
سياحة في شعر عمرو بن كلثوم
د. سهام عبد الرحمن طيب
هو أبو عباد وقيل أبو الأسود عمرو بن كلثوم بن مالك أما تاريخ ميلاده فهو مجهول والمؤكد فيه أنه عاصر الملك (عمرو بن هند ) (554-570 م) وأنه أدرك النعمان بن المنذر ( 580- 602 م ) . و مكان ولادته أيضا مجهول ولكنه في الغالب ولد بديار ربيعة أي شمال الجزيرة العربية وينتمي لقبيلة تغلب ذات الأصول العريقة
كان والده من أشراف قومه وأمه ليلى بنت المهلهل بن ربيعة الشاعر الفارس الذي لمع اسمه في حرب البسوس ( بين بكر وتغلب ) وبذلك يكون قد ورث المجد والشرف عن أب يعتبر سيدا في قومه وأم ذات مجد موروث في أقوى قبيلة في العصر الجاهلي فقد قيل فيها : ( لولا ظهور الإسلام لأكلت تغلب الناس ) وكان من الطبيعي أن ينشأ معجبا بنفسه فخورا بأهله . ويقال إنه ساد قومه وهو ابن الخامسة عشر عاما ويعني هذا أنه اتسم بكثير من الصفات التي تؤهله للسيادة مثل الشاعرية والفروسية والخطابة والكرم والمروءة الشجاعة
أخباره قليلة ولكن الثابت - من خلال أشعاره – أنه ظل ملازما لقومه مشاركا لهم في الحروب والغزوات . وأهم الأحداث في حياته هي مقتله للملك عمرو بن هند .
لم تذكر كتب الأدب والتاريخ ديانته والغالب فيها أنه نصراني وذلك لأن المسيحية كانت منتشـرة في تغلب حتى بعد ظهور الإسلام ولم تتخذه دينا إلا في القرن الرابع للهجرة وهذا هو الراجح فقد أقسم بالله في أحد أبياته الشعرية : ( ديوان عمرو بن كلثوم ص24)
تالله إما كنت جاهلة من سعينا فسلي بنا كلبا
وقال في أحد أبياته : ( ديوان عمرو بن كلثوم ص 51)
جزى الله الأغر يزيد خيرا ولقاه المسرة والجمالا
وقال ذات مرة لزوجنه ( ديوان همرو بن كلثوم ص 42)
معاذ الله تدعوني لحنث ولو أقفرت أياما قتارا
ويرد ذكر كلمة الله في أبيات كثيرة غيرها وهذا يرجح إنه اعتنق ديانة قبيلته على عكس ما ذهب إليه كثير من النقاد والدارسين
تزوج ابنة ثوير ابن هلال النمري فولدت له ثلاثة أبناء هم ( الأسود ) , ( عباد ) و( عبد الله ) وكلهم شعراء ثبتت أشعارهم في كتب الأدب . وله وابنة واحدة اسمها نوار
وقد ذكر زوجته مرتين في شعره باسم والدها دون الاتيان باسمها , مرة عندما لامته على شدة كرمه فكتب لها قصيدة من سبعة أبيات قال فيها : (ديوان عمرو بن كلثوم ص57)
بكرت تعذلني وسط الحلال سفها بنت ثوير بن هلال
بكرت تعذلني في أن رأت إبلي نهبا لشرب وفضال
وأخبرها ذات مرة بإحدى غاراته : ( ديوان عمرو بن كلثوم ص 56)
ألا هل أتى بنت الثوير مغارنا على حي كلب والضحى لم ترحل
أما وفاته فتاريخها غير محدد أيضا ولكن أغلب الروايات تقول أته عمر طويلا ويفال أنه عاش حتى بلغ المائة أو تعداها.
عندما مات رثته مجموعة من الشعراء , منهم رجل من بني مالك بن حبيب ,( ديوان عمرو بن كلثوم ص 115) قال فيه أبيات جميلة هي :
ألا هـــلك بن كـــلثوم فبكــــوا ســنامكم وخيركم نعالا
وفارسكم إذا ما الحرب شبت ومطعمكم إذا هبت شمالا
غياث المقترين وكان حصنا وكــان لمن تضــيفه ثمالا
ديوانه
وصل الينا ديوان عمرو بن كلثوم عام 1922م عندما وجده المستشرق فريتز كرنكو في جامع السلطان الفاتح في الاستانة مخطوطا فقام بطباعته دون أن يوجد في الساحة الأدبية سواه لمدة سبعين عام وفي مطلع تسعينات القرن الماضي بدا الأدباء والنقاد في جمع وتحقيق شعر عمرو بن كلثوم وصدر عدد من التحقيقات من ضمنها تحقيق الدكتور ايميل يعقوب عام 1992م وهو الذي اعتمدت عليه في دراستي
شاعريته و شعره
شعر عمرو بن كلثوم اتصف بسهولة الألفاظ ووضوح العبارة – خاصة إذا قارنا شعره مع أشعار معاصريه – وقد كان مثار إعجاب القدماء والمحدثين لما تمتع به من خصوصية وتميز عن البقية . وبمجرد أن تقرأ له شعرا تدرك من الوهلة الأولى أنه له , فشخصيته واضحة في أشعاره ومما قيل في شاعريته , ما ورد عن الكميت (عمرو بن كلثوم اشعر الناس )
لشعر عمرو بن كلثوم قيمة تاريخية كبرى إذ انه صور فيه الحياة الجاهلية بكل تفاصيلها أفضل تصوير وخاصة حياة قبيلته تغلب . أما قيمته الأدبية فلا تخفى على كل دارسي الأدب فهو صاحب القصيدة المميزة التي تعتبر من أشهر القصائد في الأدب العربي وهي معلقته التي تبدأ بـ ( ألا هبي بصحتك فاصبحينا ........)
أول من روى المعلقات هو حماد الراوية وهي عنده سبع وهي قصائد (امرؤ القيس , لبيد بن ربيعة العامري , طرفة بن العبد , زهير بن أبي سلمى , عمرو بن كلثوم , عنترة بن شداد , والحارث بن حلزة ) وراوي المعلقات الثاني هو زيد بن الخطاب القرشي في كتابه ( جمهرة أشعار العرب) وقد عدها سبع وهي : (امرؤ القيس , لبيد بن ربيعة العامري , طرفة بن العبد , زهير بن أبي سلمى , عمرو بن كلثوم , والأعشى والنابغة .أما المرزوقي فقد ذكر إنها عشر وجمع بين الروايتين وأضاف إليهما قصيدة عبيد الأبرص (أقفر من أهله ملحوب ......) . وهذا يعني أن معلقة عمرو بن كلثوم ثابتة في كل الروايات مع أربع قصائد أخرى على أنها من المعلقات وهذه كانت أنفس قصائد العرب وأجلها عندهم وهي إلى جانب تفردها في المطلع تتفرد كذلك في بحرها فهي القصيدة الوحيدة التي نظمت على بحر ( الوافر ) – ولذلك دلالات سأذكرها في موضع آخر – وهي كذلك من المعلقات التي اتسمت بسهولة الكلمات والبساطة والقرب من النفس - مقارنة ببقية المعلقات
هنالك أشعار تؤكد نسبتها للشاعر وهنالك أشعار نسبت له ولغيره وهي تسعة عشر بيتا وبما أنني لا أحب الخوض في الأمور التي يدخلها الشك فإنني سأقصر دراستي على الشعر الذي صحت نسبته اليه فقط مع أنني أشتم في الأول صحة النسب لشاعرنا فروحه تكاد تقترب من روح الشاعر ومن الأصوب تجنبه حتى تقترب احكامنا إلى الصحة .
كان شاعرنا مقلا في قول الشعر وليس له قصائد طويلة بالديوان سوى المعلقة . أما البقية فكلها مقطوعات أو قصائد قصيرة تتراوح ما بين البيتين – التسعة أبيات ( 2-9) . وعدد أبيات المعلقة تسعة عشر ومائة (119 ) . ومجموع أبيات شعره كله أربع وأربعون ومائتين بيتا ( 244 ) وهذا يعني أن عدد الأبيات الشعرية التي كتبها تساوي خمسة وعشرون ومائة بيت (125) ماعدا المعلقة
أغراضه الشعرية
يخلو ديوان عمرو بن كلثوم تماما من غرضي المديح والرثاء . أما المديح فقد يكون السبب فيه شدة اعجابه بنفسه وبقبيلته فهو يرى أن لا أحد يضاهيه عزا وشرفا أو بالأحرى لا يبحث عن شيء يفتقده حتى ينشده عند ممدوح أما الرثاء فلا يبدو أن نفسه كانت مفطورة على الحزن أو لعل مشهد الموت تكرر عليه - لكثرة ما مر عليه من حروب , و كذلك الغزل لا نكاد نجده في شعره ومعلفته هي الوحيدة بين رصيفاتها التي لم تبدأ به وإنما بدأت بذكر الخمر ولم يكن من أولئك الشعراء الذين يربطون الفروسية بالحب – كعنترة بن شداد – ولم يكن صاحب مغامرات نسائية كمريء القيس ولا يبدو أنه كان مشغولا به ولم يأت ذكر للمرأة في شعره إلا مرة واحدة عندما ذكر في معلقته امرأة تسمى ليلى نظم فيها ستة عشر بيتا قال فيها : (ديوان عمرو بن كلثوم ص 66)
أفي ليلى يعاتبني أبوها واخوتها وهم لي ظالمونا
تريك إذا دخلت على خلاء وقد أمنت عيون الكاشحينا
ذراعي عيطل أدماء بكر هجان اللون لم تقرأ جنينا
وهذا يعني أن شاعرنا لا يميل للكتابة في الموضوعات التي تتطلب أحاسيسا رقيقة ( الغزل والرثاء )
له أهاج كثيرة وأكثرها في الملك النعمان بن المنذر والملك عمرو بن هند ومن أهاجيه في عمرو بن هند (ديوان عمرو بن كلثوم ص 28)
ألا من مبلغ عمرو بن هند فما رغيت ذمامة من رعينا
ويقول فيها :
ســتعلم حين تختلف العـــوالي من الحامون ثغرك إن هوينا
ومن يغشى الحروب بملهبات تهـــدم كـــل بنيــان بـنـينـا
إذا جـاءت لهم تســـعون ألفـا عوابســهن وردا أو كــمينا
وهجى أم النعمان بن المنذر ووصفها باللؤم وقال فيها : (ص30)
حلت سليمى بخبث بعد فرتاج وقد تكون قديما في بني ناجي
تمشي بعدلين من لؤم ومنقصة مشي المقيد في الينبوت والحاج
وحدث أن بلغ عمرو بن كلثوم تهديد النعمان له فأحضر عمرو كاتب وأملى عليه ليكنب للنعمان :
ألا أبلغ النعمان عــني رســـالة فمـدحك حولي وذمـك قارح
متى تلقني في تعلب ابنة وائل وأشياعها ترقى إليك المشالح
كان شاعرنا يمدح خصومه الذين ينازلونه في الحرب ويصفهم بالشجاعة ويأتي ذلك من باب تمجيد نفسه فالذي يفتل الشجاع يكون هو الأشجع وهذه هي عادة الشعراء الجاهليين وهذا الشعر لا يدخل في باب المديح وإنما يدخل في باب الفخر
أكثر موضوعاته الشعرية انحصرت في الفخر والحماسة وبمعلقته تضرب الأمثال لنماذج الحماسة ولا تذكر الحماسة إلا وذكرت معلقة عمرو بن كلثوم ومثلها كل أشعاره فهي تتشابه تماما في موضوعاتها فكلها تدور في نفس موضوعات المعلقة. ومن قرأ معلقته فكأنه قرأ شعره كله فهو على شاكلتها في التهديد والوعيد والفخر بأهله وبنفسه وذكر الأسماء والمواضع ووصف خيولهم والحال الذي تركوا عليه خصومهم وها هو في إحدى قصائده يفتخر بأنهم حموا ( تيم ) واخونها في ابيات تشبه أبيات المعلقة وهي من نفس بحر المعلقة ( الوافر) (ديوان عمرو بن كلثوم ص43)
ألم تشـكـــر لنا أبـــــناء تيم وإخوتها اللهازم والقعور
بأنا نحــن أحمـــينا حـمــاهم وأنكرنا وليس لهــم نكــير
ونحــن ليالي الإفــهار فـــيهم يشـــد بها الأقدة والحصور
كشفنا الخوف والسعيات عنهم فكيف يغــرهــم منا الغرور
ويذكر في القصيدة أسماء المواضع (الأفهار ) و( القعور ) - الأخير هو حي نغلب -
وفي قصيدة أخرى ومن نفس البحر – الوافر – يصف إحدى غاراتهم ذاكرا المواضع (أريك – جبل بالبادية -) و(الأتم موضع في ديار بني سليم ) و يصف خيولهم ( سواهم : هي الخيل ) و يقول مفاخرا ( الديوان ص 45)
جلبنا الخيل من جنبي أريك إلى الأقناع من أكناف يعر
ضوامر كالقداح ترى عليها يبيس الماء من حو وشــقر
نؤم بهـــا بلاد بنـــي أبيــــنا على ما كان من نسب وصهر
وفي الأبيات السابقة يذكر أسماء الأماكن ويصف حال الخيل أثناء الحرب كعادته
يمكننا أن نأخذ عينة من المعلقة لنرى شدة التشابه بينها وبين الأبيات السابقة من ناحية وصف الخيل أثناء المعركة وذكر الأماكن (ذي طلوح – الشامات – شرقي نجد - ) ذكر اسم ( قبيلة قضاعة ) وما آل اليه حالها
تركنا الخــيل عاكـــفة عليه مــقـلدة أعـــنتها صـــفـونا
وأنزلنا البيوت بذي طـلوح إلى الشامات تنفي الموعدينا
وقد هرت كلاب الحي منا وشـــذبنا قـــتادة مـ،،ـن يلينا
مـتـى ننقل إلى قـــوم رحانا يكونوا في اللقاء لها طحينا
يكـــون سفالها شـــرقي نجد ولهوتها قـــضاعة أجــمـــعينا
وفي قصيدة أوردناها سابقا في هجاء عمرو بن كلثوم تجده يسير على نفس نهج المعلقة ( من ناحية البحر – الوافر- والقافية – النون - وذكر المواضع والتهديد والوعيد قائلا له : (ديوان عمرو بن كلثوم ص28)
فلولا نعــمة لأبيك فينا لقد فضــت قــناتك أو ثوينا
أتنسى رفدنا بعويرصات غداة الخيل تخفر ما حوينا
نخلص مما سبق أن موضوعات شعره كلها تدور في حلقة واحدة ولا تتعدى الفخر بنفسه وأهله ووصف الحرب وصغا كاملا بما فيها من حال العدو ووصف خيولهم و.....بالإضافة لذكر أسماء القبائل والرجال والأماكن
لم يسلك عمرو بن كلثوم في شعره نفس مسلك شعراء عصره في – توجيه الخطاب لصحبيه – إلا في هجاء النعمان بن المنذر ( ديوان عمرو بن كلثوم ص 25)
ألا أبلغــا عني ســــليما وربه فزيدا عــلى مــئرة وتغضـــبا
فإن كان جد فأسعيا ما وسعتما وإن كان لعب آخر الدهر فألعبا
بحوره الشعرية :
كما أسلفنا في حديثنا السابق أن للشاعر أربعة وأربعين ومائتان بيتا من الشعر (244) تتوزع على النحو التالي :
يأتي الوافر في مقدمة بحوره الشعرية إذ أننا نجده قد كتب منه (172بيتا) اثنان وسبعون ومائة بيت ونسبتها (70.49%) من شعره ويكون بذلك قد تميز على معاصريه بتفضيلهم لبحر ي الطويل والبسيط في أشعارهم ومن سمات البحرين أنهما يصلحان للسرد والقص والحكي أما الوافر فإنه يصلح للتهديد والوعيد والكلمات القوية لذلك جاء استخدامه مناسب لحالة الشاعر النفسية ولاندفاعه الشديد
تلاه في الترتيب بحر الطويل الذي كتب فيه (36بيتا) بنسبة (14.75%) ثم يليه بحر الكامل الذي كتب فيه (14 بيتا) ونسبته (5.74%) ثم بحر الرمل الذي كتب فيه (11بيتا ) بنسبة (4.51%) . ونلاحظ أن الرمل والكامل كلاهما بحور خفيفة وذات نغمة موسيقية وفي اعتقادي أنها تتناسب مع حياة الجاهليين التي اتسمت بالسرعة ومع حياتهم التي كان طابعها التنقل وكثره الحركة أكثر من بحري الطويل والبسيط . و بحرا الكامل والرمل هي أكثر البحور الشعرية المستخدمة في العصر الحديث ( ومعها الخفيف ) ولعل هذا هو السبب الذي جعل منه شاعرا محبوبا في العصر الحديث وأكثر ألفة لأذن السامعين
نظم شاعرنا (5أبيات ) من بحر البسيط ونسبتها (2.05%) . ثم بحر الرجز الذي نظم منه ( 4أبيات ) ونسبتها (1.64%) ويأتي بحر المنسرح في الترتيب الأخير إذ كتب منه بيتان (2) ونسبتها (0.82%)
وبذلك يكون شاعرنا قد استخدم سبعة بحور شعرية من أصل ستة عشر بحرا مع وجود بحر واحد نظم فيه أكثر من ثلثي شعره
|