الهند في مسار التنمية المستدامة العالمية

أ. كاشف جمال



تعتبر الهند بلدة التعددية العرقية والدينية واللغوية على مستوى العالم حيث يتوزعون سكانها في انتماءاتهم العرقية بين الآريين واليونانيين والمغول والشعوب المنحدرة من وسط آسيا، بالاضافة الى من يعودون بأصولهم إلى العرب والترك والأفغان وغيرهم.

على مستوى اللغات، فإن الهند تزخر بعدد كبير من الألسن واللغات يتجاوز 400 لغة منطوقة، من بينها 24 لغة لا يقل عدد المتحدثين بكل منها عن مليون نسمة، مثل اللغة البنجالية التي يتحدث بها حوالي %8 من السكان، والتلجو، والمارثية،والبنجابية، والتاملية، والأردية، والكانادية، وماليالم، والكشميرية، والآسامية، والأورايا بالاضافة الى اللغة الانجليزية. بينما تتبوأ اللغة الهندية مكانة اللغة الوطنية الرسمية يتكلمها أكثر من %40 من السكان، في حين تعتبر الانجليزية لغة رسمية ثانية.

وأما المشهد الديني فهو يتميز بالتعدد والاختلاف، بحيث تضم الهند جميع الديانات الكبرى المتواجدة في العالم مثل الإسلام،والمسيحية والهندوسية والبوذية والسيخية وغيرها.ونظرا الى هذا التنوع والتعدد على كل المستويات، فالحاجة ماسة الى الخطط التي تحتاج الهند اليها في مسار التنمية في مكافحة الكثير من الأمراض الكائنة في المجتمع والمؤدية الى التخلف مثلا الفقر والأمية والبطالة وعدم التوازن التنموي بين الجهات، إضافة الى الحرمان والتفاوت الطبقى على المستويين الاجتماعي والاقتصادي في اطار التعدد اللغوي والثقافي؟ وفي الوقت الذي سقطت الحدود والمسافات وتحول العالم إلى قرية كونية صغيرة بفضل الثورة الاتصالية التي تعد من مظاهر العولمة ، فازدادت الحاجة الى المواطنة العالمية للقضاء على جميع المعوقات في سبيل التنمية المستدامة وجعل العالم مكانا أفضل للأجيال المتعاقبة.

دور التعددية اللغوية والتنوع الثقافي في تحقيق التنمية المستدامة العالمية

تتطلب التنمية المستدامة الشراكة العالمية التي يجب أن تمثل كل دولة من دول العالم بدون أي تمييز عرقي أو لغوي أو ديني أو ثقافي. فمفهوم التنمية المستدامة تلبية الحاجات الملحة الحالية دون التفريط في الحاجات المستقبلية استنادا الى منطق التوزيع العادل للثروات وتحسين الخدمات ومناخ الحريات والحقوق بتوازن كامل. وهذه كلها لا تتحقق إلا من خلال التواصل. وبالتالي يجب أن يكون هذا التواصل بأكثرمن لغة واحدة وثقافة محددة،

وعلى العكس من ذلك التقوقع في اللغة الواحدة والثقافة المحددة لا تغنى في مواجهة مقتضيات العصرمن أجل التنمية.

وعلى هذا،يشكل التنوع الثقافي واللغوي قوة مهمة ومحركة للتنمية، ليس على مستوى النمو الاقتصادي فحسب بل أيضا كوسيلة لعيش حياة فكرية وعاطفية ومعنوية وروحية أكثراكتمالا.ومن هنا يعتبرالتنوع الثقافي واللغوي ميزة ضرورية لتحقيق التنمية المستدامة.ويفرض علينا أن نساهم في القبول بالتنوع الثقافي والاقرار به عبر الاستعمال الابداعي للإعلام وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات بشكل خاص في خلق الحوار بين الحضارات والثقافات والبلوغ بها إلى مستويات عليا من الاحترام والتفاهم المتبادل. لذلك يعتبر الاعتراف بالثقافات واللغات الأخرى بتنوعها الكبير قيمة ملازمة للتنمية والتماسك الاجتماعي والسلام حيث لا يمكن فصل التنمية عن الثقافة واللغة. تقوم اليونسكو بتعزيز التعليم الجامع من خلال مناهج ثنائية اللغة وقائمة على التفاعل بين الثقافات، بغية إثراء التعليم بثقافات الشعوب الأصلية وغير الأصلية على حد سواء.وبهذا الصدد،من الضروري إجراءات لتشجيع الالتزام الواسع والدولي لتعزيز التعدد اللغوي والتنوع الثقافي، بما في ذلك حماية اللغات المهددة بالانقراض، حيث يتوقع خبراء "اليونسكو" أن تنقرض 3000 لغة تمثل نصف لغات العالم، بنهاية القرن الحادي والعشرين، بمعنى أن هناك لغة واحدة على الأغلب تنقرض كل أسبوعين.

أما الهند، فعلى الرغم من الأوضاع الثقافية فيها بحالة من التجانس، الحاجة تلح على أن تركز الهند على الجوانب المختلفة التي تساعد في تحقيق التنمية على مستويات شتى، مثلا العلاقة المعقدة للدولة بالجماعات الثقافية،خصوصا عندما تتعارض الخصوصيات الثقافية مع القيم الليبرالية التي تأسس عليها النظام الفيدرالي، وعدم قدرة الدولة "العلمانية" على فرض سلطتها على الجماعات الدينية،ودور التعددية الثقافية في بلورة الأمة الهندية وشكل النظام الفيدرالي الذي يحكمها، وأهمية الانتماء الثقافي والإعتراف بالتنوع ودعمه.وهنا يجدر بالذكر بأن كثيرامن الأدباء والكتاب والمفكرين في الهند والولايات المتحدة الأمريكية يرون التعدد اللغوي والتنوع الثقافي دافعان مهمان في سبيل تحقيق التنمية المستدامة. ومن هنا بات واضحا بأن التبادل الثقافي واللغوي يساهم بشكل فعال في تحقيق التنمية المستدامة العالمية من خلال التعريف بالآخر وأسلوب حياته وقيمه وبالتالي بوضع حجر الأساس لمحاربة التطرف والأحكام المطلقة والمسبقة والصور النمطية.

ولتحقيق خطة التنمية العالمية المستدامة في إطارالتعددية اللغوية والتنوع الثقافي، ينبغي مراعاة هذه الخطوات الهامة:

1. لا تكون أي خطة للتنمية خطة شاملة مستدامة عالمية إلا إذا تبحث الجانب الثقافي وعلاقاته بالتنمية وتأثيره في صياغة السياسات الثقافية واللغوية على الصعيدين الوطني والدولي.

2. تعزيز وحماية تراث الإنسانية اللغوي والثقافي ودعم التعبير والإبداع والنشر في أكبر عدد ممكن من اللغات.

3. احترام تنوع الثقافات، والتسامح، والحوار، والتعاون، في جو من الثقة والتفاهم تؤدي إلى تحقيق السلام والأمن الدوليين.

4. التنوع اللغوي هو جزء أساسي للتنوع الثقافي، التعدد اللغوي والتنوع الثقافي هما عاملان محركان للتنمية، إذ التنوع الثقافي يوسع نطاق الخيارات المتاحة لكل فرد، بينما التعدد اللغوي يوفر آفاق أوسع ويزيل المعوقات اللغوية لتحقيق الأهداف والتنمية المستدامة في أي بقعة من الأرض.

5. يجسد التنوع اللغوي والثقافي القيم العالمية التي تسهم في تدعيم أسس الوئام والتلاحم في المجتمعات.

6. التنوع الثقافي واللغوي سمتان بارزتان للبشرية ويشكلان تراثا مشتركا للبشرية ينبغي اعزازهما والمحافظة عليهما لفائدة الجميع في خطة التنمية. وأنهما لا يزدهران إلا في رحاب الديمقراطية والتسامح والعدالة الاجتماعية والاحترام المتبادل بين الشعوب والثقافات.

7. ينبغي لكل دولة أن تدمج الثقافة في سياساتها الإنمائية على جميع المستويات بغية تهيئة الظروف المؤاتية لتحقيق التنمية المستدامة، وتعمل في هذا الإطار على تدعيم الجوانب المتصلة بحماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي.

8. تعزيز تبادل المعارف وأفضل الممارسات في مجال التعدد الثقافي، من أجل العمل في إطار مجتمعات تتميز بالتنوع، على تيسير إدماج الأفراد والمجموعات المنتمين إلى آفاق ثقافية متنوعة، ومشاركتهم في حياة المجتمع.

نهاية المطاف: وفي نهاية المطاف، في ضوء ما ذكرنا يستقرلنا الرأي بأن التنمية المستدامة العالمية لا يمكن تحقيقها إلا من خلال التسامح والتعاون والتآزر والتواصل عن طريق اللغات المتعددة والتعامل والتثاقف الحضاري والتعايش السلمي والاحترام المتبادل والانسجام الاجتماعي. وبدون مراعاة التنوع والتعددية في المجتمع ، لا يمكن أن تكون أي خطة، خطة مستدامة عالمية شاملة.