الفصحى بين التراث و العصرنة
أ. جميلة عبيد
الحمد لله الذي جعل العربية أشرف اللغات أنزل بها كتابه المحكم في أساليبه الحسان، عاشت العربية في ظلّ ناطقيها و خُدامها جمعوها من أفصح العرب لهجة، و أصدقهم حُجة، نشروها في فسيح البلاد بين عباد الرحمن كما حببوها إلى الأعاجم حتى استقامت ألسنتهم .
فاللغة العربية تعيش مند أربعة عشر قرنا، و مازالت تتداولها الألسنة إذ تستمد فصاحتها من ارتباطها بالقرآن الكريم و هي خالدة بخلوده، و علقة بأذهان العرب. و السرّ في ذلك "يكمن فيما تحمله من خصائص جعلتها لغة حيّة صالحة لكلّ زمان و مكان؛ فهي لا تضيق ذرعا بالتعبير عن قضايا الحياة .
والفصاحة : هي في لسان العرب الفصاحة هي البيان؛ فَصُح الرجل فصاحة ؛ قال سيبويه امرأة فصِحَة من نسوة فِصَاح و فصائح. تقول رجل فصيح و كلام فصيح أي بليغ و لسان فصيح أي طلق .
وتعريفها في المعجم المعاصر اللغة العربية الفصحى: بأنها لغة القرآن و الأدب، و هي لغة خالصة سليمة من كلّ عيب، لا يخالطها لفظ عاميّ أو أعجميّ، خلاف العامية "يحرس الخطباء والدعاة على استخدام الفصحى في كلامهم كما تُذع نشرات الأخبار باللغة العربية الفصحى.
فالعربية الفصحى هي طلاقة اللسان والنطق بالبيان و البلاغة، فما أحوال الفصحى بين القديم والمعاصر.
فالممارسة اللغوية الفصيحة في العصر الحالي تكاد تفقد مكانتها في أواسط المتكلمين باختلاف مستواهم الثقافي، وبخاصة عند المتعلمين شبيهة بأن تكون كالموجات العصرية التي تحل بالمجتمع في استعماله الألفاظ المستوردة عن طريق الإعلام، أو استخدامه العامية في مجالاته المعرفية، فهي أعجز ما تكون عن التعبير عن القضايا الجادة لأنها ضعيفة عن استيعاب دقائق الأمور .فكيف يستطيع المتكلم تجاوز أزماته الكلامية؟
ومسعى المجامع يقوم على خطّة إستراتيجية لغوية تأتي من وضوح الرؤية و الرسالة بما يتعلق بتعليم، و تلقين اللغة العربية بالصورة الصحيحة و تهذيب المستعملة منها داخل فئة المثقفين، و ذلك من أجل تنمية القدرات في استخدام اللغة الفصحى، وتجنب استعمالات العامية بخاصة عند استخدام بعض الكلمات الأجنبية، ثمّ صقل أذهانهم بمهارات معرفية تمكنه من تجاوز أزماته اللغوية ومواجهة الصراعات الكلامية .
فاللغة هي الرباط المشترك بين أفراد المجتمع الواحد، "و لها فصاحة تتقيد على أساس تصورات لغوية مبررة لها صلة بالمجتمع الذي ينطق بها و يستعملها كأداة للتوصل يوميّا، شريطة أن تراجع تلك الفصاحة ومقاييسها انطلاقا من ذلك المجتمع و استعمالاته لها في جميع مستوياتها.
فاللغة هي الملكة الصناعية عند ابن خلدون إذ قال في مقدمته: “اعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة، إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها، وليس ذلك بالنظر إلى المفردات وإنما هو بالنظر إلى التراكيب، فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال بلغ المتكلم حينئذٍ الغاية من إفادة مقصوده للسامع، وهذا هو معنى البلاغة، والملكات لا تحصل إلاّ بتكرار الأفعال لأن الفعل يقع أولاً وتعود منه للذات صفة ثم يتكرر فتكون حالاً، ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة.
ويؤكد ذلك يحيى بن خالد لولده:” اكتبوا أحسن ما تسمعون، وحفظوا أحسن ما تكتبون، وحدثوا بأحسن ما تحفظون، وخذوا من كلِّ شيءٍ طرفًا، فإنه من جهل شيئًا عاداه “
فهذه هي اللغة الفصحى أسلوب القرآن و الحديث و وصايا الخلفاء و البلغاء تعيش بين أضفاف الكتب و حبيسة سطور الكراريس يمليها الملقن و يحفظها المتعلّم حفظا آليا، فأين مواعظها و أين هذا الموروث؟ يوشك أن يكون مقصورا على أصحاب الثقافة العربية الخالصة دون المتعلمين لعلوم مختلفة و معارف تتنوع وتغتني بتنوع حضارة المجتمع و مجالاتها، و التي يستلزم التعبير بها اهتماما يغني الموضوع و عمقه، و التركيز على سعة الأفكار وتنوعها دون أن يتوجه الاهتمام كلّه إلى عوامل الصحة التقليدية.
منذ القرن الثاني الهجري تعرف اللغة العربية انتشارا خارج الأمصار التي نشأت فيها خاصة بعد ظهور الإسلام وسرعة انتشاره واختلاط العرب بغيرهم من الأمم نتيجة الفتوحات الإسلامية، فازداد عدد الناس الذين يتكلمون بها وزاد احتكاكها بلغات أخرى؛ عوامل أدت إلى تفشي اللحن في الألسنة بدءاً بالناشئة والعامة وانتهاءاً بالفصحاء من العرب، وأفقد اللغة خصائصها الذاتية، فإن كان هذا اللحن مسّ اللغة في تركيبها ونحوها، و دلالتها، فإن اللحن الذي يعاصرنا مسَّ طريقة الأداء، والتعبير عن المعنى والأفكار، و اقتباس الصور والأساليب و إن كان هذا لا يمس تغييراً في قواعد اللغة، وضوابطها فهو يؤثر على فهم التراث العربي وعلى فهم مقدسات العقيدة الدينية نفسها، واللغة تكون مقبولة على أنها لغة جيدة، إذا كانت ملائمة، لأهداف المتكلم، ومريحة لكل من المتكلم والسامع “.
ومن العوامل مؤثرة على طبقة المتعلمين والتي تشكل خطورة على فصاحتها عن طريق انتشار رهيب لبعض الكلمات الأجنبية في أواسط الناشئة .
- اللغوية الثنائية بين العامية و اللغة الفصحى فما أثر الأو لى على الفصحى ؛ عاميتنا كانت من صنع المستعمر "استغل ظاهرة الطبيعية في لغات الدنيا ليحارب الفصحى بلهجاتها المتعددة، وجد في اختلاف اللهجات الإقليمية ذريعة للقضاء على اللغة الواحدة المشتركة ، لغة القرآن الكريم التي تربط بين المشرق والمغرب بأواصر التفاهم والتجاوب ، وتجعل من أقطار وطننا الكبير وحدة فكرية؛ فعمل عن طريقها القضاء على القومية و الشخصية الوطنية مما أثر في خلق ازدواجية اللغة و تولد عنها ألفاظ عربية متداولة فيها و دخلها اللحن أحدث تحريفات مختلفة في قواعد العربية و صيغها و هيآت كلماتها. ..
كما أحدث تغييرا في بعض الأسماء توارثها الجيل تماشيا مع لغة الحضارة. ومن أجل النهوض بالعربية يجتهد العلماء لتنقيتها ، فهم يروا في ذلك الفصحى معيارا بها تُرفع اللهجات إلى مستواها، و إلحاق ما يمكن إلحاقه، ليعود على عربيتنا بالفائدة ويقوها في وجه الأخطار.
-العولمة و أثرها على طبقة المثقفين فهي تشكل خطورة على فصاحتها عن طريق انتشار رهيب لبعض الكلمات الأجنبية على حساب اللغة بالية.
- إذ بات من المستلزم إبعاد العولمة على المجال الفكري لما يلحقه من فساد و انحراف هذا وجاء في نص عن الملك الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني: عن موقف المملكة من العولمة حيث: ”قال إننا نرحب بعولمة التجارة وبعولمة الاستثمار ولكننا نرفض عولمة الفكر الفاسد، نرفض عولمة الانحراف الذي يختفي تحت أسماء براقة، وهذا لا يعني الجمود في الحركة، فصدورنا وبيوتنا مفتوحة لكل جديد مفيد، ولكنها موصدة في وجه الرياح التي تحاول زعزعة معتقداتنا وخلخلة مجتمعاتنا “.
اللغة العربية بطبيعتها مرنة قابلة للتحسن تتمايز عن باقي اللغات؛ بأنها تتخذ أشكالا وصيغا مختلفة حسب ناطقيها، كما تتصف بسعتها و شمولها لأكبر رقعة جغرافية لأنها لغة الدين الإسلامي و إن اختلفت الأجناس و اللغات لكن القرآن موحد ألسنتهم بقراءة القرآن و شرحه وتفسيره، فضلا عن ذلك اتصافها باكتساح أكبر ساحات أدبية ولغوية برزت فيها التطورات الدلالية لمفردات لغوية قادرة لأن تكون الوجه الفصيح للغة الممارسة عند مثقفينا. وبقدرتها وفائها تتحدى متطلبات الحضارة، و متطلبات العصر.
|
|
|