الثقافات المؤثرة في أدب العرب

د. محمد سعيد حسب النبي

 

يكاد لا يختلف الباحثون في أدب العرب في أن أكبر ثقافيتن تأثر بهما العرب هما ثقافتا الفرس واليونان، ولكل منهما عند المحدثين أنصارها المدافعون عنها والمتحمسون لبيان مدى تأثيرها وغلبتها على الثقافات الأخرى، وقد أشار إلى ذلك كل من أحمد أمين في كتابه "ضحى الإسلام"، وعبدالرحمن بدوي في كتابه "الأصول اليونانية للنظريات السياسية في الإسلام"، وحسني ناعسة في كتابه "الكتابة الفنية في مشرق الدولة الإسلامية". 

كما عرض محمد عبد العال في كتابه في النثر العربي آراء طه حسين والذي كان من أشد المؤيدين للفكرة التي ترى أن الثقافة اليوناينة قد طغت على عداها من الثقافات، ومن الأدلة التي ذكرها على ذلك أن الموالي الذين كانوا من أصل فارسي لم يفلتوا من تأثيراتها، ولذا فإن الذين يزعمون أن الأمة العربية قد أخذت نثرها عن الفرس مسرفون. 
ولقد أشار طه حسين في كتابه "من حديث الشعر والنثر" إلى أن هناك قوماً آخرين –وهو منهم- يفكرون في أن التأثير اليوناني أقوى من التأثير الفارسي، رغم أن كثرة الكتّاب من الفرس. وأشار أيضاً إلى أن العقل الفارسي كان شديد التأثر بالثقافة اليونانية، إلى حد أن ابن المقفع زعيم كُتّاب الفرس والعرب كان عظيم الحظ من الثقافة اليونانية، حتى قيل إنه ترجم آثار اليونان. وأضاف طه حسين في سياق آخر أن العرب مدينة في أدبها للأمة اليونانية بشيء غير قليل. كما أشار إلى أن أكثر الكُتّاب الذين بدءوا يكتبون النثر ليس من الحق أنهم كانوا جميعاً من الفرس، وربما كان من الموثوق به أن كثيرين كانوا من الشام والجزيرة ومصر، فهم إما يونانيون أو ساميون ثقافتهم يونانية، فليس صحيحاً أن أكثر الذين يكتبون كانوا فرساً، وليس من شك في أن التأثير اليوناني أقوى من التأثر الفارسي.
ويرى محمد عبدالعال أن في كلام طه حسين جوانب من الصواب، ذلك أن الكتاب كانوا من أجناس شتى: عرب وفرس ويونان وغيرهم، ولكنهم بلا جدال كانوا يصدرون في كتاباتهم وأفكارهم عن تأثيرات إسلامية عربية واضحة، قد تفسح المجال أحياناً لتأثيرات أجنبية أشهرها التأثيرات الفارسية، وهو ما ظهر عند عبدالحميد وابن المقفع. وأضاف عبد العال أننا لو تتبعنا القليل المتبقي من نثر هؤلاء الذين لم يكونوا من أصل فارسي، لاستعصى الوصول إلى نتائج حاسمة تتصل بقضية التأثير اليوناني ومدى غلبته على غيره من التأثيرات.
وستظل التساؤلات القائمة عن مدى أخذ الثقافة العربية الإسلامية من الموروث اليوناني، وموقفها من شعره، ومدى اقتباسها خاصة من كتاب "الخطابة" لأرسطو، ومعرفتها "بهوميروس" وغيره من شعراء اليونان وحكمائها. وما رجحه المتأملون في ذلك –كما يرى محمد عبدالعال- أن الفكر اليوناني السياسي عن طريق الاقتباس أو المحاكاة كان مادة في بعض الفنون الأدبية كالرسائل، كما كان رافداً عرفت الثقافة العربية عن طريقه الأقيسة المنطقية الصحيحة وطرق الاستدلال والتعليل وأنماطاً من صور التحليل للأفكار.
وقد دل النثر العربي على أنه قادراً على استيعاب المترجمات المتنوعة والتعبير عن المتطلبات المستجدة والمدنية الوافدة، وأن يكون وعاء للعلوم الدينية وغير الدينية، ومن مظاهر ذلك –كما أشار محمد عبدالعال ومحمد الحوفي- أنه هجر الألفاظ البدوية الجافية، واستخدم مصطلحات وصيغاً وتراكيب مستحدثة في الأدب والفلسفة والعلوم المختلفة، كما يحتفظ بالوضوح والتجافي عن الألفاظ الغامضة والمعاني المبهمة، بل إنه ليحرص على الأداء البليغ بحيث يروق المتكلم والكاتب والمترجم والسامع بعذوبة منطقه، بل بحيث يلذ الآذان حين تستمع إليه، كما يلذ العقول والقلوب.  
ولقد أشار الجاحظ في رسائله إلى أن الترجمات قد وجدت قبولاً وترحيباً عند جمهرة الخاصة والعامة على السواء؛ فكانت بعد الثقافتين العربية والإسلامية مصدراً له شأنه من مصادر الثقافة لذلك العصر والعصور التالية، فقد عرفها الكُتاب وتزودوا منها فصارت من المواد التي ترفد كتاباتهم، وتمنحهم مدداً يستعينون به فيما يعرضون له من أمور الدولة ونظمها، ويؤكد الجاحظ أن الكتاب يروون "لبزرجمهر" أمثاله، و"لأردشير" عهده، يطنون أنه الفارق الأكبر في التدبير، والأهم من ذلك أن هذه الترجمات قد صارت أيضاً زاداً ثقافياً ضرورياً للأمراء والحكام، وربما للناس عامة، يدل على ذلك من بعض الوجوه –كما يرى محمد عبدالعال- ما رواه "المبرد" من أن المأمون أمر معلم الواثق بالله أن يعلمه كتاب الله، وأن يقرئه "عهد أردشير" وأن يحفظه كتاب "كليلة ودمنة".
ومن أظهر الكتب التي ترجمت عن الفرس كتاب "عهد أردشير بن بابك" إلى ابنه وولي عهده سابور، والذي حققه إحسان عباس وقال فيه: "ربما تمت ترجمته في أواخر العصر الأموي، أي إبان الدور الأول الذي التفت فيه التراجمة إلى الثقافة الفارسية الحكيمة، أو ما أشبهها قبل الالتفات إلى الثقافة اليونانية الفلسفية، أي حين التفتوا بخاصة إلى ما كان يتصل برسوم الدولة وقواعد السياسة وتدبير الجيوش" ، وقد بلغت العناية بهذا الكتاب حداً كبيراً، جعل أحمد بن يحيى البلاذري يترجمه شعراً من الفارسية إلى العربية.
أما كليلة ودمنة فهو كتاب قصص خيالي تدور أحداثه على ألسنة الحيوانات والطيور، وهو نوع من الخرافة –كما ذكر بن النديم في فهرسه، تهدف إلى إبراز المغازي الخلقية التي يراد بها الإصلاح الاجتماعي والسياسي للناس والحكام، والكتاب يؤدي وظيفة أخلاقية تعليمية تشير إلى بعض التجارب النفسية في الحياة، وإلى بعض الآمال التي يطمح إليها البشر في مجالات علاقات بعضهم ببعض.
ولقد أشار عبدالوهاب عزام في مقدمته لكتاب كليلة ودمنة إلى أن ابن المقفع ترجمه عن أصوله الفارسية غير العربية في عهد الخليفة المنصور، وكان هذا الكتاب من قبل قد نقل في عهد كسرى أنوشروان إلى الفهلوية عن الهندية، ومما يؤكد الأصول الهندية أن بعض أبواب الكتاب موجودة باللغة السنسكريتية في كتاب "ماها بهارتا" وفي كتاب "بنج تنترا" وفي كتاب "فشنو سارنا" ، وقد شهد البيروني بأصله الهندي وبأن الفردوسي في "الشاهنامة" أكد رحلة برزويه الحكيم الفارسي إلى الهند لجلب هذا الكتاب، كما عززوا ترجيحاتهم بما استخرجوه من بعض العادات أو الأسماء الهندية التي وردت فيه.
ومن المسلم به أن الترجمة لم تكن حرفية، وإنما بتصرف كبير، يصل إلى حد الخروج عن الأصل وإلى حشد الأقاصيص المأخوذة من الواقع العربي الإسلامي، كما أن ابن المقفع قد استعان في كتابه كليلة ودمنة بما ثقفه من التراث الشعبي –الأسطوري وغير الأسطوري- وهو تراث مشترك بين الناس، يتداولونه ويستقون منه، فيه أصول هندية وفارسية وعربية وغيرها، تلونت جميعها بالمؤثرات الإسلامية، وبالروح العربية النازعة إلى سوق الأمثال وإزجاء الحكم.
وفي فهرست ابن النديم ما يشير إلى الكتب المجمع على جودتها وهي: "عهد أردشير"، و"كليلة ودمنة"، و"رسالة عمارة بن حمزة الماهانية"، و"اليتيمة" لابن المقفع، و"رسالة الخميس" لأحمد بن يوسف الكاتب.
ولقد أشار طه حسين في رسالته عن البيان العربي من الجاحظ إلى عبدالقاهر الجرجاني إلى أن أحمد بن يوسف من أصول قبطية مصرية، وكان ممن تأثروا بالآداب اليونانية تأثراً ما فأصبحوا يستمدون وحي قرائحهم من الأدب اليوناني، إما مباشرة بالأخذ عن الأصو ل اليونانية، أو من طريق غير مباشر بالاطلاع على ما نقل إلى اللغة العربية من التآليف اليونانية المختلفة.
وآراء طه حسين له دلالتها التي عرفها الناس قديماً، وهي أن كثيراً من الكُتاب الذين سبقوا في مضمار الإبداع والتأصيل منذ البدايات الباكرة للحضارة الإسلامية كانوا من أجناس مختلفة: عربية وفارسية ورومية وهندية ومصرية وغيرها. ولكن الباحثين –كما يرى محمد عبدالعال- لا يستبينون شواهد حاسمة تكشف عن تأثير هذه الأصول، وتقطع بوجود مميزات خاصة لأي جنس من الأجناس غير العربية التي دخلت في الإسلام، واتخذت العربية أداتها للتعبير، وذلك لأنهم جميعاً يغترفون من ينابيع عربية إسلامية، تصبغ كل شيء بصبغتها الغالبة.
ومن الثابت أن الكُتّاب قد استفادوا بطريقة أو بأخرى مما وجدوه من معارف اليونان والفرس وغيرهم، وأن هذه الاستفادة لها أثرها البين في المؤلفات المختلفة من حيث المعاني والمباني.