الدهام يدعو إلى خروج اللغة العربية من متاحفها

إبراهيم السواعير

 

قدّم مدير شؤون المحافظات في وزارة الثقافة الناقد الأديب د.سالم الدهام مداخلةً في ملتقى الهيئات الثقافية الأول في إقليم الجنوب، الذي افتتحه أمين عام وزارة الثقافة هزاع البراري، وحمل عنوان "دور الهيئات الثقافية في تعزيز الهويّة الوطنية".

وجاءت مداخلة د.الدهام خلال مناقشة محور"دور اللغة العربيّة في تعزيز الهوية الوطنيّة"، إذ مهّد بأنّ "العربية" لغة ضاربة في عمق التاريخ؛ بدليل أنّ كثيراً من الدراسات أشار إلى أنَّ إسماعيل عليه السلام قد تعلَّمها من قبيلة جرهم العربية التي كانت تقيم حول مكة، حيث وضعه أبوه إبراهيم عليهما السلام هناك، ثم شبَّ بينهم وصاهرهم لاحقاً، "جرهم" لم تصبح قبيلةً بين يوم وليلة، إذ هي ممتدة في التاريخ قبل ذلك وموغلة فيه، ولم يبحث د.الدهام في بداية تاريخ العربية، لأنه ليس موضوع المداخلة، إذ يكفي أن يقول إنها موجودة قبل الميلاد بآلاف السنين، لم تَبْلُ ولم تضع.
وأكّد الدهام أنّ اللغة العربيّة كانت على الدوام عنواناً لهوية الأمة وصمام أمان لحفظ وحدتها وضمان تماسكها؛ ذلك أنها السجل الذي يوثِّق تاريخها ومنجزاتها، وهي وعاء الفكر والوجدان بل هي هما معاً، مدللاً بقول أحد شعراء "العربية": "لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم"، وقول عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: "تعلّموا العربيّة، فإنّها تنبت العقل وتزيد في المروءة"، وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين مرّ على قوم ينبلون، فقال لهم: "والله إن خطأكم في نبالكم أهون علي من خطئكم في لسانكم".

وقال إنّ اللغة العربيّة كانت هدفاً للغزاة من أجل إخضاع أهلها الذين صمدوا في وجه الفرس والرومان والمغول وأخيراً المستعمرين الأوروبيين الذين أدركوا سر بقاء هذه الأمة، فعمدوا إلى محاصرتها وتحجيمها وعزلها عن محيطها الاجتماعي لتظل لغة متحفية محنطة بين قلة من الناس وفي دروس الوعظ والإرشاد وخطب الجمعة والكتاتيب، ودور تعليم القراءة، فعمل الفرنسيون على فرنسة اللغة العربية في عموم شمال إفريقيا العربية ولاسيما الجزائر، وكذا الدولة العثمانية في بلاد الشام أواخر عهدها، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل إن اللغة باتت غريبة بين أهلها وذويها؛ إذ انبرى نفر من المغرضين قبل أكثر من مئة سنة ونيف أمثال أحمد لطفي السيد وسلامة موسى إلى المناداة بتبسيط العربية، إلى حد إجازة الكتابة بالعامية.

وأعرب الدهام عن أسفه لما حدث بعد مضيّ أكثر من مئة عام على تلك الدعوات المشبوهة؛ فبدل أن يعلق جرس الإنذار منذ ذلك الحين صارت "العربية" فقط لغة القراءة في المناهج المدرسية، بينما راحت تزاحمها العامية في المحادثة فضلاً عن القراءة والكتابة، خاصة مع بروز منصات التواصل الاجتماعي مؤخراً منذ ما يقرب من خمسة عشر عاما، ووجود برامج تغني عن القراءة عبر تحويل الصوت إلى نص مكتوب، واقتحام عالم القراءة والكتابة من لدن أناس شبه أميين.
وقال إن بداية تفتح وعي الأمم التي كانت تتكلم اللاتينية على التفكك والانسلاخ من إطارها الوحدوي العام بدأ لغوياً وانتهى جغرافياً، وكان ذلك قد نما وترعرع مع ترجمة "مارتن لوثر" الإنجيل إلى الألمانية قبل حوالي خمسة قرون ونيف، مع أن هذه الخطوة كانت بادئ ذي بدء خطوة على طريق الإصلاح الديني، لتسهيل فهم الكتاب المقدس باللغة المحلية، غير أن اللغة قد فعلت فعلها مع الأيام، بعد أن انتقلت العدوى إلى سائر الأمم الأخرى.

وتفاءل الدهام بأنّ "العربية" ستظل باقية محفوظة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فذلك قول لا ينكره مسلم فضلاً عن عربي إيمانا بقوله تعالى: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، وسيظل الذكر المكتوب بالعربية حياً ما شاء الله له أن يحيا، ولفت الدكتور الدهام إلى أنّ الحياة للغة الفضلى ليست تلك التي في التعبد والصلاة فحسب، لاسيما أن صلة الناس بكتابهم قد باتت صلة رمزية، موضّحاً أنّ الحياة التي تكفل للغة ألقها تكون حين تتجاوز اللغة المؤتمرات المختصة، والمتاحف اللغوية في المعاجم ومجامع اللغة العربية وأقسامها في الجامعات وغير ذلك لتجري على ألسنة الناس كما يجري الماء في أعالي المنحدرات، تلك هي الحياة التي تزيد في مروءة أهل "العربية" فينشرونها كما انتشرت على أيدي أسلافهم الأُوَل في شتى بقاع الأرض.

عمون