اللغة العربية بين الفصحى واللهجات العامية

د. مي صالح نصر

 

إنّ ظاهرة وجود العامية إلى جانب الفصحى ، ظاهرة لُغوية في جميع دول العالم ، ولكل منهما مجالاته واستعمالاته ، وتُعرّف اللهجة العامية بأنها :

طريقة الحديث التي يستخدمها السواد الأعظم من الناس ، وتجري بها كافة تعاملاتهم الكلامية ، وهي عادة لُغوية في بيئة خاصة تكون هذه العادة صوتية في أغلب الأحيان .  
ويُعرّف إبراهيم أنيس اللهجات بأنها : مجموعة من الصفات اللغوية التي تنتمي إلى بيئة خاصة ويشترك في هذه الصفات جميع أفراد هذه البيئة ، وبيئة اللهجة هي جزء من بيئة أوسع وأشمل تضم عدة لهجات لكل منها خصائص لغوية . 
يرجع الباحثون أسباب تشكل العامية بلهجاتها المختلفة إلى مجموعة من العوامل ، منها :
 العامل الجغرافي : 
فقد تتسع الرقعة الجغرافية للمتكلمين باللغة ، وتفصل بينهم الجبال والأنهار ، ويقل التواصل بينهم ، فتأخذ اللغة بالتغير شيئا فشيئا ، ويسلك المتكلمون باللغة مسلكا مختلفا عن غيرهم ، مما يؤدي إلى حدوث لغة جديدة 

العامل الاجتماعي :
تؤدي الظروف الاجتماعية في البيئات متعددة الطبقات إلى تعدد اللغات فكل طبقة تحاول أن تكون لها لغتها ، وأسلوبها المميز .  
العامل السياسي :
 قد يساعد إنفصال قبيلة أو دولة ، أو اعتناق المذاهب السياسية أو الدخول في الديانات الجديدة على دخول ألفاظ واصطلاحات جديدة في اللغة تساهم كلها في خلق لغة جديدة نابعة من سياقات سياسية في الأصل .
الصراع اللغوي : ربما يكون هذا أهم العوامل التي تؤدي إلى تعدد اللهجات ، وانتصار واحدة على أخرى ، طبقا لقوانين لغوية فالأقوى حضارة ومادة يكتب له الانتصار
أنواعها :
تذكر المراجع أن أصول اللهجات العامية المعاصرة تعود إلى لهجات العرب القديمة وتصنيفها إلى عدة أنواع منها : 
 التضجع : 
وهو الترخي في الكلام ، أو التباطؤ فيه وأصحابها قيس .
الاصنجاع : 
هو نوع من أنواع الإمالة الشديدة ؛ تكون فيه الألف أقرب من الياء منها إلى أصلها الألف ، وأصحابها قيس ، تميم ، أسد .
التلتلة :
كسر حرف المضارعة مطلقا نحو : ( يِعلم ) .
 الشنشنة : 
وهي إبدال الكاف شينا مطلقا عند أهل اليمن خاصة في قولهم ( لبيك ) ( لبيش ) وهي لا تزال شائعة لدى حضرموت 
الكشكشة : 
هي إبدال كاف المؤنثة في حالة الوقف شينا ، نحو :
 ( أعطيتش ) في أعطيتك حالة الوقف . 

لغة أكلوني البراغيث :
بحيث يلحق أصحاب هذه اللهجة بالفعل فاعلين ، مثل جاؤوا الطلاب وقد اعتبر القدماء هذا من ضعيف اللغة العربية وبعض المعاصرين يعتبره غير جائز ؛ إذ يكتفي الفاعل بفعل واحد وقد ثار حول هذه اللهجة جدل كثير ، والثابت أنه قد جاء بها فصيح الكلام من آيات قرآنية وأحاديث نبوية وأبيات من الشعر ، فليس هناك ما يمنع من اعتمادها في فصيح القول شعره ونثره .  
ميزات اللهجات العامية:
يضع دعاة العامية مبررات استخدام العامية ويزعمون لها عدة مميزات وعلى رأس هؤلاء أنيس فريحة الذي يرى أن العامية تمتاز بالآتي :
ـ اللهجة العامية حيّة متطورة؛ لأنها تتصف بإسقاط الإعراب رغم اعتمادها الفصحى معينا لها .
ـ الاقتصاد في اللغة وهو جوهر البلاغة
ـ الإهمال والاقتباس والتجديد في المعنى ، فالعامية في رأيه نامية مسايرة لطبيعة الحياة تحرص على إماتة وإهمال ما يجب أن يموت ويهمل ، واقتباس ما تقتضيه الضرورة من الألفاظ . 
ـ العنصر الإنساني يضفي عليها مسحة الحياة ؛ فالفصحى لدى أنيس فريحة ليست لغة الكلام ؛ لأنها لا تعبر عن الحياة بحلاوتها وقسوتها كما تفعل العامية ودليله على ذلك أننا لا نستطيع التعبير بواسطة الفصحى بنفس الطلاقة التي نعبر بها بالعامية .
ثانيا : الفصحى 
تُعرّف اللغة الفصحى بأنها لغة الكتابة التي تدوّن بها المؤلفات والصحف والمجلات ، وشؤون القضاء والتشريع والإدارة ، ويؤلف بها الشعر والنثر الفني وتستخدم في الخطابة والتدريس والمحاضرات ، وفي تفاهم العامة إذا كانوا بصدد موضوع يمت   بصلة  إلى الأدب والعلوم
ميزاتها :
ـ هي اللغة القومية لمائة مليون من العرب ، ولغة الفكر والعقيدة  لألف مليون من المسلمين .
ـ اللغة العربية لغة اشتقاق تقوم في غالبها على أبواب الفعل الثلاثي ، والتي لا وجود لها في اللغات الأخرى
ـ تتميز بتنوع الأساليب والعبارات ، والقدرة على معانٍ ثانوية لا     تستطيع اللغات الغربية التعبير عنها .
 ـ هي أقرب اللغات إلى قواعد المنطق .
ـ أعطت العربية حروفها الهجائية لكثير من الشعوب في بلاد فارس  والهند والترك
ـ الإيجاز : 
يقول صلى الله عليه وسلم : ( أوتيت جوامع الكلم ) ، ويقول العرب ( البلاغة الإيجاز ) ، والإيجاز في العربية على أنواع ، فمنها إيجاز في الحرف فقد نحتاج في اللغة الأجنبية إلى حرفين(   ( khمقابل حرف واحد في العربية لأداء صوت معين كالخاء مثلا 
كما أننا لا نكتب من الحروف العربية إلا ما نحتاج إليه ، أي ما نتلفظ به ، وقد نحذف في الكتابة بعض ما نلفظ مثل ( لكن ـ هكذا ... الخ)   بينما في الفرنسية نكتب علامة الجمع ولا نلفظها ونكتب في الإنجليزية حروف لا يمر اللسان عليها في النطق كما  right
 وفي العربية إيجاز يجعل الجملة قائمة على حرف واحد مثل : (فِ وعِ  من ( وفى يفي )  و ( وعى يعي ) ومن أبلغ أمثلة الإيجاز نجد سبع كلمات أجنبية لترجمة كلمة عربية واحدة كما في سورة هود الآية (28)
( أُنُلزِمُكُمُوها ) ترجمتها  ( shall we compel you to accept it)  )
فضل القرآن على الفصحى :
يقول فيليب دي طرزي :
 ( لقد أصبح المسلمون بقوة القرآن أمة متوحدة في لغتها ودينها وشريعتها وسياستها ؛ فقد جمع شتات العرب ، ومن المقرر أنه لولا القرآن لما أقبل الألوف من البشر على قراءة تلك اللغة وكتابتها ودرسها والتعامل بها ، ولولا القرآن لظل كل بلد من البلدان التي انضمت للإسلام ينطقون بلهجة يستعجمها أهل البلد الآخر . وقد حفظ القرآن التفاهم بالعربية بين الشعوب الإسلامية والعربية ) . 
أوجه الاختلاف بين العامية والفصحى
العامية هي لغة السواد الأعظم لمجموعة من الناس ، بينما الفصحى تقتصر على الخاصة .
 ـ تحرر العامية من التقييدات والأحكام اللغوية لتنطلق على سجيتها الكلامية باعتبارها اللغة المحكية .
 ـ من يتحدث العامية ولا يقوى على القراءة والكتابة يجد صعوبة في فهم واستيعاب ما تعنيه الفصحى 
 ـ افتقار العامية إلى ما لايحصى من المصطلحات العلمية والفنية والمفردات المستحدثة ، ولا سيما مستلزمات التطور الحضاري والتقدم التكنولجي .
أسباب ظهور العامية كمشكلة في العصر الحديثأ/ الدعوة إلى استخدام العامية :
وقد بدأت هذه الدعوات مع فجر الاستعمار منذ عام 1880م  حيث نادى بذلك بعض المستشرقين وبعض المستغربين ممن وجهوا سهام طاعنة نحو الفصحى باستخدام العامية بدلا عن الفصحى وكان من أبرز الدعوات دعوة المستشرق وليام لكوكس مهندس الري البريطاني الذي بدأ دعوته من خلال محاضراته التي نشرت في مصر عام 1893م تبع ذلك دعوة القاضي ويلمور ، الذي أهاب بأبناء مصر إصلاح لغتهم وكتابتها بالعامية1951م
أما المستغربون فكان أبرزهم لطفي السيد الذي كتب عام 1913م عدة مقالات يدعو فيها إلى استعمال الألفاظ العامية وإدخالها حرم الفصحى و كذلك قاسم أمين الذي أعلن عام 1912م تصريحه عن الإعراب وتسكين أواخر الكلمات ودعوة أنيس فريحة والخوري إلى استعمال اللهجة العامية مكتوبة بالحروف اللاتينية . وقد أصدر فريحة عام 1955كتبا في هذا   المجال بعنوان : نحو عربية ميسرة
ــ تيسيرالكتابة العربية : 
من أخطر الدعوات التي واجهت اللغة العربية تحت ستار تيسير الكتابة العربية دعوة عبد العزيز فهمي أحد الأعضاء البارزين في مجمع اللغة العربية في القاهرة فقد قدم للمجمع عام 1944 مشروعا ينطوي إلى تيسير الكتابة بالحروف اللاتينية وجاء مشروعه ذلك بعد توصية المستشرقين الفرنسيين : ماسينيون ، وبينار رئيسا البِعثة العلمانية إلى الشرق ـ لأصدقائهم العرب بأن إصلاح الخط العربي لا يكون إلا بتنحيته جانبا والكتابة بالحرف اللاتيني بدلا منه بدعوى أن الغاية إفهام السامع والقاريء وبدعوى أن الكتابة بالحروف اللاتينية مختزلة مختصرة في حين الكتابة بالحروف العربية صعبة لتعدد أشكال الحرف الواحد ولكثرة الحروف المتشابهة في الرسم  .
ــ غياب التثقيف اللغوي الصحيح : في البيت وفي مراحل التعليم المختلفة الأمر الذى أدى ظهور الأخطاء الشائعة بين النحاة أنفسهم
ــ العزوف عن استخدام الفصحى في مواقعها الأصلية من العارفين والمتخصصين بحجة صعوبتها وعدم كفايتها في التوصيل العام . 
ــ ضعف الانتماء إلى القومية العربية واهتزاز البناء :
فالتكامل الثقافي هو الأساس في وحدة البناء اللغوي وتكامله ، فالعربي يعتز دائما بعروبته وثقافته العربية التي منبعها الدين الإسلامي ومصادر المعرفة لكل مسلم القرآن الكريم والسيرة النبوية الشريفة وهما يمثلان القوة الفعلية للغة من حيث فصاحة اللسان  والفكر السليم ، وكلما بعد العربي عن العربية كلما قلّ وضعف الانتماء للقومية العربية 
كل هذه الأسباب وغيرها أدت إلى غلبة وسيطرة العامية وظهر ذلك جليا في : العملية التعليمية  وفي بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي