محمدو لحبيب
اللغة هي البداية، هي أصل الكلام، هي تعبيره الأولي، كل تلك مقدمات يمكن أن تقال في تعريف ماهية اللغة، كما يمكن أن يقال غيرها الكثير، ولأهمية اللغة في المخاطبات البشرية، وفي التعاملات، وحتى في الصراعات التي تدور على هذا الكوكب، كان لا بد من وقفة جادة؛ لتحديد أُسسها، وكيف يمكن أن نحلل الخطاب البشري، انطلاقاًَ من بنيته اللغوية؛ كي نستطيع أن نفهم بعضنا. اهتم الكثيرون بفلسفة اللغة، ونشأ ذلك المبحث وتطور ومازال يتطور حتى اليوم، وأفرز كتابات ومفكرين عدة؛ من أبرزهم في العصر الحديث على الإطلاق المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، الذي وضع نهجاً خاصاً في تفسير اللغة والمسؤوليات التي يمكن أن تضطلع بها، واعتبرها مؤسسة بأدوات موهبة فطرية داخل كل إنسان منذ ولادته وطفولته الأولى، وقد حدد ذلك وفق أسس نظرية تعد حتى الآن من أكثر النظريات اللغوية دقة وتميزاً.
لقد أوضح تشومسكي نظرياته تلك في الكتاب الذي بين أيدينا وهو «اللغة والمسؤولية»، وهو ليس كتاباً سردياً وصفياً؛ بل حوار بين تشومسكي واللغوية الفرنسية ميتسيو رونات ظهر لأول مرة باللغة الفرنسية سنة 1977، وقد بلغ من الأهمية درجة أن قرر البنتاجون ترجمته إلى اللغة الإنجليزية، وإعادة نشره بعد ذلك سنة 1979 في ترجمة قام بها بالتعاون مع تشومسكي نفسه جون فرتيل.
إن المتصفح لهذه النسخة العربية سيلاحظ أن الكتاب لم يكن معقداً جداً على مستوى التعبير اللغوي عن الأفكار، ولم يكن أيضاً حواراً بالمعنى الكلاسيكي؛ بل كان أشبه بنقاش علمي رصين بين تشومسكي وميتسيو، وتناول أفكاراً عديدة من بينها علاقة السياسة باللغة، إضافة لشرحه نظرية تشومسكي الأبرز والأشهر في مجال اللغة والمعروفة ب«النظرية التوليدية التحليلية»، وتضمن الكتاب شرحاً وافياً لها، وفي جميع مراحل تشكلها وتطورها، وشرح الهدف الأسمى منها بالقول: «لقد كان الهدف الأعظم للنظرية التوليدية التحويلية هو عمل إحكام للمبادئ والأسس التي أدخلت للمعرفة اللغوية، التي يمكن إدراكها بواسطة المتكلم والسامع، من أجل الكشف عن مبادئ النظرية العامة، التي تحتوي على حقيقة هذا النظام من المعرفة».
واشتمل الكتاب على فصل متميز خصصه تشومسكي لعلاقة اللغة بالسياسة، ونبه فيه إلى أن اللغة تلعب «دوراً كبيراً ومؤثراً في السيطرة على عقول الشعوب وتوجهاتها»، وبيّن عبر عديد الأمثلة والنماذج كيف تستخدم اللغة في تبرير الإيديولوجيات السياسية والعسكرية والاجتماعية، وأن الإيديولوجيات المختلفة التي يصوغها علماء الفكر، تعتمد في المقام الأول على الفكرة والبراعة في صياغتها في قوالب لغوية مؤثرة وفاعلة.
يبين تشومسكي أيضاً العلاقة الوطيدة بين الدراسات اللغوية والعلوم الإنسانية؛ حيث يقول: «إن الدراسات اللغوية تعد جزءاً من الدراسات النفسية، وينبغي أن تُفهم العلاقة بينهما على هذا الأساس، وأما التمييز بينهما فمن أجل الدراسة، فالدراسات اللغوية هي لدراسة اللغة، والنفسية هي لاكتساب اللغة والإفادة منها».
ويشدد تشومسكي على التفاعل بين العلمين أو نوعي الدراسات فيما أصبح يطلق عليه «علم اللغة النفسي»، ونوّه في هذا الإطار ب«الدراسات المعملية التي أسهمت في حل العديد من المشاكل الخاصة بالتراكيب التحويلية»، كما نبه إلى ضرورة التفريق بين معطيات علم النفس وتجاربه في إطار المنهج التوليدي التحويلي، واستخداماته لدى السلوكيين أمثال سيكنر وبياجيه، الذين يرى أنهم تحركوا بعيداً عن الاقتباسات العقلية والاعتقاد العقلي في الاختيارات، ومن ثم فإنه يجب الحذر من تجارب السلوكيين في علم النفس، فثمة خداع كبير من تقنيات التجارب، أكثر من خداع التقنيات التي يخترعها العلماء الفيزيقيون.
وفي إطار حديثه عن فلسفة اللغة يحدد تشومسكي تأثير بعض المنطلقات الفلسفية على دراساته وأبحاثه، خصوصاً ما قدمه جون أوستن في «الأحداث الكلامية»، وبول جريس في «المحادثات المنطقية»، وإسهامات سول كريك، وهيلاري بوتنام، وجيرالد كاتز وغيرهم، ممن بحث في «نظرية المعنى في العمل في النظريات الدلالية»، إلى جانب الدراسات المتمركزة حول «نحو النص»، إضافة إلى ما قدمه ميشيل فوكو فيما يُسمى ب«المقدرة اللغوية»، وكذلك أبحاث وأفكار فلسفية عديدة أخرى اهتمت بالتاريخ وفلسفة العلوم.
يتناول تشومسكي في الكتاب أيضاً اختلافات العلماء حول وظيفة اللغة، وهل هي لتحقيق عملية الاتصال أم أنها للتعبير عن الفكر ونقل المعلومات، أو لتحقيق الاتصال الداخلي بين الإنسان وذاته؟ ويرى أن «هذه التفسيرات جميعاً فارغة ومبهمة، والسؤال الذي ينبغي طرحه هو لماذا هذا التجسيم الوظيفي للغة؟ وما الجدوى الذهنية وراء ذلك؟».
لم يكتف تشومسكي في كتابه هذا باستعراض نظرياته هو فقط؛ بل عمد إلى تفصيل وتوضيح مختلف وجهات النظر المخالفة له، في تفصيل يترك للقارئ الموازنة بينها وبين نظرياته هو، كما أثرت الفرنسية اللغوية ميتسيو التي تحاور الكتاب بمداخلاتها الواعية والمتمكنة من الفكر اللغوي ومنطلقاته وفلسفاته.
الخليج