العلاج بالشعر
د. محمد سعيد حسب النبي
في مستهل السبعينيات من القرن الماضي، بدأ الحديث عن العلاج بالشعر، وكان الأمر غريباً في ذلك الوقت، ولعل أول من كتب في العلاج بالشعر Poetry Therapy وبشكل متكامل الكاتب الأمريكي جاك ليدي Jack J. Leedy مدير مركز العلاج الشعري في نيويورك وذلك عام 1969، ووفقاً لما جاء في الكتاب فقد شارك في تأليف الكتاب أكثر من عشرين عالماً من تخصصات مختلفة في الطب، والطب النفسي والفلسفة وعلم النفس والنقد الأدبي واللغة والاجتماع، حيث يُدل كل منهم بخبرته النظرية والميدانية في هذا الموضوع المثير، وقد أظهر الكتاب خبايا النفس الإنسانية، وغوامض الوجدان الإنساني، في محاولة لاكتشاف هذا العالم المجهول بحثاً عن كوامن الشجن والأسي، وصنوف العذابات التي اعترضت مسيرة الإنسان، وشكلت صورة عالمه القلق الذي يعج بالمعاناة.
ولعل ذلك يذكّر بالعلاج بالموسيقى الذي أصبح شائعاً الآن، والعلاج بالشعر يشبه إلى حد كبير العلاج بالموسيقى حيث إن الشعر والموسيقى أكمل صورتين فنيتين يعبر بهما الإنسان عن مشاعره وأفكاره، كل في ميدانه الخاص.
ومنذ الكتابة الأولى عن العلاج بالشعر في السبعينيات بدأ كثير من المهتمين بالموضوع بالكتابة عنه وتجريبه بشكل أو بآخر؛ إلا أن الأمر صار أكثر انتشاراً في منتصف التسعينيات، حيث تطورت المعرفة المتعلقة به كثيراً، وصار بعض المتخصصين في الطب النفسي ينشغلون به ويرون فيه مدخلاً علاجياً جديداً، ولاسيما بين الأطباء الذين يمتلكون ذوقاً أدبياً وإبداعاً شعرياً، مما يمثل دعماً لفكرة العلاج بالشعر.
نبذة تاريخية:
اعتمد العلاج بالشعر على نظرية نفسية معروفة وهي نظرية "التطهير" والتي أشار إليها أرسطو في بعض ما كتب عن التراجيديا، حيث مشاعر الشفقة والخوف التي تحدثها في النفس وتستثيرها هذه القصائد التراجيدية يمكن أن تؤدي إلى التصحيح والتهذيب، ثم صاغ أرسطو مصطلحه "التطهير" الذي يعني به التخلص من شيء مؤلم ومفزع. هذه العملية التطهيرية علاج نفسي، يقوم به الإنسان لمثله، من خلال مشاعر الشفقة والخوف التي تثيرها في أول الأمر التراجيديا الشعرية، ثم يحدث "التطهير" بفعل هذه التجربة الشعرية، وعندئذ تحدث الراحة للنفس وتستريح.
ومن هنا يتضح أن فلاسفة اليونان هم أول من اكتشف قوة الشعر وقدرته الفعالة في النفس، كما تجلى ذلك في تقديسهم الإله "أبوللو" باعتباره إلهاً ثنائياً للطب والشعر؛ فالطب والشعر بهذا المعنى علاجان مقترنان، أو علاجان مرتبطان بقوة قاهرة واحدة، أحدهما يستهدف الجسد، والثاني يستهدف النفس والروح.
كما يتبين من التاريخ الروماني أن الطبيب سورانوس الذي عاش في القرن الأول بعد الميلاد كان أول من استخدم الأدب في التداوي؛ فقد كان يصف الشعر والمسرح لمرضاه، ولكن العلاقة بين الطب والأدب في ذلك الوقت لم توثق بالشكل اللائق، وفي عام 1751 بدأت موجة التداوي بالأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص تتصاعد في أمريكا، وبرزت في هذا الوقت مستشفى بنسلفانيا، ثم ظهر اسم الطبيب الشاعر جريفر في عشرينيات القرن الماضي متحدثاً عن العلاج بالشعر، ثم تعزز اهتمامه في الخمسينيات بتعريف الناس بمصطلح العلاج بالشعر، والذي أصبح متداولاً بين طرق العلاج النفسي والتأهيلي في أمريكا، وقد طبق جريفر هذا العلاج وأسس ما يعرف آنذاك جماعة العلاج بالشعر في إحدى مستشفيات نيويورك. ثم تلاه جهود الدكتور جاك ليدي في العلاج النفسي بالشعر في مستشفى كمبرلاند في بروكلين عام 1959.
وفي الفترة نفسها أشار الباحثان مايكل سميث وتويفورت إلى أن الأدب والشعر على وجه الخصوص يمكن أن يستخدم كعلاج في حالات المرض العقلي والنفسي، وذلك عن طريق مساعدة المريض على الحصول على معرفة أفضل عن نفسه وعن ردود أفعاله، ومساعدته أيضاً على تحقيق مستوى أفضل من التكيف لحياته.
جلسات العلاج:
أثبتت الأبحاث الأكاديمية أن العلاج بالشعر فعال، ودليل ذلك أنه متداول في أمريكا وبعض الدول الأوروبية في مستشفيات الطب النفسي ومراكز التأهيل الصحي ومصحات كبار السن والمراكز الصحية التي تعالج الأمراض المستعصية.
ووفقاً لما جاء في كتاب العلاج بالشعر، يتم علاج المريض نفسياً وعقلياً من خلال جلسات شعرية تُعقد في مركز العلاج، وفي غرفة حيث يجلس الحضور معاً، وتوزع عليهم ورقة بها ثلاث مقطوعات شعرية أو أربع، ويقوم الطبيب المعالج بقراءة القصيدة مرتين بصوت مرتفع واضح، وبإلقاء بطيء، مُركزاً على مقاطع من القصيدة تكون محلاً للمناقشة. وفي هذا السياق يجب مراعاة أن يكون اختيار القصيدة سهل الفهم والاستيعاب، حتى لا يضطر الطبيب إلى إعادة صياغة القصيدة بأسلوبه مما يؤثر على فاعليتها وتأثيرها الشعري المأمول. وبعد إلقاء الطبيب للمقاطع تبدأ المناقشات التي تكشف عن تطلع الحضور إلى المعرفة، واستجلاء المشاعر وردود الأفعال، وتبدأ أسئلة على نحو: كيف وجدت هذا المقطع من القصيدة؟ هل أحببت معانيه؟ هل أدركت الحالة النفسية لقائله؟ ما شعورك الآن؟ هل وافق شيئاً في نفسك؟
مثل هذه الأسئلة تعطي الحاضرين فرصة لإزالة الثلج الذي يعلو سطح النفس بتأثير القصيدة، وفي بعض الأحيان يكون من المستحسن أن تشق السكون بتبادل النظرات ذات المعنى، مع إنسان تتوسم فيه أن القصيدة لها معنى بالنسبة إليه.
مهمة الطبيب المعالج لا علاقة لها بتنمية القدرات العقلية أو إثراء المعجم اللغوي؛ فهو ليس معنياً بإعطاء دراسات منهجية في كيفية فهم الشعر، ولكن بإيقاظ الإحساس بالنزعة العاطفية والشعورية للقصيدة، على اعتبار أن لديه فكرة عن هذه النزعة أو تيارها الشعوري بالنسبة له.
ومهمته أيضا مساعدة مرضاه على إعادة خلق القصيدة في ضوء مخزونه الخاص من التجارب والذكريات، بمعنى ما الذي تعنيه القصيدة بالنسبة له؟ ولماذا تعني شيئاً آخر بالنسبة لغيره؟ وغيرها من الأسئلة التي تساعد في تشجيع الاتجاه المطلوب وتعزيزه.
وهنا يكمن الفارق الرئيس بين درس الأدب وجلسة العلاج الشعري، حيث يرتكز الهدف من هذه الجلسات على البحث عن المعنى الذي تعكسه القصيدة لدى كل واحد من الحاضرين المختلفين، وقد يختلف المعنى لدى الحضور جميعاً.
ولقد عرض فاروق شوشه في مقال له نموذجاً من تلك القصائد التي دارت من حولها جلسات العلاج الشعري، لما تمنحه كلماتها من مفاتيح سحرية إلى هذا العالم الغريب الطريف، والقصيدة عنوانها: الجوع والظمأ:
من بين كل الفواكه التي اقتطفتها
محاولاً أن أسكت جوع أحشائي
تظل الخوخة التي تركتها على الغصن
أشهاها جميعا وألذها!
وأعذب قبلة نلتها
هي تلك التي لم أحصل عليها بعد
وهكذا..
في حفل العيد الذي سأقيمه
قبل أن تغرب حياتي
سوف يكون الجوع أفخر الطعام
والظمأ أعذب الشراب!
مركز العلاج الشعري في نيويورك:
لقد أدى العلاج بالشعر في تجربة مركز العلاج الشعري في نيويورك إلى مساعدة المرضى على تحقيق التوازن والتوافق والتكيف بعد أن فشلت كل الوسائل الأخرى التي جربت. إنه يساعدهم على أن تكون اضطراباتهم العاطفية أيسر في التحمل، كما أنه ينمي العمليات والقدرات المحققة للشفاء، ويأخذ بأيديهم إلى تبني فلسفة في الحياة تحل التكيف والتلاؤم والمرونة محل الحظوظ والأقدار السيئة. فالشعر يساعد المرضى على أن يكتشفوا مشاعرهم، وأن يشعروا بعمق أكثر، وأن يوسعوا من مداهم العاطفي والنفسي لاكتشاف الأنماط والمسببات وصولاً إلى منطقة التحكم.
ويؤكد فاروق شوشة أن القصيدة أصغر مسافة عاطفية بين نقطتين، هاتان النقطتان تمثلان الشاعر والقاريء. وهذا يفسر لنا لماذا يصبح الاتصال عن طريق الشعر جاهزاً وحاضراً، ولماذا يتحرك المرضى بصورة تلقائية، لكي يحققوا فكرتهم الخاصة عن القصائد.
يقول الشاعر:
تعال، واقرأ لي بعض الأشعار
الأشعار البسيطة التي تستقر في القلب
سوف تزيل هذا الشعور بالقلق
وتطرد أفكار النهار
اقرأ لشاعر متواضع
انبثقت أشعاره من سويداء قلبه
كما تهطل الأمطار من سحاب الصيف الممطر
أو تنهمر الدموع من المآقي
ثم اقرأ من المكنز الذهبي
القصيدة التي من اختيارك
وأعر موسيقى الشاعر
جمال صوتك وإلقائك!
ليس ضرورياً أن يكون المستوى الشعري المستخدم في ممارسة العلاج الشعري رائعاً أو عظيماً، وإنما الضروري أن يكون مساعداً على تحقيق شفاء المريض. وربما كان اللقاء السعيد الذي يتحقق بفضل جلسات العلاج الشعري حول نص شعري ملائماً محققاً لمعجزة. يقول فاروق شوشة: إن الشاعر يقول لنا عادة في قصائده: هذه هي أحزاني وأفراحي، آمالي ومخاوفي، وإنه ليسرني أن نتقاسمها معاً، وإذا ما أبصرت نفسك في مرآة فني، وأحسست بأنك أكثر راحة واطمئنانا وقوة؛ فاتبعني.
نظرة في تراثنا العربي:
إن تراثنا الشعري العربي لم يكن بعيداً عن فكرة العلاج بالشعر، وإنما كان شعراؤنا منذ امريء القيس على وعي بالنظرية التي تكلم عنها أرسطو حين تحدث عن "التطهير" بالشعر وما يحدثه الشعر التراجيدي الحزين والمأساوي، من أثر مريح في نفس المتلقي.
فامرؤ القيس الذي يشار إليه دائماً بأنه أول من وقف واستوقف وبكى واستبكى هو أيضاً أول من أشار إلى فكرة الشفاء عن طريق البكاء أو الشفاء بالدموع. هذا الشفاء هو عينه التطهر وما يحدثه من راحة في النفس وهي تواجه موقفا تراجيدياً مأساوياً حزيناً حين تقف على الأطلال وتتذكر الأحباء الراحلين، والأيام التي تقضت برحيلهم والأماكن التي كادت تزول هيئتها وصورتها بزوالهم، والشعر الذي ارتبط بهذا المخزون من الذكريات استعادته تدفع بالدمع الحار إلى العيون، وإنشاده وترديده هما بداية الإحساس بالتطهر والشعور بما يعقبه من راحة.
يقول امرؤ القيس:
وإن شفائي عبرة مهراقة
فهل عند رسم دارس من معول؟
فالإشارة الصريحة إلى فكرة الشفاء وإلى الدموع التي جاشت بالتذكر والحنين ولوعة الفقد، وترديد الأشعار المرتبطة بالمكان والزمان والمحبوب، كل ذلك من شأنه أن يضع أيدينا على بداية مبكرة لفكرة العلاج بالشعر في تراثنا الشعري. هذه الفكرة التي ستصبح أكثر نضجاً واكتمالاً عند قيس بن الملوح مجنون ليلى الذي يصرح بمعنى العلاج أو التداوي بالشعر في بيت قاطع الدلالة يقول فيه:
فما أُشرِفُ الأيفاع إلا صبابةً
ولا أنشد الأشعار إلا تداويا
وكأن قوله الشعر وسماعه دواء لنفسه الجريحة، وقلبه الموجوع بآلام العشق.
ومن هنا يتضح أن الشعر وسيلة من وسائل الاستشفاء، فالشعراء حين يفضون ويبوحون بلواعجهم ويفرغون شجنهم يتخلصون من تراكمات وأدواء أقلقتهم، وبعد النفث تسكن النفس ويستقر الخاطر ، ولكن يبقى لكلماتهم الوقع البالغ على المتلقي، وذلك حين تمس الجرح، وعندها يكون الشاعر قد نجح في كسب تعاطف المتلقي معه واجتذابه إلى عالمه الخاص واستثارته نفسياً عاطفياً.
|