الضمير في القرآن الكريم
د. مناهل عبد الرحمن الفضل
المقصود بالضمير لدى اللغويين والنحاة هو ما وضع لمتكلم أو مخاطب أو غائب تقدم ذكره لفظاً أو معنى أو حكماً
فالضمير من الأدوات الرابطة لأجزاء النص، يقوم مقام اللفظ الظاهر، فيُغني عن تكراره، ويصل الجُمَل بعضها ببعض، ويحيل ما هو لاحق على ما هو سابق، فيربط آخر الكلام بأوله.
والقرآن الكريم جاء على سَنَن العرب في نظم الكلام، فاستعمل الضمير بحسب لسانهم. وفيما يلي نقف على استعمال (الضمير) في القرآن، مبينين أغراضه، وقواعده، وأنواعه، ممثلين لكل ذلك من آيات الذكر الحكيم.
الغرض من استعمال الضمير:
إنما أتى بالمضمرات لأغراض :
أ/ للاختصار – وهو أصل وصفها – ولهذا قام قوله تعالى: }أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً { ، مقام خمسة وعشرين لو أتى بها مظهرة .
وكذلك قوله تعالى : }وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن { فقد نقل ابن عطية عن مكي أنه ليس في كتاب الله آية اشتملت على ضمائر أكثر منها ، وهي مشتملة على خمسة وعشرين ضميراً ، وفي آية الكرسي من سورة البقرة أحد وعشرون اسماً ما بين ضمير وظاهر .
ب/ للفخامة بشأن صاحبه ، حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه ، ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته ، كقوله تعالى : }إنا أنزلناه في ليلة القدر { ، يعني القرآن .
ج/ ومنها كذلك التحقير ، كقوله تعالى :} إنه لكم عدو مبين { ، يعني الشيطان ، وقوله تعالى:} إنه ظنّ أن لن يحور {، كذلك إنما أتي بالمضمرات احترازاً من الإلباس ، ذلك أن الأسماء الظاهرة كثيرة فإذا قلت : زيد فعل زيد ، جاز أن يتوهم في ( زيد ) الثاني أنه غير الأول ، وليس للأسماء الظاهرة أحوال تفترق بها إذا التبست ، وإنما يزيل الالتباس منها – في كثير من أحوالها – الصفات ، كقولك : مررت بزيد الطويل ، والمضمرات لا لبس فيها فاستغنت عن الصفات لأن الأحوال المقترنة بها قد تغني عن الصفات .
والأحوال المقترنة بها حضور المتكلم والمخاطب والمشاهدة لهما وتقدم ذكر الغائب الذي يصير به بمنزلة الحاضر المشاهد في الحكم ، فأعرف المضمرات المتكلم لأنه لا يوهمك غيره ، ثم المخاطب فهو تلو المتكلم في الحضور والمشاهدة ، ثم الغائب ، وهي جميعها مبنية .
قواعد استعمال الضمير:
استعمال الضمير في كلام العرب يخضع لقواعد لا بد من مراعاتها واعتبارها، وهي على النحو التالي:
أحدها – وهو الأصل – أن يعود إلى شيء سبق ذكره في اللفظ بالمطابقة نحو قوله تعالى : ( وعصى آدم ربه فغوى ) ، ونحو : ( يستمعون القرآن فلما حضروه ) .
الثاني : أن يعود على مذكور في سياق الكلام ، مؤخر في اللفظ مقدم في النية ، كقوله تعالى : ( فأوجس في نفسه خِيفة موسى ) ، فـ( خيفة ) مفعول لأوجس ، وأصل خيفة : خوفة ، ثم أبدل من الواو ياء وكسر ما قبلها ليصلح بناء فِعلة ، وإنما خاف موسى أن يفتتن الناس ، وقيل لما أبطأ عليه الوحي بإلقاء عصاه خاف ، وقيل بل غلب عليه طبع البشرية عند معاينة ما لم يعتده .
الثالث : أن يدل اللفظ على صاحب الضمير بالتضمن ، كقوله تعالى: (اعدلوا هو أقرب للتقوى ) ، فإنه عائد على ( العدل ) المفهوم من (اعدلوا).
ومثل ذلك قوله تعالى: ( وإذا حضر القسمة ) إلى قوله : ( فارزقوهم منه ) أي المقسوم ، لدلالة القسمة عليه ، ويحتمل أن يعود على ما تركه الوالدان والأقربون ، لأنه مذكور وإن كان بعيداً .
الرابع : أن يدل عليه بالالتزام ، كإضمار النفس في قوله تعالى : ( فلولا إذا بلغت الحلقوم ) ، وقوله : ( كلا إذا بلغت التراقي ) ، حيث أضمر النفس لدلالة ذكر الحلقوم والتراقي عليها .
ومثل ذلك قوله تعالى أيضاً : ( حتى توارت بالحجاب ) يعني الشمس ، وكذا قوله : ( فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا ) ، فالضمير هنا لمكان الإغارة بدلالة ( والعاديات ) عليه ، فهذه الأفعال إنما تكون لمكان .
الخامس : أن يدل عليه السياق فيضمر ، ثقة بفهم السامع كإضمار الأرض في قوله تعالى : ( ما ترك على ظهرها من دابة ) وقوله: ( كل مَن عليها فان ).
وقد جعل ابن مالك الضمير للدنيا ،وقال : وإن لم يتقدم لها ذكر، لكن تقدم ذكر بعضها ،والبعض يدل على الكل .
وأما قوله تعالى: ( مستكبرين به سامراً تهجرون ) فإنه يعني القرآن ، أو المسجد الحرام ، ومثل ذلك قوله تعالى: ( ولأبويه لكل واحد منهما السدّس ) ، فإن الضمير يعود إلى الميت ، وإن لم يتقدم له ذكر ، إلا أنه لما قال : ( يوصيكم الله في أولادكم ) ، عُلِم أن ثَم ميتاً يعود الضمير عليه ، لأن المعنى : يوصي الله الميت قبل موته بأن عليه لأبويه كذا ولولده كذا ، أي فلا يأخذن إلا ماله .
وقد يعود الضمير على الصاحب المسكوت عنه لاستحضاره بالمذكور وعدم صلاحيته له ، كقوله تعالى : ( إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان ) ، فقد أعاد الضمير للأيدي لأنها تصاحب الأعناق في الأغلال ، وقد أغنى ذكر الأغلال عن ذكرها .
وقد يعود الضمير على بعض ما تقدم ، كقوله تعالى : ( فإن كُنّ نساء ) بعد قوله : ( يوصيكم الله في أولادكم ) ، وقوله : ( وبعولتهن أحقُّ بردهن ) ، فإنه عائد على المطلقات ، مع أن هذا خاص بالرجعى .
وقد يعود على المعنى ، كقوله تعالى في آية الكلالة : ( فإن كانتا اثنتين ) ، ولم يتقدم لفظ مثنى يعود عليه الضمير من ( كانتا ) ، قال الأخفش : ( إنما يثنى لأن الكلام لم يقع على الواحد والاثنين والجمع ، فثنى الضمير الراجع إليها حملاً على المعنى ، كما يعود الضمير جمعاً في ( مَنْ ) حملاً على معناها .
السادس : ألا يعود على مذكور ، ولا معلوم بالسياق أو غيره وهو الضمير المجهول الذي يلزمه التفسير بجملة أو مفرد ، فالمفرد في ( نعم وبئس ) ، والجملة ضمير الشأن والقصة نحو : هو زيد منطلق ، وكقوله تعالى : ( قل هو الله أحد ) ، أي الشأن الله أحد ، ومثل ذلك : ( لكنّا هو الله ربي ) .
وقد يكون مؤنثاً إذا كان عائده مؤنثاً ، كقوله تعالى : ( إنْ هي إلا حياتُنا الدنيا ) ، فأما قوله تعالى : ( إنه مَنْ يأتِ ربَّه مجرماً فإنّ له جهنم ) ، فقد ذكر الضمير مع اشتمال الجملة على ( جهنم ) وهي مؤنثة ، لأنها في حكم الفضلة ، إذ المعنى : مَنْ يأتِ ربه مجرماً يُجزّ جهنم .
وقد يعود الضمير على لفظ شيء ، والمراد به الجنس من ذلك الشيء ، كقوله تعالى : ( وأُتوا به متشابهاً ) ، فإن الضمير في (به) يرجع إلى المرزوق في الدارين جميعاً ، لأن قوله ( هذا الذي رُزِقنا من قبلُ ) مشتمل على ذكر ما رزقوه في الدارين .
كما أنه قد يذكر شيئان ويعود الضمير إلى أحدهما ، ثم الغالب كونه للثاني ، كقوله تعالى : ( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة ) ، فقد عاد الضمير إلى الصلاة لأنها أقرب .
ومثل ذلك قوله تعالى : ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدّره منازل ) ، والأصل – والله أعلم – ( قدرها ) لكن اكتفى برجوع الضمير للقمر لوجهين : قربه من الضمير ، وكونه هو الذي يُعلّم به الشهور ، ويكون به حسابها .
ومثل ذلك أيضاً قوله عزّ وجل : ( والله ورسوله أحق أن يرضوه ) ، أراد : يرضوهما : فخص الرسول بالعائد ، لأنه هو داعي العباد إلى الله ، وحجته عليهم ، والمخاطب لهم شفاهاً بأمره ونهيه ، وذكر الله تعالى في الآية تعظيماً ، والمعنى تام بذكر الرسول وحده ، ومثله قوله تعالى : ( وإذا دُعُوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ) ، فذكر الله تعظيماً ، والمعنى تام بذكر رسوله .
كذلك إذا اجتمع ضمائر ، فحيث أمكن عودها لواحد فهو أولى من عودها لمختلف ، ولهذا لما جوز بعضهم في قوله تعالى : ( أنِ اقذفيه في التابوت ) أن الضمير في ( فاقذفيه في اليمِّ ) ، للتابوت وما بعده ، وما قبله لموسى عابه الزمخشري ، وجعله تنافراً ومخرجاً للقرآن عن إعجازه ، فقال : ( والضمائر كلها راجعة إلى موسى ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لما يؤدي إليه من تنافر النظم .
فإن قلت : المقذوف في البحر هو التابوت وكذلك الملقى إلى الساحر ، قلت : ما ضرت لو جعلت المقذوف والملقى إلى الساحل هو موسى في جوف التابوت ، حتى لا تفرق الضمائر فيتنافر عليك النظم الذي هو قوام إعجاز القرآن
وقال - أعني الزمخشري – في قوله تعالى : ( لِتؤمنوا باللهِ ورسوله وتُعزّرُوه وتُوقِّروه وتُسبحوه ) : الضمائر لله عز وجل ، والمراد بتعزيز الله تعزيز دينه ورسوله ، ومَنْ فرق الضمائر فقد أبعد .
أنواع الضمير:
الضمير ثلاثة أنواع:
الأول: الضمير المتصل: وهو الضمير المتصل بالاسم، كالضمير المفرد المذكر والمؤنث، والمثنى والجمع. والأمثلة عليه ما تقدم.
الثاني: الضمير المنفصل: هو ضمير بصيغة المرفوع، مطابق لما قبله تكلماً وخطاباً وغيبة إفراداً وجمعاً، يقع بعد مبتدأ، أو ما أصله المبتدأ، وقبل خبر كذلك، نحو قوله تعالى : ( قال هي عصاي أتوكأُ عليها وأهشُّ بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى ) ، ومثل ذلك قوله تعالى : ( فإنما هي زجرةٌ واحدة ) ، فقد ذهب أبو حيان في تفسير هذه الآية أنه لما تقدم ( ائنا لمردودون ) فقد تضمن قولهم استبعاد النشأة الثانية واستصعاب أمرها فجاء قوله( فإنما ) مراعاة لما دلّ عليه استبعادهم فكأنه قيل ليس بصعب ما تقولون فإنما هي نفخة واحدة فإذا هم منشورون أحياء على وجه الأرض ، فـ( هي ): ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ ، و( زجرة ) : خبر المبتدأ .
ومثل ذلك قوله تعالى : ( نحن خلقناكم فلولا تصدقون ) ، وقوله : ( أأنتم أشدُّ خلقاً أم السماء بناها ) ، والأمثلة كثيرة في القرآن.
الثالث: ضمير الشأن: ويسمى ضمير المجهول ، وهو ضمير ليس كالضمائر بل يخالفها في كونه لا يعطف عليه ، ولا يبدل منه ، ولا يؤكد ، ولا يتقدم خبره عليه ، ولا يفسر إلا بجملة اسمية خبرية ، ولا يقوم الظاهر مقامه ، وجملته المفسرة لها موضع من الإعراب ، وهو ضمير يلزم الإفراد والغيبة ، نحو قوله تعالى : ( قل هو الله أحد ).
والفرق بين هذا الضمير- أعني ضمير الشأن والقصة – وبين ضمير الفصل ، أن الفصل يكون على لفظ الغائب والمتكلم والمخاطب ، قال تعالى : ( هذا هو الحقّ ) ، ويسميه البصريون فصلاً كأنه فصل الاسم الأول عما بعده وآذن بتمامه وإن لم يبق منه بقية من نعت ولا بدل إلا الخبر ، والكوفيون عماداً كأنه عمد الاسم الأول وقواه بتحقيق الخبر بعده ، ويفيد ضرباً من التأكيد ، وذلك نحو قوله تعالى : ( يا آدمُ اسكن أنت وزوجك الجنة ) ، لذلك وجب أن يكون ضمير الفصل هو الأول في المعنى ، لأن التأكيد هو المؤكد في المعنى ولهذا المعنى يسميه سيبويه وصفاً كما يسمي التأكيد المحض ، ويكون له محل من الإعراب ، من ذلك قوله تعالى : ( إنّ شانِئَك هو الأبتر ) .
أما ضمير الشأن – كما ذكرنا سابقاً - فإنه لا يكون إلا غائباً ويكون مرفوع المحل ومنصوبة وتكون الجملة خبراً عنه ومفسرة له .
والذي يجب أن نعلمه أنه قد يسد مسد الضمير أمور :
منها الإشارة كما في قوله تعالى : ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ) .
ومنها الألف واللام ، كقوله تعالى : ( نُجِبْ دعوتك ونتبع الرسل ) ، أي رسلك .
ومنها الاسم الظاهر ، بأن يكون المقام يقتضي الإضمار فيعدل عنه إلى الظاهر ، من ذلك قوله تعالى : ( مَن كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدوٌّ للكافرين ) ، فقوله : ( عدوٌّ للكافرين ) : وضع الظاهر موضع المضمر ، لأن الأصل : مَن كان عدواً لله وملائكته فإن الله عدو له ، وله في القرآن نظائر كثيرة .
هذه جملة من أحكام الضمير والغرض منه وأنواعه، مع التمثيل لها من الآيات القرآنية.
|