للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي التاسع للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

ودمع لا يكفكف يا دمشق

أ.د. محمد عبد الله سليمان

دمشق معالم التاريخ ، وعراقة الماضي ، وآفاق المستقبل . ذكر ابن عساكر في كتابه ( تاريخ دمشق )     " لما هبط نوح من السفينة وأشرف من جبل حسمى رأى تل حران بين نهري جلاب وديصان فأتى حران فخطها ثم أتى دمشق فخطها فكانت حران أول مدينة خطت بعد الطوفان ثم دمشق " ولكلمة دمشق معان كثيرة أشهرها الأرض المسقية ، ويعود ذلك لموقع المدينة الجغرافي في سهل خصيب يرويه نهر بردى وفروعه . ومنذ أقدم العصور اشتهرت دمشق بالتجارة تقصدها قوافل التجار للتّبضّع ، وكانت إحدى محطات طريق الحرير ، ومواكب الحجاج الشاميين ، والرحلات التجارية المتجهة إلى جزيرة العرب ، أو مصر ، أو آسيا الصغرى. وكانت دمشق عاصمة للدولة الأموية ، ومن أبرز معالمها المسجد الأموي ، وفيها دفنت شخصيات بارزة منهم الظاهر بيبرس ، وصلاح الدين الأيوبي .
تغنى الشعراء بدمشق وأمجادها منذ أقدم العصور ، وبطبيعتها الفاتنة ، وعيشها الهنئ ، يقول البحتري :
حَبَّذا العَيشُ في دِمَشـ       قَ إِذا لَيلُها بَرَد
ولقد نقبت في الشعر العربي الذي كتب عن دمشق قديمه وحديثه فما وجدت أجود مما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي ، فقد امتدح عصورها الزاهية ، وتغنى بها ، وذكر مآثرها ، وماضيها التليد لقد كان شوقي مفعم بحب دمشق ، يهزه ذكراها ، ويطرب لماضيها ، ويستمتع بجمال واديها ، وينطلق في كل ذلك من وعيه بأواصر العروبة والإسلام فأنشد فيها أبدع قصائده ، وشدا في المجمع العلمي العربي بدمشق في 10 أغسطس 1925، برائعته :
قُم ناجِ جِلَّقَ وَاِنشُد رَسمَ مَن بانوا                 مَشَت عَلى الرَسمِ أَحداثٌ وَأَزمانُ
هَذا الأَديمُ كِتابٌ لا كِفاءَ لَهُ                        رَثُّ الصَحائِفِ باقٍ مِنهُ عُنوانُ
الدينُ وَالوَحيُ وَالأَخلاقُ طائِفَةٌ                    مِنهُ وَسائِرُهُ دُنيا وَبُهتانُ
ما فيهِ إِن قُلِّبَت يَوماً جَواهِرُهُ                      إِلّا قَرائِحُ مِن رادٍ وَأَذهانُ
بَنو أُمَيَّةَ لِلأَنباءِ ما فَتَحوا                           وَلِلأَحاديثِ ما سادوا وَما دانوا
كانوا مُلوكاً سَريرُ الشَرقِ تَحتَهُمُ                  فَهَل سَأَلتَ سَريرَ الغَربِ ما كانوا
عالينَ كَالشَمسِ في أَطرافِ دَولَتِها                في كُلِّ ناحِيَةٍ مُلكٌ وَسُلطانُ
يا وَيحَ قَلبِيَ مَهما اِنتابَ أَرسُمَهُم                  سَرى بِهِ الهَمُّ أَو عادَتهُ أَشجانُ
مَعادِنُ العِزِّ قَد مالَ الرَغامُ بِهِم                    لَو هانَ في تُربِهِ الإِبريزُ ما هانوا
لَولا دِمَشقُ لَما كانَت طُلَيطِلَةٌ                     وَلا زَهَت بِبَني العَبّاسِ بَغدانُ
وفي تقديري ، وبحسب رؤيتي النقدية فإن أميز القصائد التي كتبت عن دمشق هي قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي ( نكبة دمشق ) عندما ترامى إلى سمعه أن دمشق قد أصابها الفرنسيون بالقنابل ، وأحرقوا معالم حضارتها أدمى ذلك قلبه ، وحرك ربة الشعر فسطر قصيدة يسكب فيها العبرات ، ويبكي دمشق بمشاعر فياضة ، ودمع لا يكفكف ، فمن لدمشق اليوم يبكيها يا أمير الشعراء ؟ ويضمد جراحها ؟ويوقف شلالات الدماء بين أبنائها ؟ إنها لابواكي لها ، لك الله يادمشق ياجريحة العروبة والإسلام . ألقيت هذه القصيدة في حفلة أقيمت لإعانة منكوبي سوريا بحديقة الأسبكية في يناير سنة 1926 :
سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ                 وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ
وَمَعذِرَةُ اليَراعَةِ وَالقَوافي                 جَلالُ الرُزءِ عَن وَصفٍ يَدِقُّ
وَذِكرى عَن خَواطِرِها لِقَلبي              إِلَيكِ تَلَفُّتٌ أَبَداً وَخَفقُ
وَبي مِمّا رَمَتكِ بِهِ اللَيالي                 جِراحاتٌ لَها في القَلبِ عُمقُ
دَخَلتُكِ وَالأَصيلُ لَهُ اِئتِلاقٌ                وَوَجهُكِ ضاحِكُ القَسَماتِ طَلقُ
وَتَحتَ جِنانِكِ الأَنهارُ تَجري              وَمِلءُ رُباكِ أَوراقٌ وَوُرقُ
رُواةُ قَصائِدي فَاِعجَب لِشِعرٍ               بِكُلِّ مَحَلَّةٍ يَرويهِ خَلقُ
لَحاها اللَهُ أَنباءً تَوالَت                      عَلى سَمعِ الوَلِيِّ بِما يَشُقُّ
يُفَصِّلُها إِلى الدُنيا بَريدٌ                     وَيُجمِلُها إِلى الآفاقِ بَرقُ
تَكادُ لِرَوعَةِ الأَحداثِ فيها                 تُخالُ مِنَ الخُرافَةِ وَهيَ صِدقُ
وَقيلَ مَعالِمُ التاريخِ دُكَّت                 وَقيلَ أَصابَها تَلَفٌ وَحَرقُ
أَلَستِ دِمَشقُ لِلإِسلامِ ظِئراً              وَمُرضِعَةُ الأُبُوَّةِ لا تُعَقُّ
  هذه القصيدة عند السوريين كمذهبة عمرو بن كلثوم ( ألا هبي بصحنك) عند التغلبيين . قال ابن قتيبة في كتابه ( الشعر والشعراء ) "وكان قام بها خطيباً فيما كان بينه وبين عمرو بن هند، وهي من جيد شعر العرب القديم، وإحدى السبع. ولشغف تغلب بها وكثرة روايتهم لها قال بعض الشعراء " :
أَلْهَى بَنى تَغْلِبٍ عَنْ كلّ مَكْرُمَةٍ     قَصِيدَةٌ قالها عمروُ بن كُلْثُومِ
يُفاخِرُونَ بها مُذْ كان أَوَّلُهُمْ         يا لَلرِّجالِ لِفَخْر غَيْرِ مَسْؤُومِ
  ولكن بني دمشق لم تلههم ( قافيَّة ) شوقي عن المكارم بل هم أهل المآثر ، وفضلاء العرب ، وإن دل احتفاء بني تغلب بشاعرهم وقصيدته على شيء إنما يدل على مكانة الشعر ، ومفاخرة العرب به ، وقدره عندهم .وحق لأهل سوريا أن يفخروا بهذا النشيد الخالد الذي سطره شوقي بدمه وأعصابه منطلقا من الأخوة الصادقة ، وفاء لهذا الشعب العربي الأصيل الذي نسأل الله أن تقال عثرته ، وتحقق أمنيه . فشوقي كان يتفاعل دائما مع قضايا العروبة والإسلام أينما وجدت   :
نَصَحتُ وَنَحنُ مُختَلِفونَ داراً        وَلَكِن كُلُّنا في الهَمِّ شَرقُ
وَيَجمَعُنا إِذا اِختَلَفَت بِلادٌ             بَيانٌ غَيرُ مُختَلِفٍ وَنُطقُ
وَلِلأَوطانِ في دَمِ كُلِّ                 يَدٌ سَلَفَت وَدَينٌ مُستَحِقُّ
وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ               بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ
ويقدم نصحه صادقا مخلصا لبني دمشق حيث يجمع بينهما الدين والإيمان والشرق والفصحى والرحم والجرح والألم  :
نَصيحَةٌ مِلؤُها الإِخلاصُ صادِقَةٌ              وَالنُصحُ خالِصُهُ دينٌ وَإيمانُ
وَالشِعرُ ما لَم يَكُن ذِكرى وَعاطِفَةً             أَو حِكمَةً فَهوَ تَقطيعٌ وَأَوزانُ
وَنَحنُ في الشَرقِ وَالفُصحى بَنو رَحِمٍ        وَنَحنُ في الجُرحِ وَالآلامِ إِخوانُ
وشوقي في بعض أشعاره كأنما يقرأ واقع دمشق الحاضر ، وما يدور فيها الآن من مآس وأحزان يأسي لها كل عربي تجمعه بها أواصر الدين والرحم والفصحى ، وكأن التاريخ يعيد نفسه:
هَلِعَت دِمَشقُ وَأَقبَلَت في أَهلِها              مَلهوفَةً لَم تَدرِ كَيفَ تَقولُ
مَشَتِ الشُجونُ بِها وَعَمَّ غِياطَها            بَينَ الجَداوِلِ وَالعُيونِ ذُبولُ
في كُلِّ سَهلٍ أَنَّةٌ وَمَناحَةٌ                   وَبِكُلِّ حَزنٍ رَنَّةٌ وَعَويلُ
ويقول :
مَرَرتُ بِالمَسجِدِ المَحزونِ أَسأَلَهُ            هَل في المُصَلّى أَوِ المِحرابِ مَروانُ
تَغَيَّرَ المَسجِدُ المَحزونُ وَاِختَلَفَت           عَلى المَنابِرِ أَحرارٌ وَعِبدانُ
فَلا الأَذانُ أَذانٌ في مَنارَتِهِ                  إِذا تَعالى وَلا الآذانُ آذانُ
ومن أحزان ِجِلَّق ( دمشق ) وفاة ( فوزي الغزي ) - الذي رثاه شوقي - وهو أحد سراة الزعماء في الشام ، وأحد ألوية الثورة العربية في نهضتها العظمى ، توفي وأقيمت له حفلة تأبين في دمشق ، وألقيت فيها هذه القصيدة العصماء في سنة 1920:
جُرحٌ عَلى جُرحٍ حَنانَكِ جِلَّقُ            حُمِّلتِ ما يوهي الجِبالَ وَيُزهِقُ
صَبراً لُباةَ الشَرقِ كُلُّ مَصيبَةٍ             تَبلى عَلى الصَبرِ الجَميلِ وَتَخلُقُ
أَنَسيتِ نارَ الباطِشينَ وَهَزَّةً               عَرَتِ الزَمانَ كَأَنَّ روما تُحرَقُ
رَعناءَ أَرسَلَها وَدَسَّ شُواظَها             في حُجرَةِ التاريخِ أَرعَنُ أَحمَقُ
يا فَوزُ تِلكَ دِمَشقُ خَلفَ سَوادِها          تَرمي مَكانَكَ بِالعُيونِ وَتَرمُقُ
ذَكَرَت لَيالِيَ بَدرِها فَتَلَفَّتَت                فَعَساكَ تَطلُعُ أَو لَعَلَّكَ تُشرِقُ
بَرَدى وَراءَ ضِفافِهِ مُستَعبِرٌ              وَالحورُ مَحلولُ الضَفائِرِ مُطرِقُ
وَالطَيرُ في جَنَباتِ دُمَّرَ نُوَّحٌ              يَجِدُ الهُمومَ خَلِيُّهُنَّ وَيَأرَقُ
   ستبقى كلمات شوقي عن دمشق ترن في مسمع الزمن ، خالدة يتغنى بها أبناء العروبة والإسلام جيلا بعد جيل على مر الأيام في وصف بديع لجمال خمائلها ، وخضرة وروابيها ، وصفاء نهرها ، وعليل هوائها ، وغناء طيرها :
آمَنتُ بِاللَهِ وَاِستَثنَيتُ جَنَّتَهُ                     دِمَشقُ روحٌ وَجَنّاتٌ وَرَيحانُ
قالَ الرِفاقُ وَقَد هَبَّت خَمائِلُها                 الأَرضُ دارٌ لَها الفَيحاءُ بُستانُ
جَرى وَصَفَّقَ يَلقانا بِها بَرَدى                 كَما تَلقاكَ دونَ الخُلدِ رَضوانُ
دَخَلتُها وَحَواشيها زُمُرُّدَةٌ                     وَالشَمسُ فَوقَ لُجَينِ الماءِ عِقيانُ
وَالحورُ في دُمَّرَ أَو حَولَ هامَتِها             حورٌ كَواشِفُ عَن ساقٍ وَوِلدانُ
وَرَبوَةُ الوادِ في جِلبابِ راقِصَةٍ              الساقُ كاسِيَةٌ وَالنَحرُ عُريانُ
وَالطَيرُ تَصدَحُ مِن خَلفِ العُيونِ بِها        وَلِلعُيونِ كَما لِلطَيرِ أَلحانُ
وَأَقبَلَت بِالنَباتِ الأَرضُ مُختَلِفاً              أَفوافُهُ فَهوَ أَصباغٌ وَأَلوانُ
وَقَد صَفا بَرَدى لِلريحِ فَاِبتَدَرَت              لَدى سُتورٍ حَواشيهُنَّ أَفنانُ
  وفي الختام فإن رؤية شوقي رؤية شاعر ، وليست رؤية سياسي ( فإن السياسة لعبة قذرة ) كما يقولون ، فهو ينظر بعيون شاعر مرهف حسن النوايا ، وليس بعيون خبيث ماكر . فالكلمة الشاعرة لها خطرها إذا كانت صادقة ، ولامست شغاف القلوب فكم من كلمات غيرت وجه التاريخ ، وكلمات أمير الشعراء في ( نكبة دمشق ) تهز كياني ، وتحرق أعصابي ، وتعيدني إلى ماض عربي وإسلامي تليد أفخر به وأعتز ، وأقارنه بحاضر مهزوز لا يليق بنا كأمة مجيدة تملك منهجا وحضارة وتاريخا ومستقبلا . فيا دمشق أفيقي ( فكل الصيد في جوف الفرا ) .


التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية