خلود الفلاح
يؤكد المترجم مأمون الزائدي أن الترجمة الجيدة تتحقق بقدرات المترجم اللغوية؛ إذ لا يستطيع ترجمة كتاب لا يحبه. وإذا ترك له الخيار فالنص الجميل يجدر ألا يبقى حبيس لغته، بل يجب التشارك في هذا الجمال مع قراء آخرين.
طواعية العربية
يقول مأمون الزائدي إن الترجمة تمنحه تمرينا لغويا وإبداعيا. وهي وسيلته الخاصة في تقاسم غنائمه النصية مع أصدقائه صعاليك الكتابة. ويضيف “في التربية الرواقية إن صح التعبير التي تلقيناها جميعاً الفضيلة هي إرادة الله وأعظم الراحات هي التي تعقب العمل الشاق، الترجمة تمنحني تلك الراحة وتشبع نهمي في البحث. أثناء البحث عن كلمة ما أجد نفسي غارقاً في مواضيع ومباحث وعلوم بعيدة تماماً عن النص، وبسبب الإمكانات التي يوفرها الإنترنت صار متاحاً التجوال والتسكع لوقت طويل حتى الظفر بالمطلوب، إنها متعة مضاعفة”.
ويرفض ضيفنا مسألة أن الترجمة هي إعادة كتابة النص وفق قدرات المترجم الإبداعية، فالترجمة حسب قوله هي نقل النص إلى لغة أخرى وفق قدرات المترجم اللغوية وليس الإبداعية. يقول “النص ليس ملكا لي ولا أستطيع التصرف فيه إلا في حدود نقل ما يقوله، وليس ما أود قوله. وهنا تواجه المترجم مشكلة النص في لغة أخرى حيث تختلف الثقافة والمفاهيم. فكيف يبقى النص كما هو أمام ثقافة أخرى؟ أعتقد أن هذه هي الترجمة المستحيلة. ربما يتطلب ذلك نصاً حقيقياً كتب للإنسان حيثما كان. النص الذي أسميه النص الكبير هو المطارد دائما وأمثلة ذلك من الأدب العالمي كثيرة وجليّة. ودون التطرق إلى الأفكار النظرية من الواضح أنه لا يمكن كتابة النص نفسه مرتين وبالتالي المُقنع هو وصول رسالة النص إلى اللغة الأخرى، وليس هناك سقف لهذا الوصول رغم المسافة بينه وبين النص الأصلي. وبالحديث عن المهارات الإبداعية إذا قام المترجم بتجويد النص عن طريق التدخل فيه فهذه ترجمة بتصرف وينبغي كتابة ذلك على عنوان الكتاب”.
يقول مأمون الزائدي إن ما أمتعه أثناء ترجمة رواية “سيرة ذاتية للأحمر” لـ آنا كارسون، أنها ليست حبيسة النوع الأدبي لتكون حبيسة عروض الشعر. وبالتالي فهي غير متقيدة بالشكل بمفهومه التقليدي. هي رواية شعرية ولكنها ليست كذلك إلا روحاً أو ضمناً”.
ويتابع الزائدي “قدمت للنص منذ البداية بل وأعدت كتابة القصة كما كتبها الشاعر سيستيكورس ولكن بكلماتها هي ووجهة نظرها هي. الرواية ذات قيمة عالية جداً وقد حظيت باهتمام عدد كبير من النقاد. وهي لا تتكشف تماماً من القراءة الأولى. نفاد الصبر كما يقول كافكا في حكم تسوراو هو النقيصة البشرية الأساسية وأنا لا أفكر في ترك العمل بعد أن أشرع فيه، ربما أتركه جانباً وأعود إلى استكماله لاحقا”.
يشير ضيفنا إلى أن هناك في الترجمة خسارة وفقدا. ومن الصعب ترجمة الشعر تحديدا فهو يستغرق وقتا أطول ويحتاج إلى تمعن أكثر بسبب قوامه اللغوي الخاص. في السرد القصصي تتكفل الكلمات المتتابعة بإنتاج الدلالة ضمن هرم أكبر، أما في الشعر فالتكثيف والاقتصاد يُكسبان الأمر صعوبته. الشعر لعبة ذكية جدا. ومن حسن الحظ أن اللغة العربية فسيحة وطيعة ويمكنها أن تستوعب نوايا المترجم الحسنة. الترجمة الأدبية على وجه الخصوص تُفضّل أن يكون المترجم مُبدعاً حيث يكون أكثر قدرة على اكتناه النص وتحري بواطنه وفهم إشاراته ثم استيعابه”.
ويؤكد الزائدي أنه من الضروري للمترجم أن يكون ملماً بقواعد اللغة العربية ومحسناتها البديعية. وإلا فكيف يمكنه الكتابة بالعربية؟ من البديهي أن يتقن الكاتب اللغة التي يكتب بها بدرجة كافية فلا أحد يتقن أي لغة تماماً كما يجب حتى لو كانت لغته الأم. ويتابع “من الضروري أيضاً وجود المدقق اللغوي والمحرر وهما وظيفتان توجدان على استحياء في أوساطنا وهما ضروريتان من أجل نص سليم وكامل”.
مشاركة الملحمة
يقر الزائدي بأن هناك ترجمة جيدة وأخرى سيئة، تماماً مثلما هو كذلك في أي لغة أصلاً. عند الترجمة ينتقل النص بكامله إلى اللغة الأخرى. وعملية الانتقال هذه يجب أن تكون كاملة أو تقترب من الكمال قدر الإمكان وإلا فإن النص لن ينفع ولن يبعث في القارئ على الأقل تلك النشوة الغامضة التي يبحث عنها في القراءة. وعملية الانتقال هذه يحرسها جيش جرار من المنظرين والفلاسفة في مسعى خرافي لتحقيق الكمال المنشود.
ويتابع “في تجربتي مع رواية الكاتبة المكسيكية الشابة فاليريا لوزيللي ‘قصة أسناني‘، حدث شيء جدير بالذكر في هذا السياق، فقد تعاونت الكاتبة مع مترجمتها السيدة ماكسويني على إعادة الكتابة من جديد باللغة الإنكليزية رغم صدور العمل بالإسبانية قبل ذلك. وكتبت في آخر الكتاب أنها بهذا لا تعتبر الكتاب مجرد ترجمة بل هو إصدار جديد أي كتاب جديد. وقد أبلغتُ مؤخراً عن طريق وكيلها الأدبي أن النسخة المعتمدة للترجمة هي الإنكليزية وليست الإسبانية”.
ثم إن الترجمة، في رأي مأمون الزائدي، مساهمة ومشاركة في هذه الملحمة العظيمة للوجود الإنساني وعليها أن تكون فعالة ونشطة وجادة. فهذه الحياة لنا جميعا ونحن معاً في كل شيء.
ويضيف “لا يفكر أحد بوضع لائحة بمواصفات المترجم (الجيد) فذلك غير ممكن. إنها مسألة ذائقة ونحن نتعامل مع عمل فني يتذوقه كل شخص بطريقته. إلا أنه لا مناص من أن يكون على وعي ودراية بالخامة التي يشتغل عليها، وهي هنا اللغة من طرفيها، وعليه أن يهتم بالتفاصيل. أنا في هذا السياق أمتن لتوجيهات الأستاذ الجليل القاص والصديق علي الجعكي ولنصائح المترجم فرج الترهوني التي أفادتني حقاً حيث أنها انتزعتني من النص المقابل كي تضعني في مواجهة النص الذي أكتبه في صورة ترجمة”.
ويوضح أن هناك علاقة حميميّة تتولد بينه وبين النص أثناء ترجمته، لافتا إلى أن القارئ الجيد يدرك ما يعنيه بقوله إن القراءة مثل السفر تماماً فيها نقابل أشخاصا ونقصد أمكنة تترك أثرها في أنفسنا وتثير ذكرياتنا وتُبهجنا بمتع ومسرات لا تنتهي. ويتابع “في ترجمتي لرواية الكاتب التشيلي الكبير انطونيو سكارميتا ‘أب بعيد’، تأثرت بقصة الولد الذي تركه والده لأسبابي الخاصة وعندما ترجمت ونشرت الفصول الخمسة الأولى بالموقع الإلكتروني الليبي ‘بلد الطيوب’، وصلت الرسالة على الفور إلى الشاعر مفتاح العماري وأدرك مباشرة ماذا
وراء النص فكتب معلقاً بما هو معهود عنه من ذائقة رفيعة لا تُطال وحنو ومحبة أن الترجمة محمّلة بدلالات أنتجتها ذات المترجم، رغم تقيدي الحرفي بالنص الأصلي. وشكلت تلك الكلمات وحدها دافعاً وحافزاً لي لن ينضبا أبداً”.
ويقول “في ديوان ‘بستنة في المنطقة الاستوائية’ للشاعرة الجامايكية أوليف سنيور التي تتميز بروح مرحة وتدس التهكم في نصوصها، كان من الضروري إنتاج نص قوي وصلب يعكس روح المقاومة والتشبث بالأرض وفي نفس الوقت نص ملون وجميل ينقل طعم المناطق الاستوائية الخام والبكر ودس تلك التهكمات في مكانها تماماً دون إبرازها وإلا فإنها ستطيح بوقار النص في بعض الأماكن. كذلك الحال مع غوستافو سانشيز، بطل رواية ‘قصة أسناني’، حافظت على أن يبقى كيخوتياً”.
العَرب