للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي العاشر للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

تأملات و اقتراحات لأجل نهضة أصيلة للغة العربية

أ. سميرة بيطام

    تأملات و اقتراحات لأجل نهضة أصيلة للغة العربية    
مقدمة :
منذ نشأة الأمم و تكاثر الشعوب و هي تسعى إلى إقامة صرح متين يحتوي تطلعات كل أمة للمضي قدما نحو تلبية رغبات شعوبها في حياة تليق بمدارك و طموحات أي مجتمع إنساني ، و للعلامة بن خلدون في مقدمته العظيمة التي سماها كتاب العبر و ديوان المبتدأ أو الخبر قول في هذا الصدد ، حيث يقول : إن الدول القديمة المستقرة يفنيها شيئان :
أولهما :
أن تنشأ مطالبة من الأطراف و هذه الولايات  التي تطالب بالاستقرار لا تبدأ بمطالبها إلا إذا تقلص ظل الدولة المستقرة ، فيبدؤون أولا بالمطالبة بمطالب صغيرة ليست لها أهمية و سرهم في ذلك هي تصوراتهم الوهمية في طلب الحقوق التي تبدأ صغيرة لتصل إلى هرم الدولة ومقاصدها ونظامها ، لتبدأ المرحلة الأخيرة من المناحرة و التي تكون نتيجتها مؤكدة وهي سقوط هيكل الدولة و استحداث نظام جديد على أنقاض الدولة الفانية .
و لعل الأمة العربية إحدى الأمم التي تلونت مسيرة حياة الشعوب فيها ، فحياة الأمم و أحوالها لا تشير على وتيرة واحدة بل إنها تتغير و تتطور على الدوام ، و يكون هذا التطور تارة على شكل تقدم و اعتلاء و تارة على شكل تقهقر و انحطاط ، و اللغة العربية إحدى دلالات رقي الدول على الرغم من تحديات العصر و ما جلبته العولمة من محاولات للتهميش مرة و للإقصاء مرة أخرى ، فأصبحت اللغة العربية تصارع و تكابد لتحافظ على مكانتها المرموقة التي عرفت بها منذ الحضارة العربية ، و ما الكلمات العربية التي تسربت إلى اللغات الأوروبية و التي لا تزال تعيش فيها إلا دليل على عمق تأثير الأمة العربية في الحضارة الغربية و هذه بعض الأمثلة.


إن ارق المنسوجات تعرف في الغرب باسم موسيلين ، و هذا يدل على أن تلك المنسوجات كانت تنسب إلى مدينة الموصل المشهور في شمال العراق ، و أدق الجلود تسمى في عدة لغات ماروكين ، و هذه الكلمة منحدرة من اسم مراكش ( المغرب) ، و كلمة ماغازين الدارجة في اللغة العربية بأشكال مختلفة أصلها العربي كلمة مخزن و شكلها الإنساني يشهد على هذا الأصل شهادة صريحة ، و العلوم نفسها لا تزال تحتفظ بكثير من الأسماء العربية ، فكلمة الجبر مشتقة من الجبر و المقابلة و كلمة الأنبيق تنحدر من أصول عربية.
و حتى أسماء النجوم الغربية المعروفة عند علماء الفلك لا تخلو من كلمات عربية مثل ألثار و هو النسر الطائر و فاما الحوت ما هو إلا فم الحوت و بتلجور هو بيت الجوزاء ، و عليه فان رجال الفكر و العلم في البلاد الأوروبية ينهلون من منتهل العلم القائمة في الأندلس و يتهافتون على درس المؤلفات العربية من ترجمتها إلى اللاتينية ، و أصبحت الجامعات تتنافس على اقتناء الكتب العربية و استكمال تعليم اللغة العربية ، إلا أنه لا يمكن فهم محتوى النصوص الفلسفية و الأدبية مثلا إلا بمعرفة اللغة العربية و بحور مفاهيمها العميقة.
إنها تأملات في اللغة العربية و ما أكثرها وجودا ، فإلى أي حد استطاعت اللغة العربية أن تحافظ على أصالتها وسط زخم العولمة ؟ و هي إشكالية سنحاول الإجابة عنها بأسلوب تحليلي وصفي وفق الخطة التالية :
المبحث الأول: اللغة العربية بين المس و اليوم
المطلب الأول: مكانة اللغة العربية و تحديات البقاء
المطلب الثاني: اللغة العربية و صراعات العصر

المبحث الثاني: متطلبات النهضة للغة العربية
المطلب الأول : اللغة العربية أساس النهضة
المطلب الثاني: مستقبل اللغة العربية و ثوابت المنافسة التنموية
خاتمة

المبحث الأول:  اللغة العربية بين الأمس و اليوم
قال وليام فولكنار " الماضي لن يدفن إلى الأبد و هو لم يمضي بعد" ، كما قيل قديما " في البدء كانت الكلمة " (1).
إن الكلمة رمز منطقها  يحمل فكرا ، و الفكر من حيث هو خاصية فريدة يتميز بها الكائن الإنساني عن بقية المخلوقات في هذا الوجود يتجسد في رموز ( تعقل و لا تحس) تمثل ارقي وسائل التواصل و التفاهم بين أبناء البشر في المكان.
و تعتبر اللغة أهم طريقة للتواصل و التفاهم بين أبناء البشر في كل مكان ، فالفرد في هذه الحياة هو عبارة عن حلقة في سلسلة طويلة متصلة الحلقات من حيث الأفكار و الرغبات و الميولات و ليس يترجمها و يشرح أبعادها سوى اللغة ، و ما يهمنا في نوع اللغة هي العربية (2) ، اذ هناك العديد من الآراء لدى قدامى اللغويين العرب فيذهب البعض إلى أن يعرب كان أول من أعرب في لسانه و تكلم بهذا اللسان العربي فسميت اللغة باسمه ، وورد في الحديث النبوي أن نبي الله إسماعيل بن إبراهيم أول من فتق لسانه بالعربية المبينة و هو بن أربع عشرة سنة بينما نسى لسان أبيه ، أما البعض الآخر فيذهب


إلى القول أن العربية كانت لغة آدم في الجنة ، إلا انه لا وجود لبراهين علمية أو أحاديث نبوية ثابتة ترجح أيا من تلك الادعاءات.
    و اللغة لا تكون رسمية بالاسم فحسب و إنما تكون رسمية بالقول و العمل ، و لو وصفت لغة ما بأنها رسمية دون أن تكون مستعملة استعمالا كاملا و حقيقيا في الحياة العملية و الرسمية للمواطنين ، فان هذه الصفة الرسمية لا تعدو أن تكون شعارا خاليا من المحتوى أقل ما ينتج عنه على صعيد الواقع هو وضع غير طبيعي تصير فيه الغلبة للاستثناء على القاعدة ، و تسود لغة الاستعمال ( الأجنبية ) على اللغة الرسمية و الوطنية المكرسة –نصا- في دستور البلاد ، لأن العبرة هنا ليست في الإناء ، و إنما هي بما في الإناء من ماء أو غذاء (3).
لكن من الأهمية بمكان في شان اللغة العربية أن القرآن الكريم أعاد تنظيم اللغة و جمع شتاتها ، ثم وقف على حروفها ،كما هو معلوم من فواتح الصور " و كذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى و من حولها " سورة الشورى الآية 7 ، حيث ا نام القرى آو منازل الإنسان فقد بقيت فيها بقايا من بلاغة اللغة و فصاحة اللسان و تناثر حولها الكثير من المفردات " و لقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون" ، بمعنى أن كافة كلمات القرآن عربية خالصة مضبوطة في إطار اللغة و هي إحدى معجزات القرآن ، فمثلا لو أخذنا هذه الكلمات : الطير و الطائرة و الطيار و الطيران ، نجدها تنحدر من أصل واحد ،  وبالمقابل  لو نظرنا إلى نفس الكلمات في اللغة الانجليزية مثلا لوجدنا كتابتها و نطقها مختلف تماما عما هو عليه في اللغة العربية ، و هذه إحدى فنون اللغة و إبداعها.

المطلب الأول : مكانة اللغة العربية  و تحديات البقاء
لقد ظلت اللغة العربية تكتب غير معجمة (غير منطوقة) حتى منتصف القرن الأول الهجري (4) ، كما ظلت تكتب غير مشكولة بالحركات و السكنات ، فحين دخل أهل الأمصار في الإسلام و اختلط العرب بهم ظهر اللحن على الألسنة ، و خيف على القرآن الكريم أن يتطرق إليه ذلك اللحن ، و حينئذ توصل أبو السود الدؤلي إلى طريقة لضبط كلمات للدلالة على الفتحة ، و نقطة تحته للدلالة على الكسرة ، و نقطة على شماله للدلالة على الضمة ، و نقطتين فوقه أو تحته أو عن شماله للدلالة على التنوين ، و ترك الحرف الساكن خاليا من النقط ، إلا أن هذا الضبط لم يكن يستعمل إلا في المصحف ، و في القرن الثاني الهجري وضع الخليل بن أحمد طريقة أخرى ، بان جعل للفتحة ألفا صغيرة مضطجعة فوق الحرف ، و للكسرة ياء صغيرة تحته ، و للضمة واو صغيرة فوقه ، وكان يكرر الحرف في حالة التنوين ، ثم تطورت هذه الطريقة إلى ما هو شائع اليوم.
لكن هذا التطور فتح على نفسه صراعا على اعتبار ان اللغة العربية تواجه العديد من صور التحدي التي فرضتها عوامل العولمة ، و الثورة المعلوماتية و الانفجار المعرفي و التقدم الهائل في تقنيات المعلومات و الاتصالات و ما يتبعها من تغيير طال كل مجالات الحياة مما ادى إلى تقارب المسافات و تلاشي  الحدود بين الدول و القارات.
    و لقد قال مدير جامعة الحدود الشمالية السعودي الدكتور سعيد عمر آل عمر أن اللغة العربية في واقع الأمر من أكثر اللغات انتشارا في العالم ، فقد كانت لغة للعلم و الأدب و لغة للسياسة لقرون طويلة في جميع البلاد التي فتحها و حكمها المسلمون ، و لقد أثرت على كثير من اللغات الأخرى في العالم ،فقد كانت اللغة العربية قوية بقوة المسلمين ، مؤثرة بقدر تأثيرهم في غيرهم (5).


إن هذا التأثير للغة العربية على باقي اللغات هو ما جعلها تبحث لها عن مكانة دائمة من أجل البقاء في محاولة منها لصد كل محاولة لأجل اندثارها أو تراجع مكانتها و لكن يبقى الصراع قائما بل وصعبا في ظل هيمنة العولمة بتكنولوجية حديثة في وسائل الاتصال و التواصل ، ما يجعل رهان البقاء هو مكسب اللغة العربية الأول و الأخير.
المطلب الثاني : اللغة العربية و صراعات العصر
    أصبحت العولمة في العصر الحاضر اتجاها سائدا تتحرك في ضوئها جميع ديناميكيات هذا العصر بشتى مجالاتها بدون استثناء ، و أصبح كل ما ينشغل به إنسان العصر ممن يريد التطور و التقدم سعيا إلى مواجهة تحدياتها و تلبية متطلباتها ، و يقاس التطور و التقدم في ضوء ذلك على مدى القدرة على تلبية متطلبات العولمة (6).
و رغم أن العولمة كانت في البداية تعني عولمة اقتصادية تمثلت في عولمة الاقتصاد الرأسمالي ، إلا أن الحديث عنها بدأ يتوقف  من منظور ثقافي ، لن العولمة الثقافية تركت آثارا بالغة الوضوح مما أثر على حياة البشر في سلوكاتهم  و ميولاتهم و طريقة تواصلهم ليتم الاكتفاء بالحديث بواسطة أجهزة الحواسيب و الهواتف الذكية ، و هذا ما جعل لغة التخاطب تقل يوميا ليكتفي المتحدثون بإرسال رسائل قصيرة و سريعة تفي بغرض طلب الخدمة آو التهنئة بمناسبة ما أو قضاء حاجات و على جناح السرعة ، حتى قراءة الكتب بدأت تقل ظاهرتها وسط منافسة التكنولوجيا الآلية و  المطالعة المكسبة للمعرفة و المعلومات و كل متطلبات التعلم .
    و لعل أبرز أشكال التحول  الثقافي التي يشهدها العصر الحاضر هي العولمة ، فالعولمة – من ناحية- فتحت بابا ووفرت جميع الوسائل لكل لغة لتجد سبيلها إلى خوض التواصل الدولي ، و لكنها من ناحية أخرى قد أدت إلى ما يمكن إطلاق عليه مصطلح " أزمة الهوية اللغوية " ، حيث أن أبناء هذا
العصر لم يعودوا يعيشون اللغة التي تنتمي إليها ثقافتهم و أرضهم و إنما تنتمي هويتهم اللغوية إلى اللغة المهيمنة في التواصل الدولي ، فكما اختفت هويتهم الثقافية اختفت هويتهم اللغوية ( 7).
و عليه ، فان اللغة العربية تعد أكثر من يعاني هذه الأزمة في ظل هيمنة العولمة ، حتى أن البعض يشرح ظاهرة العولمة أنها جاءت بكل ما تحتاج إليه هذه اللغة شرط الحفاظ على أساسيات اللغة و مقوماتها ، غير أن البعض الآخر يرى ما يخالف ذلك في أن اللغة العربية بدأت تنعزل داخل أراضيها و خارجها حتى أنها أصبحت منسية لدى الناطقين بها و الناطقين بغيرها ، و أن الانتماء لهذه اللغة  و المتمثل في الرغبة في تعلمها و استخدامها بدأ ينقص شيئا فشيئا و ذلك لأسباب ليست خارجية فقط و إنما بسبب سيطرة اللغة الأجنبية و استيلائها و كذا غياب المنهج اللغوي و السياسة اللغوية لدعم هذه اللغة.

المبحث الثاني: متطلبات النهضة للغة العربية
لقد كانت اللغة العربية في العصر الجاهلي هادئة مطمئنة مستقرة في أصحابها صوتا و صرفا ونحوا و دلالة ، مع فروقات بسيطة من قبيلة إلى قبيلة تؤدي وظيفتها عندهم بيسر و سهولة من غير عناء أو صعوبة ، لأنها ورثت هكذا و سمعت هكذا (8).
    فإذا كانت اللغات هي وعاء الفكر الإنساني ، فان الأمة العربية هي أكثر الأمم حظا في النطق باللغة العربية ، لأن لغتها هي لغة الكتاب الخالد و المنزل من السماء ، و هو القرآن الكريم ، و هو كتاب به إعجاز في أسلوبه و بيانه ، بالإضافة إلى إعجازه في تشريعه و إعلامنا بالحقائق العلمية ، ما جعل اللغة العربية تحوز على مكانة مرموقة وسط جمع من اللغات الأخرى (9).
و قد شعر المسلمون جميعا بأهمية هذه اللغة (10) ، و نهض العرب و الأعاجم معا لخدمتها بعد الإسلام ، و لقد  برع الكثير من الأعاجم في التقعيد لعلوم هذه اللغة النحوية و الصرفية و البلاغية إلى جانب إخوانهم العرب ، و ذلك من أمثال : ابن المقفع ( ت 143 هـ) و سيبويه ( ت 180 هـ) و أبي عبيدة معمر بن المثنى ( ت 208 هـ) و الجاحظ ( ت 255 هـ) و بن قتيبة ( ت 276 هـ) و ابن جني (ت 392هـ ) و عبد القادر الجرجاني (ت 471 هـ) و الزمخشري (ت 537 هـ) و السكاكي ( ت 606 هـ) ، و غيرهم من العباقرة الأفذاذ ، و قد كان مما عني به هؤلاء السابقون هو صفاء اللغة ، و نفي الغش و الزعل عن مفرداتها ،فهي لآلىء لا ينبغي أن تختلط بالحصى و التراب ، يقول أبو العلاء المعري في هذا السياق:
من الناس من لفظه لؤلؤ        يبادره اللقط اذ يلقط
و بعضهم قوله كالحصى       يقال فيلغى و لا يحفظ
فهل وجدت اللغة العربية حماية لصفائها عبر متطلبات نهضة أكيدة و جادة؟
المطلب الأول : اللغة العربية أساس النهضة
     اللغة ام التفكير ، و ما كان للمعرفة أن تأتي إلى حيز الوجود من دون اللغة ، و هي في الوقت نفسه على صلة وثيقة بالحياة العاطفية للإنسان بأحاسيسه و انفعالاته ، فالإنسان لا يستخدم اللغة للتعبير عن شيء معين آو فكرة محددة فقط و لكنها على صلة وطيدة بالحياة الفكرية و العاطفية و الاجتماعية لهذه الشعوب، أفرادا و جماعات ، و بالتالي فان لها آثارا عميقة في السلوك الإنساني بمختلف أشكاله و أنواعه (10).
    و بالتالي ، فان اللغات الأجنبية المفروضة كلغات رسمية ووطنية في بلداننا الإسلامية  هي أقرب إلى التعبير عن جوانب الحياة الثقافية ( الروحية و المعيشية) للشعوب المسلمة من اللغة العربية المقدسة لدى الشارع الإسلامي و الذي ظل يتعلمها و يحافظ عليها بمجهوده الخاص عبر القرون متحديا بذلك كل الحواجز و المعوقات الموضوعة في طريقها من حكام المسلمين في الداخل بأوامر و إيحاءات من ولاة أمورهم في الخارج (11).
و الناظر و المتأمل و الناطق للغة العربية يجدها من اللغات النامية و السبب يعود إلى أن أصولها تقترب إلى أعماق التاريخ حتى نزول القرآن الكريم " بلسان عربي مبين" ، و هذا  الكتاب المنزل من السماء بهذه اللغة هو محفوظ ، قال تعالى " إنا نحن نزلنا الذكرى و إنا له لحافظون " ، لذلك عندما نتكلم عن اللغة العربية بوصفها أساسا للنهضة عند العرب المعاصرين ، فان هذا الكلام لا ينطلق من منطلق عاطفي ، و إنما من منطلق السرد لإمكانياتها الذاتية و خصائصها المعرفية التي تميزها عن غيرها من اللغات.
    و عندما نتكلم عن الثقافة فإننا نتكلم بطبيعة الأمر عن مكوناتها الرئيسية التي تشكل الهوية و تصنع الشخصية المستقلة للأمة ، و تضع الأهداف الكبرى لها و ترسخ الوعي لدى الفرد بوصفه مكونا من مكونات المجتمع الكبير و تشبع أكبر بقدر ممكن من أسباب التماسك و التمازج بين أفرادها ، و تحقق أكبر قدر ممكن في الرؤية و الهدف ، و تساعد على حشد الطاقات و تسهيل الصلات و إقامة العلاقات التي من شأنها تقدم للأمة رقيها (12).
ربما حان الوقت لمراجعة المواقف اللغوية لنا كعرب و إعادة برامج السياسات التربوية و الثقافية إن كنا فعلا نريدها نهضة حقيقية لعقولنا أولا و لحضارتنا ثانيا ، لأن تحضر العقول هو الدافع لحضارة الشعوب بترسيخ احترام اللغة العربية في معاملاتنا و الاعتماد على تراثنا اللغوي المتعدد في اغناء حياتنا المعاصرة بفنون العلوم و المعارف عن طريق الترجمة  و التعليم بهذه اللغة ، حتى تنشأ النهضة بأساس يشبع فينا قوة الإحساس إلى ضرورة الارتفاع و التألق إلى مصاف الأمم المتقدمة و المتطورة ، لأن فوارق التقدم هي في العلم و مدى التمسك بالهوية و المبادئ و القيم ، أفضل من أن نصبح سماسرة للغرب في تقدمه و فنونه و أفكاره و توجهه بإتباع طاحونة التقليد الأعمى لكل شيء يبدو لنا حضارة و تقدم و هو في حقيقة الأمر لا يخدم لا لغتنا و لا هويتنا و لا انتمائنا.
و عليه كلما كان توظيف اللغة العربية في كافة المجالات منطلقا أساسيا للنهضة ، كلما أثرينا معارفنا و مداركنا و حافظنا على أصلنا الحقيقي كعرب  و كمسلمين.
المطلب الثاني : مستقبل اللغة العربية و ثوابت المنافسة التنموية
يجمع الكتاب خلاصات دراسة 13 ميدانية عينية مباشرة تتعلق بمختلف جوانب الأزمة التي تضطرب  بها مجالات اللغة العربية و أحوالها في الوطن العربي ، و قد استندت الدراسة إلى تسعة استطلاعات
 للرأي اشتملت في مجملها على 265 سؤال تم تنفيذها في 11 دولة عربية هي: مصر ، السعودية ، المغرب ، موريتانيا ، تونس ، سورية ، فلسطين ، لبنان ، قطر، الأردن ،اليمن ، و قد عاينت الاستطلاعات المعنية فئات ثقافية و مهنية و اجتماعية مختلفة ضمت طلابا من مختلف المراحل التعليمية و إعلاميين في المنابر المقروءة  و المسموعة ، علاوة على مبدعين من مختلف الأجيال و أعضاء من مجامع اللغة العربية و أساتذة اللغة العربية في المدارس و الجامعات فضلا عن شرائح شبابية مختلفة و نماذج مهتمة من عموم المواطنين العرب ، و قد أسفرت القراءات البانورامية التحليلية لنتائج الاستطلاعات عن استخلاص مجموعة من الدلائل الكمية و النوعية سمحت بتشخيص الأزمة التي تعاني منها مجالات لغتنا العربية ، و عن وضع رؤية علمية مستقبلية تضمنت رزمة من الاقتراحات و الإصلاحات الآيلة للنهوض بها .
و من جهة أخرى ، فقد قامت بعض الهيئات العربية (14) التي تهتم بالدراسات اللغوية بدراسات عن اللغات التي تتصف بصفات القوة التي تجعلها تقاوم الفناء و الاندثار و الاضمحلال.
و خلصت هذه الدراسات إلى اختبار رست لغات يرجح أن يكتب لها البقاء مستقبلا ، من هذه اللغات اللغة العربية ، و لكنهم لم يعدوا العربية في مقدمة هذه اللغات.
ومع التحفظ على نتائج هذه الدراسة فإننا نجزم بان اللغة العربية تتميز بما لا تتميز به أي لغة أخرى ، و هذا ما يقر به الغربيون أيضا ، و الفضل ما شهدت به الأعداء ،  فهذا المستشرق الغربي الفرنسي (رينان) - و هو معروف بتعصبه الشديد و بغضه للعرب – يقول: أن هذه اللغة تميزت بالنصح من أول ظهور لها و حتى الآن ، فلا يعرف لها طفولة ، و لا يعرف لها شيخوخة ، برغم أنها ظهرت وسط أقوام متفوقين بدو مرتحلين ليست لهم دولة و لا مدينة و لا حاضرة متحضرة.
حقيقة لا ينكرها أحد أن اللغة العربية لغة قوية ، و ضع الله عز وجل فيها كل مقومات البقاء ، فحري أن نفتخر بهذا المكسب الثري مهما كره الجاحدون أو أنكرها الغيورون من هذا الميراث الكبير.
يبقى  لأجل المحافظة على هذا المكسب استظهار المنافسة على الثوابت بطريقة تنموية تجدد للغة بريق صيتها و حلاوة نطقها و زخم كنزها التاريخي بدءا من اعتبارها لغة القرآن ووصولا من كونها لغة غنية و بحر شاسع من المفردات ليست تنافسها في هذا المكسب أي لغة أخرى ، و عليه لا بد من الحرص على الحفاظ عليها من أساليب التغريب المستحدثة و المضللة ، و يجب أن لا ننسى أن نهضتنا قامت على دعامتين هما العروبة و الإسلام ، حيث كانت اللغة العربية هي الأداة التي عبرت بها هذه القوة الحضارية عن نفسها ، في حين كان الإسلام هو القوة الروحية التي أكسبتها شخصيتها و مثلها و فلسفتها و نظرتها للحياة.
و يجب الافتخار دوما أن اللغة العربية هي أهم عوامل الترابط القومي بين أبناء الأمة الواحدة ، من خلال الاهتمام بالملامح القومية لأي أمة..
إن اللغة العربية هي تراث ضخم جعل منها حضارة أولى في العالم و ستبقى كذلك في المستقبل و يجب أن لا يأفل نجمها أمام محاولة الحملة المغرضة عليها حيث تسعى اللهجات و اللغات العامية لان تحل محلها ، و هذه الحملة ضد اللغة العربية ليست على أنها لغة بل كونها تمثل لغة القرآن و الإسلام و الحضارة ، حضارة المسلمين أينما كانوا و حيثما وجدوا حيث يقول العقاد ( 15) في هذا الشأن " إن الحملة على اللغة في الأقطار الأخرى إنما هي حملة على لسانها أو على أدبها و ثمرات تفكيرها على ابعد احتمال ، و لكن الحملة على لغتنا نحن حملة على كل شيء يعنينا و على كل تقليد من تقاليدنا الاجتماعية

و الدينية و على اللسان و الفكر في ضربة واحدة ، لأن زوال اللغة في أكثر من الأمم يبقيها بجميع مقوماتها غير ألفاظها و لكن زوال العربية لا يبقي للعربي أم المسلم قواما يميزه عن سائر الأقوام.
فلنحافظ على لغتنا ، على كنزنا ، على هويتنا و لا نمنح فرصة لمن يكيد لهذه اللغة من قريب آو من بعيد لأن عزتنا من لغتنا و بغير لغتنا ليس لنا أي انتماء واضح ....دامت العربية لغة حية و في الريادة دائما .
خاتمة :
نصل في ختام البحث إلى الإقرار بحقيقة لا يمكن تجاهلها أو التغافل عنها و هي ضرورة الحفاظ على المكسب اللغوي بحلية العربية ، بعد تأملات طويلة التحليل في تاريخها و غناها في مفرداتها و معاني كلماتها و هذه جملة من الاقتراحات للحفاظ عليها :
*إن حفظ اللغة و ضمان استمراريتها يكون بقدر محافظتنا عليها كأفراد ناطقين بها ، و عدم إدراك هذا الأمر سيكون سببا مباشرا لانقراض كثير من اللغات و اللهجات في العالم ، و بالتالي بانقراض تلك اللغات تتلاشى  معرفتنا بشعوبها و أقوامها و ثقافتها .
*إن اعتبار اللغة العربية لغة رسمية هو حرص الشعوب الناطقة بها على استمراريتها ، إذ لا يمكن التنازل عن التخاطب بها حتى لو كانت على دراية بلغات أخرى.
*إن استقطاب السياح و إقامة الملايين من الأجانب في الدولة الناطقة باللغة العربية ليس معناه التنازل بكل بساطة عن اللغة العربية ، و لا يعني إلغاء جزء من الهوية و لا يعني تخطي الموروثات
*إن المحافظة على المضامين الثقافية باللغة العربية لا يجدر التنازل أو التفريط فيها في وقت تكون الشعوب في أحوج ما تكون إليه أن تحافظ على هويتها و مبادئها.


*يجب عقد ندوات و مؤتمرات وطنية و دولية للتذكير بأهمية اللغة العربية ، و عدم التفريط في إدخالها في الاستعمال و التخاطب بها كلاميا و كتابيا في الإدارات و المرافق العمومية و التأكيد على أساس التعامل الموحد بينها.
*على كل فرد عربي أن يحرص كل الحرص أن يكون سفيرا للغة العربية و يمثلها أحسن تمثيل في الخارج و الافتخار بالتكلم بها و عدم الشعور بالدونية في محاولة منه للنطق بلغة البلد المستقبل له ، و  من هنا تتعزز لدى كل فرد مشاعر الافتخار و التباهي بأقدس لغة ، لغة القرآن الكريم.
*لتكن لغة الضاد من المهد إلى اللحد ، و يجب أن نعض عليها بالنواجذ و العمل على تعليمها لأبنائنا و ألا يغرنا بريق لغات أخرى ، فما كل ما يلمع ذهبا ، فلنحسن الحفاظ على لغتنا و لا نقبل باستبدالها بأي لغة حتى لو كانت لغة عالمية و ذائعة الصيت.
 

قائمة المراجع :
1-الدكتور أحمد بن نعمان : وجها لوجه ، حوارات و مقابلات ، شركة دار الأمة للطباعة و الترجمة و النشر و التوزيع ، الطبعة الأولى ، ماي 1998 ، ص 5.
2-تاريخ اللغة العربية ، ويكيبيديا الموسوعة الحرة .
3-الدكتور احمد بن نعمان : المرجع السابق ، ص 13.
4-ملخص بحث اللغة العربية: نشأتها و تطورها ، إعداد الطلبة : حسن بوربورة ، بلقاسم بومدين بهناس ، جامعة زيان عاشور ، كلية الآداب و اللغات و العلوم الاجتماعية و الإنسانية ، قسم العلوم الإنسانية –الجلفة- الجزائر.
5-اللغة العربية تخوض "حرب بقاء " في مواجهة تحديات العولمة ، صحيفة الأهرام الرقمي على الرابط التالي:
Ahramonline.org.rg/community.aspx ؟serial =865272
6-الدكتور نصر الدين إدريس جوهر :تعليم اللغة العربية في ضوء مواجهات تحديات العولمة و تلبية متطلباتها ، منهجا و سياسة ، محاضرة ألقيت في كلية الآداب ، جامعة أمبيل الإسلامية الحكومية ، اندونيسيا.
7-الدكتور  نصر الدين إدريس جوهر: المرجع السابق.

8-الدكتور محمود حسني مغالسة: صمود العربية أمام التحديات ، الجامعة الأردنية.
9-الدكتور محمد رفعت زنجير: التحديات التي تواجه اللغة العربية في العصر الحديث ، جامعة عجمان للعلوم و التكنولوجيا ، كلية التربية و العلوم الإنسانية –أبو ظبي-.
www.attarikh-alarabi.ma/html/adad25 partie 16.htm
10-الدكتور عبد الكريم خليفة : اللغة العربية أساس نهضة أمتنا ووحدتها ، مجمع اللغة العربية الأردني the jordan academy of arabic
11- الدكتور احمد بن نعمان : المرجع السابق ، ص 38.
12-أحمد بن محمد : اللغة العربية لغة النهضة ، كتاب العربي ، العدد 72-4/2008 ، الكويت.
13-لننهض بلغتنا : مشروع لاستشراف مستقبل اللغة العربية لمجموعة باحثين و باشراف الدكتور رياض قاسم ، موقع مؤسسة الفكر العربي :
Arabthought.org/ar/
14-وليد سميح عبد العال : العربية لغة المستقبل
www.alukah.net/literature_language/0/41477

15-الدكتور السيد خضر : ثقافة الاعتزاز بالعربية في عصر العولمة ، على موقع شبكة ضياء :
Diae.net/15484


التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية