤاها الحضارية في ذلك الزمان. استطاع هؤلاء من أبناء العرب الذين تعلموا لغات الإغريق والأوروبيين أن يترجموا التراث اليوناني إلى اللغة العربية، ولاحقا شرحوه، وتاليا كتبوا من عندهم عليه طروحات وشروحات أطلق عليها بالسريانية (الميامر) أي المقالات.
‎ لم يخش العرب والمسلمون في ذلك الوقت المزدهر حضارياً من دخول لغات أجنبية إلى حواضنهم الفكرية، ولهذا قدر لهم أن ينتقلوا بأمجاد الحضارة العربية إلى الجانب الآخر من البحر الكبير، أي البحر الأبيض المتوسط، كما كانوا يسمونه في ذلك الزمان.
أما‎ المشهد الثاني الذي نحن بصدده فتجلى في زمن الانفتاح العربي الأندلسي الخلاق على العالم الأوروبي، فقد أدرك العرب والمسلمون الأندلسيون لغات أوروبية مختلفة، وقد كانت هذه جسراً يشهد به العلماء الموثوقون لانتقال علوم العرب لا سيما الفلك والطب إلى دول أوروبية كانت تعيش مراحل بدائية من الإنسانية، ومن دون إتقان المسلمين الأندلسيين للغات تلك الأمم والشعوب ما كانت علوم العرب أنارت القارة الأوروبية.
هل‎ تعلم اللغات الأجنبية ضد التمسك باللغة العربية ورعايتها وتسليمها قلباً وروحاً، نصاً وفصلاً، للأجيال القادمة، أو عدم إعطائها ما تستحق من اهتمام في مراحل الدراسة المختلفة؟
الشاهد‎ أن تعليم اللغات الأجنبية ليس أمراً مبتكراً، ولا بدعة جديدة في حياة العرب والمسلمين، لكنه شأن عرفته الحضارة العربية منذ صدر الإسلام والذي أوصى بتعلم لغات الآخر الأجنبي لمعرفته في حال كان صديقاً، واتقاء شره إن كان عدواً. بل إلى أبعد من ذلك يمكن القول إنه في أوقات الحروب كان يتم الإفراج عن الأسرى العجم حال قيامهم بتعليم المسلمين اللغات المختلفة، الأمر الذي يبين إلى أي حد كانت هناك سعة أفق ونظرة بعيدة دعت المسلمين لطلب العلم ولو في الصين، وهي البعيدة جغرافياً والمختلفة ديموغرافياً ولسانياً، ومن بديهي القول إنه بدون انفتاح على لغات شرق آسيا لما وصل الإسلام إلى هناك وبلغ شأناً كبيراً في وسط أمم لم تتحدث العربية في تاريخها.
يمكن‎ للعالم العربي أن يجد طرائق متباينة لتأصيل وتجذير اللغة العربية عبر الأجيال الجديدة والوليدة، بدءاً من المدارس والمؤسسات التربوية، مروراً بوسائل الإعلام المختلفة وبخاصة التلفزة والسينما، وصولاً إلى وسائط التواصل الاجتماعي المحدثة التي تأتي بالعجائب. غير‎ أن هذا لا يتعارض أو يتناقض مع تعلم اللغات الأجنبية والتي تعد بوابة للآخر حول العالم، تسهل له تلاقيه مع الآخر، وتعضد من شراكاته التجارية والاقتصادية، السياسية والأمنية.
قديما قال الشاعر العربي: (بقدر لغات المرء يكثر نفعه.. فتلك له عند الملمة أعوان). هل‎ من دول مثال على المواءمة بين الحفاظ على اللغة العربية، أي ما يمثل وجه الأصالة والتراث، وبين تعلم اللغات الأجنبية وفتح الأبواب واسعة للقاء الآخر الأعجمي بنوع خاص؟
من دون أدنى تزيد يمكن القطع بأن دولة الإمارات العربية المتحدة هي هذا المثال النموذجي الذي يجمع بين جهود الدولة المحافظة على عمقها الحضاري واللغوي، بالحفاظ على تعلم اللغة العربية في أعلى مستوياتها، وبين إتاحة الفرصة واسعة للأجيال الناشئة لإتقان لغات أجنبية تكون بمثابة جسور ومعابر إلى العالم الخارج، جسور تعزز من بناء الدولة وبقائها، ونمائها، جسور تستقطب الآخر من أقاصي الأرض ليرى ما يدور على أرض الإمارات وليقطع بأنها باتت أكثر من دولة، بل رسالة للتسامح والتصالح الذي يتبدى لساناً في حال اللغة العربية واللغات الأجنبية.
حين‎ تحدث صموئيل هنتنجتون في أوائل تسعينات القرن المنصرم عن صراع الحضارات الذي أنذر وحذر منه، كان البعد اللغوي والثقافي في القلب من نظريته، وكأنه وضع اللغات في وضع التحارب والتصارع وليس التكامل والتواصل.
غير أن الخلاصة السَّنِيَّة في أمر اللغة العربية، وكل لغة هي أنها تراث إنساني موصول وغير مفصول أمس واليوم وغداً.
 

الاتحاد

التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية