|
|
قضايا نقدية في مواجهة نظرية الأدب الإسلامي - 2
أ.د. محمد عبد الله سليمان
ثانيا - قضية الأدب الموافق :
وهنا تبدو إشكالية الحكم على إسلامية النص هل نحكم على ذلك من توجه النص أم من توجه كاتبه ؟ وهل النص الذي يسير في ركب القيم والتصور الإسلامي من كاتب غير مسلم هل يدخل في باب الأدب الإسلامي ؟ وإذا كانت الإجابة بلا فأين نضعه ؟ وهذه القضية اختلف حولها النقاد الذين نظروا للأدب الإسلامي ولهم في ذلك آراء متباينة .
أ- ركزت طائفة من الباحثين على النص بصفته إبداعا فنيا يتجسد فيه الأنا ببعديْه الفردي والجمعي. ومن هؤلاء نذكر محمد قطب الذي عدَّ الشعر الذي أنتجه غيرُ المسلمين ويلتقي بالتصور الإسلامي شعرا إسلاميا. وعملاً بهذا الاعتقاد، درس أدب الشاعر الهندي البوذي طاغور باعتباره أنموذجا للأدب الإسلامي.
" فهناك نقط التقاء كثيرة بين طاغور وبين المنهج الإسلامي .. نقط التقاء جزئية كلها ، ولكنها تكفى لإيجاد روابط المودة بينه وبين هذا المنهج ، بحيث يذكر معه ــــ في حدود هذا الالتقاء ! يلتقى معه في شعور المودة والحب نحو الوجود الكبير والحياة والأحياء ... والحب الجميل للإنسانية . ويلتقي معه في دعوته الدائمة للسماحة والخير بين الناس "
وقد سار على ذات النهج الدكتور عماد الدين خليل الذي درس في كتابه " في النقد الإسلامي المعاصر" مسرحية لكاتب إسباني باعتبارها تمثل نموذجا للأدب الإسلامي. وأكَّد ذلك الدكتور: "عماد الدِّين خليل" في كتابه: "مدخل إلى نظرية الأدب الإسلامي"، فقال: "ويُمْكن أن نضيفَ إلى ما ذَكَره "محمد قطب"، أن مُحاولة كهذه سوف تزيد من رصيد الأدب الإسلامي، وتُغْنِيه بالمعطيات الخصبة، وتضع قبالة الأدباء الإسلاميِّين نَماذج متقدِّمة على مستوى "التقنية" بوجه خاصٍّ، يمكن أن يَحْذو حذْوَها، وأن تعينهم على رفع وتائر مُعطياتِهم الإبداعيَّة، وجعلها أكثر نُضْجًا واكتمالاً، ومن خلال هذا الإغراء، وجدتُنِي أخوض التَّجربة نفْسَها، التي خاضها مِن قبلي "محمد قطب"، فأَختارُ مسرحية الكاتب الإسباني المعروف: "أليخاندرو كاسونا": "مركب بلا صيَّاد"، لأضَعها في صفِّ الأدب الإسلامي، وأكتب عنها بَحْثًا نقديًّا بعنوان: "القِيَم الإيمانية في مسرحية: مركب بلا صياد" ثم يزيد الأمر تأكيدًا وبيانًا، فيقول: "وبعد عشر سنوات أعدْتُ الكَرَّة في كتاب: "مُحاولات جديدة في النَّقد الإسلامي"، فاخترت في فصْلِه الأول المُعَنْون "بالشِّعر العربي والرُّؤية الإسلامية الجديدة" نَماذج شعريَّة، لشاعر أبْعَدَ ما يكون عن الإسلام سلوكًا، إن لم نَقُل تصوُّرًا.. بل إنَّه ليُضرب به وبشِعْره المثل على مُجافاة الإسلام، والإبْحار ضدَّ قِيَمِه وتصوُّراتِه وأعرافه؛ ذلك هو: "أبو نُوَاس".. السِّكير، العِرْبيد، الضَّائع بين زقوق الخمر، في أزقَّة بغداد" ، ثُمَّ يستدلُّ على ذلك بالحديث النبويُّ: " الحكمةُ ضالَّة المؤمن، أنَّى وجَدَها، فهو أحقُّ بها" ، وكذا بتقويمه - صلَّى الله عليه وسلَّم - لقصائِدَ قالَها شُعراء "ما كانتْ قصائِدُهم إلاَّ حربًا على الإسلام، وتعزيزًا لِمَواقع خصومه" .
ب - وفي الاتجاه المقابِل، نجد دارسين يحكمون بإسلامية النص انطلاقا من مبدِعه، ومن بينهم المرحوم نجيب الكيلاني، وعبد القدوس أبو صالح الذي يرى أن من شروط تحقق الإسلامية في النص الشعري أن يكون قائلُه مسلماً. ومن الذين تبَنَّوا هذا الرَّأي ودافعوا عنه باستِماتة الدكتور "أبو صالح عبد القدُّوس"، الذي يرى أنه "ينبغي البعد عن التَّعميم، والحذر، وإلاَّ جاز لنا حين نرى ما كتبه "تولستوي" أو "طاغور" أو "غوركي" أو "سارتر"، من نصوص قد تتَّفْق جُزْئيًّا وبصورة عَرَضيَّة مع ما في الإسلام من نظرة إنسانيَّة، أن نَجْعل بعض ما نَجِده عندهم - وهم بين دَهْريٍّ ماسونِيٍّ، وهندوكي، ووجودي، وشيوعي - نصوصًا داخلة في الأدب الإسلاميِّ؛ وهذا أمرٌ لا يقبله ولا يقول به أحدٌ من أهل المذاهب الأدبيَّة العقَدِيَّة، فلماذا يُخَصُّ الأدب الإسلاميُّ بِهذا الموقف، ويُحْمَل على قَبُوله؟".
غير أنَّ عبد القدوس أبوصالح قد اقترَحَ مصطلحًا وسطًا، ، ينصف هذا النَّوع من الأدب، ويعترف به دون أن يَجْعله من صميم الأدب الإسلاميِّ، هذا المصطلح هو: "الأدب الموافِقُ للأدب الإسلاميِّ"، يقول: "وهكذا اتَّضَح أنَّه لا بُدَّ أن يكونَ للأدب الإسلامي خصوصيَّتُه في جَعْل النُّصوص المقاربة للتصوُّر الإسلامي، أو المتضمِّنة بعض القِيَم الإيمانيَّة، أو الْخُلقيَّة، أو الإنسانيَّة، والتي يبدعها أدباء غيْرُ إسلاميِّين بدافع الفِطْرة - داخلةً فيما "يوافق الأدب الإسلامي"، دون أن نعدَّها من صميم الأدب الإسلامي، ودون أن نجعل أصحابَها عندما تكثر لديهم أمثالُ هذه النُّصوص، أدباء إسلاميِّين، وهم لَيْسوا مسلمين أصلاً" .
وقسم أبوصالح النتاج الأدبي إلى ثلاث دوائر: أولاها دائرة الأدب الملتزم بالتصور الإسلامي، وثانيها دائرة الأدب المباح، وثالثها دائرة الأدب الذي يعارض التصور الإسلامي، وهذا ما يرفضه الأدب الإسلامي ويعد التصدي له من واجباته ومهماته؛ لأنه أدب العقائد والمذاهب المنحرفة عن الإسلام، أو أدب العبث الهدام أو أدب الجنس والانحلال، أو أدب الحداثة الفكرية المدمرة لا أدب الحداثة بمعنى التجديد في المضمون والشكل ، والأدب الإسلامي منفتح على الآداب الأخرى، ليس مغلق النوافذ دونها، يتعامل معها، ويستفيد من تجاربها في إغناء تجربته شكلا ومضمونا، وهو يرحب كثيرا بذلك الأدب الإنساني الذي يصدر عن فطرة الإنسان السوية التي تنضح بالقيم الخيرة النبيلة
ومِن أنصار هذا الرَّأي: "محمد حسن بريغش"، الذي خطَّأَ مَنْ نسب إلى "محمد قطب" إدخالَه أدبَ غيْرِ المسلمين في مسمَّى الأدب الإسلامي، واستدلَّ على ذلك بقول "محمد قطب" نفسه: "والفنُّ الإسلامي - مِن ثَمَّ - ينبغي أن يصدر عن فنَّان مُسْلم، وهو في الوقت ذاته إنسان يتلقَّى الحياة كلَّها من خلال التصوُّر الإسلامي، وينفعل بها، ويُعانيها من خلال هذا التصوُّر، ثم يقصُّ علينا هذه التَّجربة الخاصَّة التي عاناها في صورة جَميلة موحِيَة" ، ثم قال - أيْ: "محمد بريغش" -: "وربَّما كان بعضُهم قد التبَس عليه الأمر مِن بعض العبارات التي وردتْ في الكتاب، دون تدقيق لما تدلُّ عليه وسط السِّياق الكامل للفصل؛ فإنَّ من الخطأ أن ينسب بعضهم للأستاذ: "محمد قطب" أنه أدخل في الأدب الإسلامي أدبًا لغير المسلمين" .
وكان "محمد بريغش" قد أكَّد رأيه في كتابه: "الأدب الإسلامي المعاصر"، حين قال: "عندما نتناول صِفَة الأديب المسلم، نرى أنَّ هُوِيَّته لا تتحدَّد إلاَّ من خلال هذه الصِّفة: "المسلم"، وأنه لا يَدْخُل في إطار الأدب الإسلامي إلاَّ من هذا المدخل فقط.. ولكن الأديب المسلم لا يكتسب هذه الصِّفة إلاَّ إذا كان مؤمِنًا حقًّا، ومسلِمًا صادقًا، يلتزم شَرْع الله فِكْرًا وسلوكًا واعتقادًا" .
ثم خَلص بعد ذلك إلى تسجيل رأْيِه بوضوح، فقال: "الأدب الإسلاميُّ يَصْدر عن حياةٍ إسلاميَّة، وتَجْربة إسلاميَّة، إنَّه أدب يتَّسِم بالصِّدق والوضوح، والالْتِزام بالإسلام في أوْسع صُوَرِه، وأبعد مَراميه؛ لأنَّه يَصْدر عن التصوُّر الإسلامي، المرتبط ارْتِباطًا عُضويًّا بالسُّلوك والنَّشاط الإنساني، والعلاقات الإنسانيَّة المختلفة، وكل أعمال الإنسان، كارْتِباطه بالعقيدة ذاتِها، إنَّه يُصَوِّر تَجْربة الإنسان المسلم في الحياة" .
وكان "محمد بريغش" قد أكَّد رأيه في كتابه: "الأدب الإسلامي المعاصر"، حين قال: "عندما نتناول صِفَة الأديب المسلم، نرى أنَّ هُوِيَّته لا تتحدَّد إلاَّ من خلال هذه الصِّفة: "المسلم"، وأنه لا يَدْخُل في إطار الأدب الإسلامي إلاَّ من هذا المدخل فقط.. ولكن الأديب المسلم لا يكتسب هذه الصِّفة إلاَّ إذا كان مؤمِنًا حقًّا، ومسلِمًا صادقًا، يلتزم شَرْع الله فِكْرًا وسلوكًا واعتقادًا" .
ج ــــ أما الطائفة الثالثة فقد تبنت موقفا توفيقياً، بحيث نادتْ بضرورة إسلامية القائل والمَقول معاً حتى تتحقق صفة "الإسلامية" على أكمل وجْه. ومن أصحاب هذه النظرية نجد الباحث المغربي الدكتور محمد بن عزوز الذي يقول: "لابد من توافُر الإسلامية في النص والمبدع أيضا".
ويتفق الباحث مع رأي د. عبد القدُّوس أبو صالح فإذا اختلَّ شرط إسلاميَّةِ الأديب "المعيار الدِّيني"،والتقى أدبه مع الرؤية الإسلامية للكون والإنسان والحياة فإنَّ الأليق أن نجعل أدبه الإنساني أدبًا "موافقًا للأدب الإسلامي"، دون أن نعده من صميم الأدب الإسلامي.
والحق أننا نجد كثيرا من النماذج من الأدب العربي في العصر الجاهلي ، وكثير من آداب الأمم السابقة للإسلام ، وما يمكن قبوله في ساحة الأدب الإسلامي من حيث روحه الإنسانية العامة التي تلتقي والرؤية الإسلامية للحياة والإنسان ، القوة الكبرى المنظمة للكون والحياة
وهنالك نماذج لاحصر لها في هذا المجال ومن ذلك قول عنترة بن شداد وهو الشاعر الجاهلي:
أَغشى فَتاةَ الحَيِّ عِندَ حَليلِها وَإِذا غَزا في الجَيشِ لا أَغشاها
وَأَغَضُّ طَرفي ما بَدَت لي جارَتي حَتّى يُواري جارَتي مَأواها
إِنّي اِمرُؤٌ سَمحُ الخَليقَةِ ماجِدٌ لا أُتبِعُ النَفسَ اللَجوجَ هَواها
فمثل فهذا القول من شعر عنترة يصب في خانة القيم الإسلامية والدعوة إلي الفضيلة " ألا ترى أنّ عَنترة الفوارس جاهليّ لا دينَ له، والحسنَ بن هانئ إسلاميّ له دين، فمنع عنترةَ كرمُه ما لم يَمنع الحسنَ بن هانئ دينُه؟ فقال عنترة في ذلك:
وأغُضّ طَرْفي إن بَدت ليَ جارتي حتى يُوارِي جارتي مَأواها
وقال الحسنُ بن هانئ مع إسلامه:
كان الشبابُ مطيَّةَ الجَهل ومُحسِّنَ الضَّحكات والهَزْل
والباعِثي والناسُ قد رَقدوا حتى أتيتُ حليلةَ البَعْل
ويقول اليوسي معلقا على أبيات عنترة السابقة بقوله : " فإن هذا في باب العفة والتحلي بمكارم الأخلاق في الجملة صريح، وباعتبار الرياضة والمطلوب من التحلية والتخلية عند السالكين إشارة، وهي كافية في المقصود، لأن مخالفة الهوى هو ملاك الأمر كله "
نواصل
|
|
|
|
|