للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي التاسع للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

تمرُد الشعراء

أ.د. محمد عبد الله سليمان

الشاعر متمرد بطبعه ، فقد يتمرد سياسيا ، أو اجتماعيا ، أو على نفسه أحيانا ، ولكن التمرد الذي اقصده في هذا المقال هو التمرد الفني على القصيدة العربية ، فالشعراء تمردوا عليها على مدار تاريخها الطويل تمردوا على عمودها الذي لخصه المرزوقي في مقدمة شرح ديوان الحماسة في " شرف المعنى وصحته ، وجزالة اللفظ واستقامته ، والإصابة في الوصف – ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة كثرت سوائر الأمثال ، وشوارد الأبيات – والمقاربة في التشبيه ، والتحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن ، ومناسبة المستعار منه للمستعار له ، ومشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى لامنافرة بينهما – فهذه سبعة أبواب في عمود الشعر لكل باب  منها معيار " .
والتمرد على القصيدة العربية قديم قدم القصيدة نفسها وإن اختلفت أشكاله ، فمنذ الجاهلية تمرد عمرو بن كلثوم على تقليد الوقوف على الديار والأطلال فابتدر مطلع معلقته بذكر الخمر:
أَلا هُبّي بِصَحنِكِ فَاَصبَحينا       وَلا تُبقي خُمورَ الأَندَرينا
 ثم اتخذها الحسن بن هانئ ( أبو نواس ) في العصر العباسي مذهبا شعريا له وتمرد على المطالع القديمة وهاجمها شعرا ، وسخر من الوقوف على الأطلال ، وتهكم من البكاء على ديار الحبيبة التي رحلت عنها ، وأنكر النسيب ، واستبدل تلك المطالع بغيرها في ظل حياة الدولة العباسية ذات الحضارة والاستقرار والقصور والترف والمجون ، فأراد أن تبدأ القصائد بالخمريات وأن يترك ما كانت تبدأ به من غزل وبكاء على الديار والأطلال وغيرها ، بقوله:
  لا تبك ليلى، ولا تطرب إلى هند    واشرب على الورد من حمراء كالورد
وقوله :
             قُل لِمَن يَبكي عَلى رَسمٍ دَرَس   واقِفاً ما ضَرَّ لَو كانَ جَلَس
            اِترُكِ الرَبعَ وَسَلمى جانِباً         وَاِصطَبِح كَرخِيَّةً مِثلَ القَبَس
            بِنتُ دَهرٍ هُجِرَت في دَنِّها             وَرَمَت كُلَّ قَذاةٍ وَدَنَس
            كَدَمِ الجَوفِ إِذا ما ذاقَها            شارِبٌ قَطَّبَ مِنها وَعَبَس
ويقول ابن رشيق في العمدة " وقوله وهو عند الحاتمي فيما روى عن بعض أشياخه أفضل ابتداء صنعه شاعر من القدماء والمحدثين:
صفة الطلول بلاغة القدم         فاجعل صفاتك لابنة الكرم
ولما سجنه الخليفة على اشتهاره بالخمر، وأخذ عليه أن لا يذكرها في شعره قال:
     أعر شعرك الأطلال والمنزل القفرا   فقد طالما أزرى به نعتك الخمرا
     دعاني إلى نعت الطلول مسـلط        تضيق ذراعي أن أرد له أمــرا
      فسمعاً أمير المؤمنين وطــاعة     وإن كنت قد جشمتني مركباً وعرا
فجاهر بأن وصفه الأطلال والقفر إنما هو من خشية الإمام، وإلا فهو عنده فراغ وجهل . "
ثم إن نزعة حبيب بن أوس الطائي (أبو تمام ) للاستعارات البعيدة ، ولغرابة التشبيه والغموض في المعنى مع تأثره بالفلسفة كل ذلك أعتبر تمردا وخروجا على النمط الشعري التقليدي ، لذلك كان له أنصاره وخصومه . يقول ابن المعتز في البديع "وأشعار المتقدمين من الكلام الذي سماه المحدثون البديع ليعلم أن بشاراً ومسلماً وأبا نواس ومن سلك سبيلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن ولكنه كثر في أشعارهم فعرف في زمانهم حتى سمى بهذا الاسم فأعرب عنه ودلّ عليه . ثم إن حبيب بن أوس الطائي من بعدهم شغف به حتى غلب عليه وتفرغ فيه وأكثر منه فأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض وتلك عقبى الإفراط وثمرة الإسراف " وقد أثار أبو تمام حفيظة النقاد لما قال :

لا تسقني ماء الملام فإنني        صبٌ قد استعذبت ماء بكائي
وقد روي أن بعض أهل المجانة أرسل إلى أبي تمام قارورةً وقال ابعث في هذه شيئاً من ماء الملام، فأرسل إليه أبو تمام، وقال: إذا بعثت إلي ريشة من جناح الذل بعثت إليك شيئاً من ماء الملام. مشيرا إلى قول الله تعالى " وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً " سورة الإسراء ، الآية 24 .
يقول الآمدي في الموازنة بين أبي تمام والبحتري معلقا على البيت السابق "فقد عيب، وليس بعيب عندي؛ لأنه لما أراد أن يقول " قد استعذبت ماء بكائي " جعل للملام ماء؛ ليقابل ماء بماءٍ وإن لم يكن للملام ماء على الحقيقة ، كما قال الله عز وجل: " وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها " سورة الشورى ، الآية 40 ، ومعلوم أن الثانية ليست بسيئة، وإنما هي جزاء السيئة؛ وكذلك: " إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم " والفعل الثاني ليس بسخريةٍ ، ومثل هذا في الشعر والكلام كثير مستعمل " . وفيما ذكرناه آنفا تمرد لم يخرج به الشعراء القدماء عن الأصول الفنية للشعر العربي ، ولكنها على كل حال هي بدايات تمرد قد يكون لها ما يبررها ولها ما بعدها.
ولم تتضح حركة التمرد على الشعر العربي وأصوله الفنية القديمة إلا مع مطالع القرن العشرين أما كل المحاولات التي سبقت لم تكن محاولات خارجة عن الشكل الفني للقصيدة . ففي مطلع القرن العشرين هبت رياح التمرد على الشكل التقليدي للقصيدة العربية  متمثلة في المدارس الأدبية  الحديثة ، الديوان ، أبولو، المهجر ، الشعر الحر ، الحداثة ، فامتدت يد التمرد إلى اللغة والموسيقى والأوزان والقوافي  وغير ذلك ، يقول جبران خليل جبران وهو أحد رواد مدرسة المهجر متمردا على اللغة " لكم لغتكم ولي لغتي ! لكم فيها القواميس والمعجمات والمطولات ولي فيها ماغربلته الأذن ، وحفظته الذاكرة من كلام مألوف مأنوس تتناوله ألسنة الناس في أفراحم وأحزانهم " .
كما لا يخفى على فطنة القارئ محاولات فئة من الشعراء القضاء على الوزن والقافية ، وقد قالت نازك الملائكة في كتابها " قضايا الشعر المعاصر " إيقاع الزمن أسرع من أن تحتويه تفعيلات الخليل " في محاولة للتمرد على عروض الخليل وبحوره الشعرية .
ويقول ، س . موريه في كتابه حركات التجديد في موسيقى الشعر العربي الحديث "وبناء على ذلك احتل الثائرون ضد التعريف التقليدي للشعر المحدود بالوزن والقافية بأن القافية وموسيقاها ليستا جزءاً ضروريا من الشعر إذ القافية الموحدة تجرد المعاني وتقود الشاعر بعيدا عن أفكاره الأصلية وتضطره لأن يخضع عواطفه وأفكاره إلى القافية وتصدم إحساس الشاعر وهو في غيبوبة الإبداع وحساسية الخلق وأن تأثيرها الرنان يفسد إيقاع الوزن كما أن الصور والأفكار في القصيدة الجديدة هي عناصر أكثر أهمية  " .
يقول الدكتور محمد أحمد العزب عن مدرسة الشعر الحر في كتابه " ظواهر التمرد الفني في الشعر المعاصر " ومضت هذه الحركة في تمردها وتدميرها للأشكال التقليدية للقصيدة ومضى شعراؤها في الثورة عليها من حيث مضمونها وشكلها ولغتها"
أما مدرسة الحداثة فقد تمردت تمردا تاما على القصيدة العربية بتبنيها ما يسمى بقصيدة النثر ومن كبار روادها الكاتب والناقد على أحمد سعيد " أدونيس " حيث يدخل إلى عالم البناء الفني للقصيدة الشعرية ليحدد طبيعة الفروق الجوهرية بين ما هو شعر وما هو نثر ، منتصرا لقصيدة النثر بالطبع فيقول في كتابه ( أوزان الشعر )  " من القضايا الشكلية البنائية التي تثار ضد الشعر الجديد قضية التعبير بغير الأوزان التقليدية حيث لا تكون أوزان في رأي من يثيرونها ولا يكون شعراً ...! إن تحديد الشعر بالوزن تحديد سطحي خارجي قد يناقض الشعر إنه تحديد للنظم لا للشعر فليس كل كلام موزون شعرا بالضرورة وليس كل نثر خاليا بالضرورة من الشعر إن قصيدة نثرية لا يمكن بالمقابل أن تكون شعرا ولكن مهما تخلص الشعر من القيود الشكلية والأوزان ومهما حمل النثر خصائص شعرية تبقى هنالك فروق أساسية بين الشعر والنثر وأول هذه الفروق أن النثر اضطراد وتتابع الأفكار في حين أن هذا الاضطراد ليس ضروريا في الشعر ... "
وقد سألَت الدكتورة سعاد الصباح الشاعر نزار قباني في لقاء ( وجها لوجه ) في مجلة العربي العدد 401 ، سنة 1992، ص 70 ، هذا السؤال : ماهي مشكلة جماعة الحداثة ، وهل استطاعوا تغيير الحساسية الشعرية للشعب العربي ، كما يزعمون ؟ فأجاب : مشكلتهم أنهم يقفون على أرض لا وجود لها ، ويخاطبون بشرا لا وجود لهم  ، أنهم معارضون لا عصر لهم ، ولغويون لا لغة لهم ، ومستقبليون لا مكان لهم في المستقبل  ، إنهم منذ ثلاثين عاما أو أكثر ، يحرثون البحر دون أن تطلع لهم الحنطة ، ودون أن يتمكنوا من تغيير سنتمتر واحد في الحساسية الشعرية العربية . أما مأزقهم الكبير هو أنهم يريدون أن يبنوا مدينة جديدة للشعر وليس معهم حجارة ، ويريدون أن يزرعوا الأشجار المثمرة ، وليس معهم بذور ، ويريدون أن يصححوا التاريخ ولا تاريخ لهم ، إن الحداثة لم تستطع منذ ثلاثة عقود أن تسجل هدفا واحدا في ملعب الشعر ، وبقيت تلعب وحدها دون كرة ، ودون أنصار ، ودون متفرجين " .
وموضوع التمرد الفني على القصيدة العربية وأصولها الفنية موضوع ذو أبعاد وتشعبات وتعقيدات لا يمكن علاجه بمقال قصير كهذا ، وإن كان النقاد قد تناولوه إلا أنه يحتاج إلى المزيد من الدراسات والبحوث والمؤلفات والنقاش ، لأنه من القضايا الساخنة على الساحة الأدبية والنقدية المعاصرة .


التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية