الشنفرى بين نسبه وأخلاقياته...حياته ...لاميته
أ. كريم مرزة الأسدي
إذا كان قد طـُعِن دعبل بنسبه لتمرده وتجرأه على مقام الخلافة ، ومعالي الوزارة ، وأبو نؤاس لمجونه وشعوبيته ، وبشار لعبثه وزندقته - كما قيل ظلماً أو حقاً في هذا وذاك - والمتنبي لشموخه واعتداده ...!! وابن الرومي قد لصقت به روميته دون الاهتمام بثقافته وبيئته ولغته ، وهو بغدادي المولد والنشأة والمدفن ، ولم يغادر بغداد طيلة حياته سوى ثلاثة أشهر ، لقد وقع الرواة والأخباريون القدماء بخلط كبير ، دفعتهم إليه دوافع عديدة ، ولم يكن الصراع الحضاري قائماً حينئذٍ ، وكان أفقهم يتسع للعالم الإسلامي ، وأينما تمطرالسماء فالخراج لهم ! ومن ثم طلّ كتاب معاصرون معروفون ، ونقاد أدب متميزون وساروا على النهج القديم ، وتأثر بعضهم بآراء وأجندة ثلة من المستشرقين ، فشكّكوا ورموا وقذفوا تحت ستار النهج العلمي ، والحقائق الموضوعية - وسنأتي على الأمر فيما بعد - فما بال الشنفرى الذي سبقت وفاته ( 525 م) (1) ولادة النبي الكريم (ص) ( 570 م) (1) ، وكنيت لاميته بـ (لامية العرب) ، والتي تعدُّ من أروع و أقدم القصائد في التراث العربي ، بل هنالك مقولة متواترة للخليفة عمر بن الخطاب ( ت 23 هـ / 644 م ) - وتروى بسند ضعيف كحديث للنبي ( ص ) (ت 11 هـ / 632 م) - يخصها بنعت فريد ، ويلحق العرب بها كمضاف إليه ، ويحث على تعلمها ، لأنها تمثل مكارم الأخلاق ، قائلاً : " علـّموا أولادكم لامية العرب , فأنها تعلمهم مكارم الأخلاق " , والخليفة الراشدي - بالرغم من منزلته الإسلامية الرفيعة - هو الأقرب لعصر الشاعر وأحداثه ممن نقل إلينا أخباره أمثال حمّاد الراوية (ت 156 هـ/772 م) ، والمفضل الضبي ( 178 هـ /794 ) وخلف الأحمر (ت 180 هـ/796 م) ، والنسابة محمد بن حبيب (ت 245 هـ / 859م) ،والأصفهاني صاحب الأغاني (ت 359 هـ /967 م ) ، وبالتالي تعتبر المقولة أكثر صدقاً ، وأقرب واقعاً ، وأحسن أثراً ، والشعر يمثل الشاعر , فهو جزء من شخصيته , ويعكس أخلاقيته , وما يعتلج من أحاسيس في شعوره ومشاعره , والا كيف نتعلم الأخلاق ممن لا أخلاق عنده ؟! وكيف نتكرم بمن لا كرامة له ؟ وكيف نعتزُّ بغير العزيز ؟ّ! دلـّوني بربّكم على شاعر أو إنسان ، يعقد مثل هذا العقد الفريد ، أو يتفوّه بمثل هذا الكلام السديد ، إذا لم يكن ذا عزّة وجذور عميقة عتيدة ، وحكمة وأخلاق رفيعة حميدة ، اقرأ رجاء بشموخ وتعقل :
أقيموا بني أمّي صـــــــــدورّ مطيـــــكمْ *** فأنـّي إلى قوم ٍ ســـــواكمْ لأميلُ
فقدْ حُمّتِ الحـــــــــاجاتُ والليــــــلُ مقمرٌ *** وشـُدّتْ لطيّــــاتٍ مطايا وأرحلُ
خاطب بدايةً ًأهله ، وخصّ بالنداء بني أمّه من أخوانه الأشقاء آوغير الأشقاء ، وتعدُّ رابطة الأمومة أقوى الصلات الإنسانية عاطفة ً , وأكثرها مودةً وقرباً , مبتعداً عن النزعة القبلية والعشائرية الذكورية , وشدَّ رحال مطاياه لمبتغاه مسافرا بليل سافر , ومن الجدير ذكره أنّ الشاعر الأموي المقنع الكندي ( ت 70 هـ / 689 م) , قد وجّه لبني أبيه أبياتاً موجعة متشحة بخيبة الأمل والقنوط في قصيدته الدالية الأطول لديه :
إنَّ الذي بيني وبيــــن بني أبي *** وبيــــــن بني عمي لمختلفٌ جدا
إذا أكلوا لحمي وفرتُ لحومهمْ ***وإنْ هدموا مجدي بنيتُ لهم مجدا
أما المسكين المخمور طرفة بن العبد وقد ولد بعد وفاة شاعرنا الشنفرى بما يقارب العقدين , وتوفي شاباً صغيرا (543 - 569 م) , قد ذكر عشيرته بعد أنْ تحامته منبوذاً طريدا , فتلاقفه بنو غبراء شفقة وعطفاً :
وما زالَ تشرابي الخمور َ ولذتي**وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلـّها *** وأفردتُ إفـــرادَ البعير ِ المعبّدِ
رأيتُ بني الغبراء لا ينكرونني *** ولا أهل هذاك الطرافِ الممــدّدِ
ما كان هكذا العداء البارع , الشنفرى الرائع - رغم أنّ كلّ قصيدة تؤخذ حسب ظروفها الذاتية والموضوعية لحظة إبداعها - بل شجاعاً حكيما , أبياً عزيزاً , صبوراً جميلا ,وإنّ الجمال جمال الروح لا الجسد , نواصل معه لاميته :
وفي الأرضِ منأ ًى للكريم عـن الأذى** وفيها لمنْ خــــافَ القِلى مُتعزّلُ
لعمركَ ما في الأرضِ ضيقٌ على أمرىءٍ*سرى راغباً أو راهباً وهو يعِقلُ
ولي دونكمْ أهلونَ ســــــــيدٌ عملـّسٌ ***وأرقط ُ ذهلولٌ وعرفــــاءُ جيألُ
همْ الرهط ُ لا مستودعُ الســـرّذائعٌ *** لديهمْ و لا الجــاني بما جرَّ يُخذلُ
وإنْ مُدّتِ الأيدي إلى الزّادِ لـــمْ أكنْ *** بأعجلهمْ إذْ أجشـعُ القوم ِأعجلُ
وما ذاكَ إلاّ بسطة ٌ عــــــــنْ تفضل ٍ *** عليهمْ وكـــانَ الأفضلِ المُتفضّلُ
ولستُ بمهيافٍ يُعشي ســــــــوامهُ ***مجدّعةً ً ســــــــقبانها وهي بهّلُ(2)
أديم مطــــــــالَ الجوع ِحتى أميتهُ***وأضــــربُ عنهُ الذكرَ صفحاً فأذهلُ
وأطوي على الخُمص الحوايا كماانطوتْ *** خيوطة ُ ماريٍّ تغارُ وتفتلُ(3)
واستفُ تربَ الأرضِ كيلا يـــرى لــــهُ ** عليَّ من الطـــولِ أمرءٌ متطولُ
ولولا اجتنابُ الذام ِ لــــــمْ يلفَ مشربٌ *** **يٌعــاش ُ بهِ إلاّ لديّ ومآكلُ
وإنـّي كفاني فقدَ مَــــــــــنْ ليسَ جازياً *** بحُسنى ولا فـي قربهِ متعلـّلُ
ثلاثة ُأصــــــــــــحابٍ فؤادٌ مشيعٌ *** وأبيضُ إصليتٌ وصفراءُ عيطلُ
هتوفٌ مـن الملس ٍ المتون ِيزينها *** رصائعُ قـــد نيــطتْ إليها ومحملُ
إذا زلَّ عنها السّـــهم حنـّتْ كأنـّها *****مُرزّأة ٌ عجلى تُرنٌّ وتـٌعـــــــولُ
إذا الأمعزُ الصوانٌ لاقى مناســـــــــمي *** تطايرَ منهُ قـــــــادحٌ ومُفلـّلُ(4)
الرجل كما أرى - وربما ترى معي - يشعر بالتمايز الطبقي والقبلي والعنصري - لفقره وربما لجذوره الحبشية , ولقب بالشنفرى لغلظ في شفته - , إنّه لشعورٌ قاس ٍ مرير يأباه الحر الأبي , فيرفض الضيم طبعاً , ومن مثله لا يُسام الخسف , وفي الأرض متسع لكلّ عزيز نفس , آلا تتذكر قول المتنبي أبان ثورته في غربته , ونفوره من ثلـّته :
رأيتكم لا يصون العرضَ جاركمُ ***ولا يدرُّ علـى مرعاكمُ اللبنُ
جزاءُ كلّ قريـــب ٍ منكـــــــمُ مللٌ*** وحظُ ُكـلّ محبٍّ منكمُ ضغنُ
وتغضبون علـــــى من نال رفدكمُ * حتى يعاقبهُ التنغيصُ والمننُ
أما أنا فيذكرني هذا أيضاً بدعبل حين داهمته الهموم , ونغصت حياته الأحقاد والبغضاء , ففرّ منها الى معتزله قائلاً :
ويكَ أن القعود يلعب بالقعـــ *** ــددِ لعب الرياحِ بالبوغاءِ (5)
ما دواء الهموم ِ الا المهارى*** تـُعتلى في التنوفةِ الملساءِ (6)
الشنفرى شدَّ رحاله شدَّ الفقير الجريء المتعقل , والمتنبي شدّه بشدة الثائر المتمرد المتطلع , أمّا دعبل فاعتلى ومن هؤلاء ( الأهلون ) ؟ الذئب السريع الأرقط الخفيف , والضبع الطويلة العرف
لست أنا بصدد شرح القصيدة ونقدها , الآ بما ألطـّف جوّ مقالتي , وأبثّ الروح فيها عندما توشك على الملل الرتيب , فسأشرع الآن بالبيت الثالث , الذي يتضمن كلمة (أهلون) وهو جمع شاذ ملحق بجمع المذكر السالم , لأن (أهل) اسم جنس جامد لا يستوفي شروط هذا الجمع , ومن هؤلاء ( الأهلون ) ؟ الذئب السريع الأرقط الخفيف , والضبع الطويلة العرف (7) , وعاملهم الشاعر معاملة العقلاء الذين لا يذاع سرّه عندهم , ولا يخذلونه على جريرته , وهذا يذكرني بالأحيمر بن فلان السعدي ( ت 170 هـ / 787 م) , والقصيدة التي مرت بمقالة سابقة لمخاطبكم , ومطلعها :
عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبَ إذعوى ***وصوّتَ إنسانٌ فكدتُ أطيرُ
فلا غرابة إذن أن يستأنس شاعرنا بالحيونات الكاسرة والأليفة نكاية بالإنسان المتعالي المتغطرس المنافق , فهي خير صديق في البيت والطريق , آلا ترى ابناءالأمم المتحضرة شرقاً وغرباً في أيامنا الحاضرة , كيف يألفون حيوانتهم من قطط وكلاب ... ويصاحبونها دون ناسهم وأهلهم !! ويزيد هو عليهم , بأنه يعشي سوامه خيراً , كي يقتات من حليبها حرّا , ومع كل هذا هو( صعلوك) بالدلالة السلبية للكلمة ! (8) ربما فرضت عليه هذه الصعلكة المزعومة كوسيلة للدفاع عن النفس والكرامة الإنسانية , فأين الغرابة يا هذا وذاك ؟! ولا تتخيل هذا العداء الجاهلي المشنفر يستغل هذه المخلوقات الضعيفة , وإنما هو ليس بالمهياف الذي يبعد أبله على غير هدى , فيجعل مواشيه جائعة , وبالتالي سقبانها ( أولادها) من غير رضاعة , بل هو لا يشاركها شرب الحليب حتى تشبع رواء , لأنه درّ لأجلها , لا لأجله , ولا بأس من الجوع الكافر , فهو يطيل أمده حتى يميته , فيضرب عنه صفحاً , وعندما تُمدّ الأيدي , لم يكن عجولا ولا جشعاً , ولا يؤمن (عند البطون تُعمى العيون) ! ولا ينطبق عليه القول :" لا تسأل رجلا عن حاجة , وهو موعود على غداء ) ! إسأله ولا تبالي , فهو قادر على أن يطوي حواياه ( أمعاءه) جوعاً , وإن فتلت وغارت فتل الخيوط , وأحياناً الرجل الرجل يستاف التراب لكي لا يتطاول عليه متطاول لئيم , ليس كل هذا عجزا أو ضعفا أو خوفاً في عصر لا يسود فيه قانون الا قانون القوي المقدام , وأعراف القبيلة , وشيوخها الضخام ! وأنت تعرفه من هو؟ ! ولكن الأخلاقيات الإنسانية الفطرية الخالصة تردعه , وحتى لا يذمه ذام , ويُرمى بالسحت الحرام :
ولولا اجتنابُ الذام ِ لــــــمْ يلفَ مشربٌ ***يٌعـــــــــــاش ُ بهِ إلاّ لديّ ومآكلُ
أعود لأقول , ومع كل هذا يُرمى صاحبنا بالصعلكة بدلالتها السلبية , فمن هو الصعلوك ؟الصعلوك لغة هو الفقير الذي لا يملك المال كي يساعده على العيش , وتحمل أعباء الحياة , واطلقت - بصيغة الجمع - على الخلعاء الشداد, وهم الذين خلعتهم قبائلهم بسبب أعمالهم التي لا تتوافق مع أعراف القبائل , أو على أبناء الحبشيات السود ممن نبذهم أباؤهم , ولم يلحقونهم بأنسابهم , أو على من احترف الصعلكة احترافاً , وحولها الى ما يفوق الفروسية , كل ما سبق ينطبق على شاعرنا الشنفرى تماماً , ولا بأس في ذلك مطلقاً , ولكن تجاوزت الكلمة من بعد دلالتها,وأخذت معاني أخرى , فاطلقت على قطاع الطرق , أو للذين يقومون بعمليات السلب والنهب , وهذا ما نـُبرىء الشنفرى منه , ولا نميل للإتهامات التي وردت حوله في هذا الشأن في كتب التاريخ والأدب , فمثلا يذكر حنا فاخوري , كان الشنفرى " يغير , وحده أو بقوم من أصحابه العدائين , متنقلاًمن حيٍ الى حيٍ, مروعاً التساء والأطفال , باعثاً الرعب والأضطراب في الرجال.." (8) هذا الكلام نـُقل من كتب التاريخ للرواة والإخباريين , ولم يخضع للتمحيص والتحليل والتدقيق , لذلك لا أميل إليه كثيراً , وأنا في شك كبير من قبوله ,لأن ببساطة قصائد الشاعر وهي تعكس شخصيته بصدق ,تقول عكس هذا تماماً , ولا يمكن للشاعر أن يكذب لحظة ابداعه الشعري , وللرواة أن يخترعوا ما يشاءوا من قصص وأقوايل , وأن يجعلوا من الحبة قبة !
والآن نبدأ مع البيت البادىء بـ (ثلاثة أصحابٍ) , فمن هم هؤلاء الأصحاب الثلاثة ؟ !! فؤاد قوي بشيعته المشايعة له, وسيف مسلول من غمده المغمود , والصفراء العيطل تعني القوس الطويلة من شجر النبع (9), وفي البيت التالي يمعن متماهيا برمحه الأملس الصلب المرصع المحمول الصائت , وإذا انطلق السهم من القوس , كأنما استل الجنين من رحم أمه , فتكثر المصائب على القوس المسكينة (الثكلى) - في رواية أخرى - فتولول ونصرخ وتعول على فقدان ولائدها , ويذكرني أصحاب الشنفرى بأصحاب المتنبي ( ت 354 هـ / 965 م) :
الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني ***والرمحُ والسيفُ والقرطاسُ والقلمُ
أكتفي بها القدر من القصيدة الفريدة غير المعلقة ,وإن علقت في الفكر العربي والإنساني , ونفذت إلى قلوب العرب وعقولهم , وهي تتضمن ثمانية وستين بيتا من البحر الطويل , وأروم - لسبب ستعرفه بعد قليل - أن أعرج لمحة على قصيدته التائية بحق زوجه , ولك أن تقرأها كاملة في ديوانه (10), وتتفكر في مدى احترامه لحقوق المرأة وعفتها, القصيدة التي عدّها الأصمعي أحسن ما قيل في خفر النساء وعفتهن :
ألا أم عمرو أجمعتْ فاســـتقلتِ *** وما ودّعتْ جيرانها إذ ْ تولـّتِ
وقد سبقتنا أم عمرو بأمــــرهـا ** وكانتْ بأعنــــاق المطي أظلـّتِ
بعيني ما أمستْ فباتتْ فأصبحتْ *** فقضّتْ أموراً فاســــتقلتْ فولّتِ
فوا كبدا على أميمةَ َبعدمــــــــا *** طمعتُ فهبها نعمةَ َالعيشِ زلّتِ
لقد أعجبتني لا سقوطاً قناعهــا *** إذا مـــــا مشت ولا بذاتِ تلفّتِ
زوجه (أميمة) هجرته ورحلت دون أن تخبر أي أحد حتى جيرانها , الرجل لم يغضب , ولم يسخط , ولم تأخذه الحمية الجاهلية أبان جاهليتها , بل كافأها بأروع رائعة , وأرق الكلمات ..(بعيني)...( فواكبدا ) , ثم (لقدأعجبتني) ...أعجبته بماذا؟ إنها لا تسقط قناعها تعمداً لإبداء حسنها , ولاتتلفت لكي لا تجلب الريبة لعفتها وخدرها , يقول الأصمعي معقباً : وقد تلقي المرأة خمارها لحسنها وهي على عفة , وأنشد قول الشماخ "أطارت من الحسن الرداء المحبرا ", وكما لا يخفى هذه نظرة خاطفة جداً على الأبيات , وأحلتك لقراءة القصيدة كاملة ( 36 بيتاً) , والتمعن في أبياتها , أما انا المسكين المندهش , فغايتي التعقيب على قول المستشرق الأسباني هنري بيريس ,كمثال على بعض العقليات الإستشراقية المتعصبة - بعد مروري على هاتين القصيدتين الإنسانيتين بكل ما للكلمة من معنى لشاعر يعد من أوائل الشعراء العرب , إن لم يكن أولهم , - يقول السيد هنري : " وعبثاً تبحث في أدب المشرق عن فكرة إنسانية واحدة كتلك التي عبر عنها الزبيدي , أبو بكر محمد بن الحسن (ت 379هـ / 989م) , وهو شاعر نحوي أسباني , وكان مؤدب الحاكم الثاني :
والأرض شيءٌ كلـّها واحدٌ *** والناس اخوانٌ وجيرانُ
وهذه الفكرة نفسها تجدها عند تيرنس ,وهو كاتب لاتيني من القرن الثاني قبل الميلاد , فهو يقول في بيت له :
كلُ ما هو إنساني ليس غريباً عليّ " (11)
المستشرق الأسباني ما أراد بأدب المشرق الا أدب العرب , ونسى أن الزبيدي نفسه هو عربي الثقافة واللغة والجذور , وإن عاش في الأندلس , ومنحه الهوية الأسبانية غصباً , وقارنه بشاعر لاتيني من القرن الثاني قبل الميلاد نكاية بهذا المشرق , وتكلم عن أدب المشرق كأنه عرف جميع أسراره , وغاص كلّ أعماقه , ولم يجد حتى لؤلؤة إنسانية واحدة في محاره ! وكأنما الإنسان يكون إنساناً إنسانياً بجسده وشكله , لا بمعانيه السامية , وسلوكه الأخلاقي الرفيع , مع جلّ أحترامي , وعمق تفهمي لبيتي الزبيدي العربي وتيرنس اللاتيني .
نعود للشنفرى الإنسان , والعود أحمد , فالحقيقة لم يكن لـّلامية شأن في القرنين الأول والثاني للهجرة , ولكنها قفزت كقفزة الشنفرى في القرن الثالث , فشرحها المبرد وثعلب وابن دريد والتبريزي والزمخشري , والعكبري ...وابن أبي علي النجار , وابن أبي لاجك التركي , وابن زاكور الفاسي , وعطاء الله المصري (12) ونقلها أصحاب المختارات الشعرية أمثال ابن طيفور , وأبي علي القالي , والخالدين , وابن الشجري , ولكن أبا علي القالي (280 هـ - 356هـ / 893 م - 967م) فجّر في (أماليه) إشكالية نقلها عن أستاذه ابن دريد تقول : إنّ لامية العرب " لخلف الأحمر وليست للشنفرى" (13) , ومما يضعف هذه الإشكالية العابرة - وإن كانت للقالي العالي ! - شهرتها عبر العصور للأزدي الصعلوك جبراً ! , بل قد صدر كتاب بتحقيق الدكتور محسن فياض تحت عنوان " المنثور والمنظوم..." لأبي الفضل أحمد ابن أبي طاهر طيفور(204 -280 هـ ) , أي ولد بعد وفاة خلف الأحمر (180هـ) بزمن قصير , وهو ثقة , مشهود له بالعلم والدقة , أشار إلى اللامية وشنفرها , ولم يأتِ لا من قريب ولا من بعيد على الخلف الأحمر , أماأبو العباس المبرد (ت285 هـ) فأثبت بما لا يدع الشك أن لامية العرب إنما هي للشنفرى وليست لخلف الأحمر(14) .
لم يكتفِ هذا الشنفرى المسكين بعد وفاته بمحاولات نحل لاميته , بل استلابها لصالح (الأحمر) , وما (الأحمر) الا راوية وعلامة ولغوي ونحوي وشاعر من الطبقة الثانية في عصره العباسي , لا يتمتع بأخلاقياتها وبداوتها , ولا يستطيع انتحال عصرها لعصره , ولا يتمكن من وضع قصيدة بمثل هذاالمستوى الرفيع - قد لا تجاريها بعض المعلقات سباكة وقوة لو قامت الدنيا وقعدت مع إقرارنا بعبقرية الأحمر الخلف , بل إن كان (الهنري) قد منح الجنسية الأسبانية للزبيدي , فقد اختلف العرب بنسب الشنفرى واسمه ومكان ولادته ونشأته وحتى لقبه (15) , ولا يعرفون متى ولد؟ ..ولم يحددوا سنة مقتله , وهل هو عربي أم عبد لأبوين عبدين مملوكين؟! وهل هو أسير أم حر؟ وهل هو أزدي من السلامان أوالزهران ؟ وكم كان عمره حينما قُتل أبوه ؟ وما اسمه وما اسم أمه؟...ثم لماذا لم يختلفوا في معاصره امرىء القيس , الملك الضليل , حامل لواء الشعراء الى النار , على حد تعبير الحديث النبوي(ص) الشريف...الحقيقة الشنفرى ذنبه وجريرته قد خرج على تقاليد القبيلة , وسلطتها الجائرة , وأعرافها السائدة ,ثم أنه ضعيف النسب أو دخيل , ومن أم حبشية , فلا فصل ولا أصل , ولامية العرب الى الجحيم ! وهل تعقل أنها تعلق عل أستار الكعبة , رموه على الأزد قاتلي أأبيه , وحاضني نشأته , وقدموه لنا باسم (ثابت بن أوس الأزدي)على أغلب الروايات , وجعلوه صعلوكاً قاتلاً , قرر أن يقتل مائة من بني سلامان , ثأراً لمقتل أبيه , أولأبي زوجته , وربما لاستعباده وإخفاء السر , لان الأصفهاني يذكر في (أغانيه) عنه : " .. ثم قدم منى وبها حرام بن جابر , فقيل له : هذا قاتل أبيك , فشد عليه فقتله.." (16) .
لم يذكرلنا أحد من النابهين كيف تعلم ؟ وأين تثقف ليتفلسف ؟ وما سرّ الأخلاق الرفيعة التي كان يتحلى بها ؟ المهم عندهم قتل تسعة وتسعين رجلاً , وعجز عن اتمام المائة حتى قتله أسيد بن جابر السلاماني , ومن بعد سنتين على وفاته , عثر أحدهم بجمجمته فمات , وتم بحمد الله اكمال العدد , هل تصدق هذه الرواية العجيبة الغريبة , وهل تعقل يمر عليها الباحثون دون تعليق أو تفنيد, إنا لله وإنا إليه راجعون , وعلى ما يبدو لي أن العرب مغرمون بالتسعة والتسعين , لأنها أكبر من المائة , أما أنا فاتعب في لفظها , وأعجزعن كتابتها !! لا أعلم كيف طرقت على ذهن امرىء القيس , والعصر العصر نفسه :
وقبلتها تسعاً وتسعين قبلة ً*** وواحدة ً أخرى وكانت على عجل !!
وحبكوا حوله الأساطير الأخرى غير قتله المائة الأشداء الأقوياء , فخطواته الجبارة تقارب العشرين مترا , لا تلحق به الخيول الأصيلة , وضرب به المثل " أعدى من الشنفرى" ,اترك هذا الأمر , إشكاليات أخرى وقع فيها الرواة الأعزاء , فمثلاً حماد الراوية وخلف الأحمرخلطا بين شعره , وشعر المسكين الصعلوك الآخر تأبط شرّا , مع إن إسلوبيهما مميزان كما يبدو لي , وأكثر من هذا زعم بعضهم , إنهما شخصية واحدة , وهذا لا ريب غير صحيح , فالأخير اسمه (ثابت بن جابر الفهمي ) من قبيلة قيس غيلان بن مضر بن نزار (17) ( ت 530 م) , ثم أن تأبط شرّا قد رثى الشنفرى - يقال أن الأول خال الثاني والله أعلم- بقصيدة منها:
على الشنفرى ساري الغمامِورائحٌ ***غزيرُ الكلى أو صيّب الماءِ باكرُ
عليك جزاءٌ مثل يومــــــك بالجبا **وقد أرعفت منك السيوف البواترُ(18)
لئن ضحكت منك الإماء لقد بكتْ *** عليك فاعولنَ النســــــاءُ الحرائرُ
وإنك لو لاقيتني بعد مـــــــا ترى *** وهل يلقينْ من غيبتهُ المقــــــابرُ (19)
مهما يكن من أمر , لقد وقع الرواة والأخباريون والمؤرخون في خلط كبير ,ونقلوا إلينا الأخبار دون تمحيص دقيق , أو تحكيم لعقل سليم , سوى الأعتماد على سند يحسبونه ثقة , وعلى الحقيقة العفاء ,وقد تدخل الوجاهة والكسب المادى والمباهاة والخيال لاختلاق أو تحوير الأخبار , وركزوا على النسب كثيراً لرفع شأن رجال , أو الحط من أقدار آخرين , ولو على حساب العبقرية العربية , ولابد أن يخطر على بالك وبالي , لا يعقل لم يكن هنالك شعراء قد سبقوا هذاالعملاق الشنفرى , ولم توجد ثقافة واعية , وربما دراسة منهجية ...ضاعت كلها في ذمة التاريخ .
وقبل أن أختم موضوع التعصب للنسب , وأخذت الشنفرى أنموذجاً للعصر الجاهلي , وتوسعت قليلا في البحث عنه , لأنه من أوائل الشعراء العرب الذين وصل شعرهم إلينا , ولأهمية لاميته , واختلاف الرويات حوله حتى اختلطت الحقائق بالأساطير , ولا بأس أن نختم البحث بعنترة العنترة (ت 615), وهو ابن شداد العبسي , فأبوه كان من علية القوم , ولكن أمه (زبيبة) أمة حبشية , سباها الوالد فانجبت له الولد , ونعم الولد , رغم أنه قد عانى في بادىء أ مره من أحكام تقاليد الجاهلية الجائرة كالأستعباد , ولكن استطاع بفروسيته وشجاعته وذكائه أن يشق طريق التحرر , فمن يستطيع أن يتجرأ عليه , ويعبث به , وأصبح في حرب داحس والغبراء قائداً شهيراً, يلمح لابنة عمه الحبيبة ( عبلة) في معلقته التي نظمها كما يبدو لنا لأجل عينيها :
يخبركِ من شهد الوقيعةَ َأنني *** أغشى الوغى وأعفُّ عند المغنم ِ
ولقد ذكرتكِ والرماحُ نواهلٌ *** مني وبيضُ الهندِ تقطرُ من دمي
فوددتُ تقبيلَ الســيوفِ لأنها *** لمعتْ كبـــــــارقِ ثغركِ المتبسم ِ
هل هذا العنتر التي حبكت حوله القصص والأساطير والسير , تخلص ونف بجلده من حساده ومناوئيه ومعيريه ؟!كلا ..!! الطبع الإنساني هو هو , متى ما وجد ثغرة تسرب منها للطعن والنيل من الآخرين - والعياذ بالله - وخصوصاً المتفوقين في أي مجال , والفارس العنتر تحسس بذلك , ولا تعوزه الفطنة والفراسة والحدس ,إقرأ
إنْ كنتُ في عدد العبيدِ فهمتي *** فوق الثريا والسماكِ الأعزلِ
وبذابلي ومهنـــدي نلت العلى *** لا بالقرابة ِوالعـــديدِ الأجزلِ
وكأن دعبلاً كان يخاطبهُ حين قال :
لو لم تكن لك أجدادٌ تبوء بهم ****الا بنفسكَ نلتَ النجمَ من كثبِ
وإلى الحلقة الثالثة , إن شاء الله , " وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة" والسلام !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هنالك رواية تجعل وفاته (510 م) , وأخرى تزعم قبل الهجرة بسبعين عاماً.
(2)المهياف :هو الذي يبعد بأبله طالباً المرعى على غير علم , السوام : الماشية التي ترعى , مجدعة : سيئة الغذاء , السقبان :جمع سقب , وهو ولد الناقة الذكر , بُهل : جمع باهل وباهلة , وهي الناقة التي لا صرار عليها , والصرار ما يصر ضرع الناقة كي لا تُرضع .
(3)الخَمص : الجوع , الخُمص : الضمر , الحوايا : جمع حوية وهي الأمعاء , خيوطة : خيوط , ماري : ربما اسم شخص اشتهر بصناعة الحبال وفتلها , تغار :يحكم فتلها.
(4) الأمعز : المكان الصلب الكثير الحصى , الصوان :الحجارة الملساء , المناسم : جمع منسم وهو خف البعير , شبّه قدميه بأخفاف البعير , مقلل : متكسر.
(5) القعدد: الجبان القاعد عن المكارم , والبوغاء : التراب الناعم
(6) التنومة : الأرض القفر
(7) راجع : شرح لامية العرب للتبريزي , ت د.محمود محمد العامودي , شرح مفردات الكلمات ص 140 - 174 , ويذكر التبريزي ص 137 "لا أعلم أحداً وصف القوس بهذه الصفة غيره" .
(8) راجع : حنا فاخوري :(تاريخ الأدب العربي ) - ط 11 - بيروت - 983 - ص 72 , وراجع تعريف : الصعلوك : د. شوقي ضيف في كتابه ( العصر الجاهلي ) .
(9) شرح لامية العرب للتبريزي - المصدر السابق
(10) راجع (ديوانالشنفرى) : ثابت بن أوس الأزدي -تقديم واعداد طلال حرب- ص 35 - دار صادر - 1996 بيروت -
(11) راجع : هنري بيريس : (الشعر الأندلسي في عصر الطوائف ) ص 31 - ترجمة الطاهر أحمد -
(12) شرح التبريزي :المصدر السابق ص 136
(13) راجع : أبو علي القالي : الأمالي ج! ص 156, واعتمدعلى هذه الرواية بعض المحدثين في شكهم , أمثال
كرنكو في مفاله بدائرة المعارف الإسلامية م 13 ص 396 , وتستطيع أن تجده في الدائرة بطبعتها الفرنسية :
F.KRENKOW: AL -SHANFARA, IN ENCYCL, DE I ,ISLAM,IV,321 - 322.
والدكتور يوسف خليف في كتابه الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي ص 172 , والدكتور شوقي ضيف في (عصره الجاهلي) ص 380 , ولا أميل لهذه الشكوك المشكوك في أمرها كثيراً , راجع المتن .
(14)راجع لمزيد من المعلومات ( أعجب العجب في شرح لامية العرب ) للزمخشري - الطبعة الثالثة 1324 هـ , غير مفهرس 160 صفحة , ( شرح لامية العرب ) للخطيب التبريزي , تحقيق الدكتور محمود محمد العامودي , (نهاية الأرب في شرح لامية العرب ) : للأزهري ..عطاء الله بن أحمد - 30 ورقة - من مخطوطات الأزهر الشريف تحت رقم : 324660 آدب , وممن ترجمها إلى اللغة الانكليزية وشرحها المستشرق الانكليزي ردهوس ( ت 1892 م) ,وترجمت للفرنسية والألمانية .
(15) يقول الدكتور يوسف شكري فرحات في (ديوان الصعاليك ) ط1 - دار الجيل - بيروت - 1992 : يكاد يجمع المؤرخون على أن الشنفرى لقب ( الغليظ الشفتين ) الا أن عبد القادر البغدادي يؤكد في كتابه خزانة الأدب أن الشنفرى هو اسمه الحقيقي وهو قحطاني من الأزد .
(16) أبو الفرج الأصفهاني : ( الأغاني ج21,ص 207 - دار الثقافة - بيروت - 1981- الطبعة الخامسة .
(17) راجع أبو العباس المفضل بن محمد الضبي : ( ديوان المفضليات ) - شرح أبي القاسم ابن الأنباري - ص 14 - الثقافة الدينية - 2000م - بور سعيد.
(18)الجبا :: شعبة من وادي الجي عند الرويثة بين مكة والمدينة - ياقوت الحموي :معجم البلدان ج2 ص 97 - يذكر بعض أبياتها .
(19)أبو الفرج الأصفهاني : ( الأغاني) ج 21 / ص 188 - دار لفكر - بيروت - ط 2- تحفيق سمير جابر.
|