أسابيب الخطاب في القرآن الكريم

صبحي عبد النبي عبد الصادق

  

طرق الخطاب في القرآن الكريم .

يعتبر القرآن الكريم المصدر الأول والأصل للغة العربية , وتُبنى قواعدها على حيثيات ومجريات أساليب القرآن الكريم , وعندما جاء به المصطفى صلى الله عليه وسلم وجد أرضًا طافحة , وفاخرة باللغة العربية , حظي بها قوم في بناء مجدهم , فكانت اللغة تنساب على ألسنهم انسيابًا مزجًا على حرير المعاني سليقةً , فلم ترض غير النصاعة , فبها وزنوا الصادق من الكاذب .

ولم تقبل اللغة ولا أهلها أي حالة غرابة تعيق بجزالتها . ومن طرق اعتنائهم باللغة علموا إفك مسيلمة الكذاب شيطان اليمامة من ميزان الأسلوب حينما قال (الفيل وما أدراك ما الفيل ) ليجاري ( القارعة وماأدراك ما القارعة ) فما وصلت في آذان العرب إلا لفظته الأذواق إذ من عجب أن كلمة (وما أدراك ) لا تأتي في القرآن إلا مع الكلمات المعنوية (كالقارعة , والحاقة , والسقر , والطارق وغيرها .....) فلذا طمس الله بصيرته ليضع القول في غير موضعه . لأن كلمة الفيل حسية فلا تطيقها الألسن في مثل هذا الموضع . خاصة مع (وما أدراك )

ظهرت في الآونة الأخيرة فئة يجعلون القرآن في ميزان اللغة وقواعدها وهذا ينافي الواقع , ومبدأ الأصول الذي يحتكم فيه العقل الشريف؛لأن اللغة تستقى من الكلمات التي سمعت من قدماء العرب , فكيف نقيم كلام الله بأقوال الخلائق , ومع ذلك ثمّ أقوال تدندن في الساحة فحقت بترها بما تبدر فيهم الثقافة المأصلة لديهم , وسنخوض غمار البحث بما هو المألوف في اللغة العربية ومسراج العرب وموازينهم .

مخاطبة الواحد بصيغة الاثنين .

لم يك أبدًا مخاطبة الواحد بصيغة المثنى غريبًا في كلام العرب وفنونهم , فقد قال امرؤ القيس:

قِفا نبكِ، من ذِكرى حبيبٍ، ومنزلِ ... بسِقطِ اللّوى بينَ الدَّخولِ، فَحَوْمَلِ

خاطب واحداً، وأخرج الكلام مخرج الخطاب مع الاثنين، لأن العرب من عادتهم إجراء خطاب الاثنين على الواحد والجمع

وكقول الآخر

فإن تزجراني يا بن عفَّانَ أنزجِر ْ ... وإنْ ترعياني أَحْمِ عرضًا مُمنّعًا

فجاء بخطاب الاثنين بقوله (تزجراني) مع أن الخطاب لابن عفان وهذا ضرب أصيل لديهم

وقال بعض النحويين: إنّ العرب جرت عادتها في خطاب الواحد بلفظ الاثنين،كقولهم (يا غلامان ارحلاه، ونحو ذلك ,) إذا أرادوا الرحيل وأمروا برحلة البعير، وهذا يكثر في كلامهم، فجروا على عادة ذلك اللفظ وإن أرادوا واحدًا. ومنه قوله تعالى لسيدنا موسى عليه السلام (قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ) والمقصود موسى وهارون ولكن أتت الصيغة بالمفرد , وكقول الله تعالى (قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) والذي دعا هو موسى عليه السلام و وهذا يدل على أن الدعاء تأتي نتائجها للداعي والمؤمِّن . وكقوله تعالى (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) قيل المخاطب واحد .

وفي آية أخرى (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) حيث خاطب الذي جاء بقول (جئتنا ) ثم أردف بصيغة أخرى (لكما ) إشارة إلى الاثنين .

**مخاطبة الفرد بصيغة الجمع . جرى أيضا في كلام العرب مخاطبة الفرد بصيغة الجمع كما في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُون) بمعنى رب ارجعني لعل أعمل صالحًا , ولكن في باطن القرآن ما هو أعلى وأجل من حكمه بالظاهر وقال تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ) فخاطب بضمير الغائب ( من كان يريد ) ثم أخبر بالجمع (نوف إليهم )

*تعميم الخطاب وتخصيص المصطفى صلى الله عليه وسلم

على هذا الأسلوب يجري الحكم في الرجوع من خطاب النفس إلى خطاب الواحد، كقوله تعالى: حم. والكتاب المبين. إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين. فيها يفرق كل أمر حكيم. أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين. رحمة من ربك إنه هو السميع العليم

والفائدة ههنا في الرجوع من خطاب النفس إلى خطاب الواحد تخصيص النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالذكر، والإشارة بأن إنزال الكتاب إنما هو إليه، وإن لم يكن ذلك صريحا، لكن مفهوم الكلام يدلّ عليه. والثريح يأتي في قوله (رحمة من ربك ) ولم يقل رحمة من ربكم )

*الرجوع من الخطاب إلى الغيبة .

أما الرجوع من الخطاب إلى الغيبة فكقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ.) حيث صرف الخطاب إلى الغيب في قوله (وجاءهم الموج )

* صرف الخطاب من المخاطب إلى غيره .

قال الأستاذ الشيخ عبد الرحيم الركيني مفسرًا قول الله تعالى (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) هذا من نوع الخطاب الذي يقال إياك اخاطب وغيرك أعني , فهنا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود منه أمته. إذ لم تمر بالنبي صلى الله عليه سلم لحظة إلا وكان في حب الله وعبادته وكيف لا وهو المحبوب والمعظم عند الله تعالى , وما خطر في قلبه الشريف أبدًا عبادة غيره فكيف يخاطبه الله بالهجر وهو الذي برأه من عبادتهم حتى أقسم بكل عمره (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)



الدكتور: صبحي عبد النبي .... عظمة اللغة العربية