للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي التاسع للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

وقفات على أبواب القوافي - 1

أ.د. محمد عبد الله سليمان

يقول الشاعر سُويد بن كِراع :
أَبيتُ بِأَبوابِ القَوافي كَأَنَّما       أُصادي بِها سِرباً مِنَ الوَحشِ نُزَّعا
   هذا البيت الشعري أوحى إلي بأن أقتبس منه عنوان هذه السلسلة من المقالات التي تقوم فكرتها علي الوقوف عند بيت من الشعر ، والنظر إليه من زوايا متعددة بحسب ما تناوله العلماء من جهة النحو والصرف والبلاغة كما نستعرض آراء النقاد حوله ، والنظر إلى النواحي الجمالية والعناصر الفنية من حيث الصورة  والخيال والعاطفة والأسلوب والفكر.
    والبيت الشعري عند العروضيين لابد أن يكون مستقلا بذاته في المعنى فإذا احتاج إلى غيره ليكتمل معناه عُدّ ذلك عيبا من عيوب الشعر . وكان للبيت الشعري خطره عند العرب قديما يرفع أقواما ، ويحط آخرين ، وتسير به الركبان ، ويرويه الرواة في المحافل والأسواق والمواسم .
  والأبيات التي دار حولها لقط وجدل بين النقاد قديما وحديثا لا حصر لها ، وهذا ما يوقع علي عاتقي مسؤولية اختيار الأبيات ، والكشف عما دار حولها ، والنظر إليها من رؤيتي الخاصة .
  لن أهتم  بأي ترتيبات في اختيار الأبيات بقدر ما أنني سأهتم بالبيت نفسه بغض النظر عن شاعره أو عصره ، ولكن بقدر ما أثار من حفيظة اللغويين والنقاد .
   وأول بيت سأبدأ به للطائي حبيب بن أوس ( أبو تمام ) وهو شاعر مثبر للجدل اتخذ من البديع مذهبا له فأنكر عليه نقاد عصره ذلك لأنهم لم يألفوه وعدوه دخيلا على الشعر العربي  .
يقول أبو تمام من بحر الكامل:
لا تَسقِني ماءَ المُلامِ فَإِنَّني       صَبٌّ قَدِ اِستَعذَبتُ ماءَ بُكائي
  وقد استهجن القزويني في كتابه الايضاح في علوم البلاغة قول الطائي: فقال  " وأما قول أبي تمام فليس له فيه دليل لجواز أن يكون أبو تمام شبه الملام لظرف الشراب لاشتماله على ما يكرهه الملوم كما أن الظرف قد يشتمل على أن يكرره الشارب لبشاعته أو مرارته فتكون التخييلية في قوله تابعة للمكني عنها أو بالماء نفسه لأن اللوم قد يسكن حرارة الغرام كما أن الماء يسكن غليل الأوام فيكون تشبيهاً على حد لجين الماء فيما مر لا استعارة، والاستهجان على الوجهين لأنه كان ينبغي له أن يشبهه بظرف شراب مكروه أو بشراب مكروه ولهذا لم يستهجن نحو قولهم أغلظت لفلان القول ، وجرعته كأساً مرة ، أو سقيته أمر من العلقم "
يقول أسامة بن منقذ في كتابه البديع في نقد الشعر وهو يتحدث عن الاستعارات " ولقد أحسن أبو تمام حين قال ":
لا تَسقِني ماءَ المُلامِ فَإِنَّني       صَبٌّ قَدِ اِستَعذَبتُ ماءَ بُكائي
وقد روي أن بعض أهل المجانة أرسل إلى أبي تمام قارورةً وقال ابعث في هذه شيئاً من ماء الملام، فأرسل إليه أبو تمام، وقال: إذا بعثت إلي ريشة من جناح الذل بعثت إليك شيئاً من ماء الملام." مشيرا إلى قول الله تعالى " وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً " سورة الإسراء ، الآية 24 .
  يقول الآمدي في الموازنة بين أبي تمام والبحتري معلقا على البيت السابق : " فقد عيب، وليس بعيب عندي؛ لأنه لما أراد أن يقول " قد استعذبت ماء بكائي " جعل للملام ماء؛ ليقابل ماء بماءٍ وإن لم يكن للملام ماء على الحقيقة ، كما قال الله عز وجل: " وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها " سورة الشورى ، الآية 40 ، ومعلوم أن الثانية ليست بسيئة، وإنما هي جزاء السيئة؛ وكذلك: " إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم " والفعل الثاني ليس بسخريةٍ ، ومثل هذا في الشعر والكلام كثير مستعمل "
   ويقول ابن الأثير في كتابه المثل السائر وهو يتحدث عن أبي تمام "وقد عيب عليه قوله:
لا تَسقِني ماءَ المُلامِ فَإِنَّني       صَبٌّ قَدِ اِستَعذَبتُ ماءَ بُكائي
وقيل إنه جعل للملام ماء، وذلك تشبيه بعيد، وما بهذا التشبيه عندي من بأس، بل هو من التشبيهات المتوسطة التي لا تحمد ولا تذم، وهو قريب من وجه بعيد من وجه: أما مناسب قربه فهو أن الملام هو القول الذي يعنف به الملوم لأمر جناه، وذاك مختصٌ بالسمع، فنقله أبو تمام إلى السقيا التي هي مختصة بالحلق، كأنه قال: لا تذقني الملام، ولو تهيأ له ذلك مع  وزن الشعر لكان تشبيهاً حسناً، لكنه جاء بذكر الماء فحط من درجته شيئاً ولما كان السمع يتجرع الملام أولاً كتجرع الحلق الماء صار كأنه شبيه به، وهو تشبيه معنى بصورة، وأما سبب بعد هذا التشبيه فهو أن الماء مستلذ، والملام مستكره، فحصل بينهما مخالفة من هذا الوجه، فهذا التشبيه إن بعد من وجه فقرب من وجه فيغفر هذا لهذا، ولذلك جعلته من التشبيهات المتوسطة التي لا تحمد ولا تذم. وقد روي وهو رواية ضعيفة أن بعض أهل المجانة أرسل إلى أبي تمام قارورةً وقال ابعث في هذه شيئاً من ماء الملام، فأرسل إليه أبو تمام، وقال: إذا بعثت إلي ريشة من جناح الذل بعثت إليك شيئاً من ماء الملام وما كان أبو تمام ليذهب عليه الفرق بين هذين التشبيهين، وذاك أن الطائر إذا وهن أو تعب بسط جناحه وخفضه وألقى نفسه على الأرض وللإنسان أيضاً جناح فإن يديه جناحاه وإذا خضع واستكان طأطأ من رأسه، وخفض من يديه، فحسن عند ذلك جعل الجناح للذل، وصار تشبيهاً مناسباً، وأما الماء للملام فليس كذلك في مناسبة التشبيه.
   وجاء في كتاب ابن سنان الخفاجي سر الفصاحة قوله : " وما زال الناس ينكرون قول أبي تمام:
لا تَسقِني ماءَ المُلامِ فَإِنَّني       صَبٌّ قَدِ اِستَعذَبتُ ماءَ بُكائي
ويحكون الحكاية المعروفة عن سائل سأل أبا تمام أن ينفذ له في إناء شيئاً من ماء الملام، وربما نسبها بعض الرواة إلى عبد الصمد بن المعذل. وقد تصرف أصحاب أبي تمام في التأويل له فقال بعضهم إن أبا تمام أبكاه الملام وهو يبكى على الحقيقة فتلك الدموع هي ماء الملام، وهذا الاعتذار فاسد لأن أبا تمام قال: -قد استعذبت ماء بكائي- وإذا كان ماء الملام هو ماء بكائه فكيف يكون مستعفياً منه مستعذباً له.
وقال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي: كيف يعاب أبو تمام إذا قال ماء الملام؟ وهم يقولون كلام كثير الماء، وقال يونس بن حبيب في تقديم الأخطل. لأنه أكثرهم ماء شعر، ويقولون ماء الصبابة، وماء الهوى، يريدون الدمع. وقال ذو الرمة:
أأن توهمت من خرقاء منزلة         ماء الصبابة من عينيك مسجوم
وقالوا: ماء الشباب. قال أبو العتاهية:
ظبى عليه من الملاحة حلة         ماء الشباب يجول في وجناته
وهو من قول عمر بن أبي ربيعة:
وهي مكنونة تحير منها         في أديم الخدين ماء الشباب
فما يكون إذا استعار أبو تمام من هذا كله حرفاً فجاء به في صدر بيته لما قال في آخره -إنني صب قد استعذبت ماء بكائي- قال في أوله: لا تسقني ماء الملام، وقد تحمل العرب اللفظ على اللفظ فيما لا يستوى معناه. قال الله جل وعز "وجزاء سيئة سيئة مثلها" فالسيئة الثانية ليست بسيئة لأنها مجازاة ولكنه لما قال وجزاء سيئة سيئة حمل اللفظ على اللفظ وكذلك: ""فبشرهم بعذاب أليم"  قال فبشر هؤلاء بالجنة ،  وبشر هؤلاء بالعذاب والبشارة إنما تكون في الخير لا في الشر. وعلق ابن سنان معترضا على ذلك بقوله : " هذه جملة ما قاله أبو بكر، وهي غير لائقة بمثله من أهل العلم بالشعر لأن قولهم كلام كثير الماء وماء الشباب وقول يونس إن الأخطل أكثرهم ماء شعر، إنما المراد به الرونق كما يقال ثوب له ماء ويقصد بذلك رونقه، ولا يحسن أن يقال ما شربت أعذب من ماء هذا الثوب كما لا يحمل أن يقال ما شربت أعذب من ماء هذه القصيدة؛ لأن هذا القول مخصوص بحقيقة الماء لا بماء هو مستعار له وأبو تمام بقوله: لا تسقني ما الملام ذاهب عن الوجه على كل حال، ثم لا يجوز أن يريد هنا بالماء بأنها الرونق لأن الملام لا يوصف بذلك وإنما يذم ويستقبح لا يحمد ويستحسن. وأبو تمام القائل:
عذلاً شبيهاً بالجنون كأنما         قرأت به الورهاء شطر كتاب
فبهذا وأمثاله ينعت الملام لا بالماء الذي هو الرونق والطلاوة، فقد بان فساد هذا الاعتذار من هذا النحو، وأما ماء الصبابة وماء الهوى فقد بين أبو بكر أنهم يريدون به الدمع فكيف يقول إنه استعارة والدمع ماء حقيقي بلا خلاف، وعلى أي وجه يحمل ماء الملام في الاستعارة على ماء الدمع وهو حقيقة؟ وأما مقابلة اللفظ باللفظ واستشهاده بالآيات المذكورة فقد ذكرنا الكلام عليه فيما تقدم وبينا أن هذا مجاز ولا يقاس عليه ولا يحسن منا المقابلة في موضع يعترضنا فيه فساد في المعنى أو خلفي اللفظ كهذه الاستعارة أو ما يجرى مجراها كما لا يحسن بنا غير ذلك في المجاز إذا أدى إلى اللبس والإشكال.
   هذا بعض ما دار بين النقاد والعلماء حول هذا البيت الشعري بين القبول والرفض وفي تقديرنا أن الشعر لا يكتب له الخلود والبقاء إلا إذا كان مثيرا للجدل يكتنفه الغموض المحبب الذي يعطي للنقاد فرصة التأويل والحوار.
   كثير من الأشعار أصبحت في طي النسيان لأنها تحمل بذور فنائها ، وأجمل الشعر الذي يدعو إلي بذل الجهد ، وكد الفكر ، وامعان النظر، ولا يعطيك معانيه إلا بعد تمنع منه وفي تقديري أن تعبير ماء الملام فيه بعد شعري عميق وابتكار وتجديد في اللغة قد يعد منكرا عند بعض العلماء الذين نحترم رأيهم ونقدره ولكن يبقى البعد الخيالي قائما ، وما الشعر إذا افتقد البعد الخيالي والتجديد اللغوي والابتكار في التعبير ؟ ثم إن نزعة حبيب بن أوس الطائي  للاستعارات البعيدة ، ولغرابة التشبيه والغموض في المعنى مع تأثره بالفلسفة هي النقاط المثيرة في شعره التي جعلت النقاد يتناولونه بالدراسة والبحث علي مدار  تاريخنا الأدبي والنقدي ، وسيظلون يتناولونه على مر الأيام لأن في شعره عمق يدعو إلى البحث والتأمل.
وإلى لقاء مع بيت شعري آخر نقف على أبوابه  .


التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية