لغة مقدسة بسبعة أرواح وبشر عاديون.. هل العربية غير قابلة للتجديد؟

عارف حمزة

 

عادة نسمع، هنا وهناك، عن امتعاض بعض الكتاب والدارسين وكذلك بعض المترجمين من عدم قابلية اللغة العربية للتجديد، وأنها ليست مرنة ولا تستطيع أن تواكب تطورات العلم والتكنولوجيا مثل اللغات الأجنبية، بل يصل الكلام لدرجة القول إن اللغة العربية "لغة ميتة وغير قابلة للتجديد".

حول هذه المقولات توجهنا لاستمزاج آراء عدد من الكاتبات والكتاب في يوم اللغة العربية.

علي المقرّي: العربية وتطوّراتها الهائلة
يرى الروائي اليمني علي المقرّي أنّه لا توجد لغات ميتة ولغات حيّة، فكل اللغات تتطور أو -على الأقل- تتحوّل إلى لغات أخرى، بما في ذلك لغة الإشارة.

وقال المقرّي للجزيرة نت إن هناك لغات تقادمت أو تحولت إلى إرث لغوي غير متداول سوى في الدراسات، "لكن ما ألاحظه بالنسبة إلى اللغة العربية أن هذه اللغة مرّت بحركات تطورية هائلة تعكس التحولات الكبيرة التي مرّت في التاريخ العربي". 

ويرى المقرّي أننا لم نعد نكتب بمفردات ما يسمى بالعصر الجاهلي، أو العصرين الإسلامي والأموي، أو العصر العباسي، "وإنما بمفردات اشتقاقية هائلة، اتخذت -في معظمها- معناها من الواقع الحالي، وليس من جذورها اللغوية القديمة".
اعلان

ويرى صاحب رواية "بلاد القائد" أن هناك لغات صارت متمركزة في العالم بسبب استخدامها في جوانب الحياة المختلفة، وبالذات في الجانب العلمي، نتيجة لحركة تطور العلوم في المجتمعات الناطقة بها. 

ولكن هذا لا يعني عدم تطور اللغات الأخرى بحسب المقرّي، "فاللغة العربية، مثل الكثير من اللغات، لديها إشكاليات تتعلق بالاشتقاقات اللغوية وتماثل المعاني فيها، لكن القول إنها لغة ميتة إمّا يندرج تحت الوهم الاستعلائي عن تفوق ثقافة على أخرى أو نتيجة جهل بهذه اللغة، وهو موقف لا يختلف عن مواقف الأصوليين اللغويين الذين يعيقون تطور المفردات اللغوية العربية وتحوّل معناها، فنجد النحويين -وهم من أبرز معوقي تطور هذه اللغة- عادة ما ينشرون تصحيحاتهم: قل كذا... ولا تقل هكذا...، ويعتبرون الحركية الحية في اللغة ومعانيها أخطاء شائعة". 

عيسى الشيخ حسن: لغة تنمو رغم الحروب والهجرات
ليست هذه القضية جديدة بحسب الشاعر السوري المقيم في قطر عيسى الشيخ حسن الذي يرى أنه ربما كان بحثها في مستهل الاحتكاك مع الآخر أجدى وأدعى، أيّام الاستعمار وما قبله، حين اصطدمت ديباجة (أساليب) الغرب النشطة بديباجة الشرق المتطامنة الكسولة، فخرق "الجورنالجي" سفينة البلاغة غصبا، لمصلحة المفهوم الواضح البسيط على حساب البليغ، والرتيب المنمّق.

ويستطرد الشيخ حسن بأنه خلال أكثر من قرن، جرى في الوادي القديم نهر بلاغة جديد، أسهم فيه الشاعر "نزار قبّاني -على سبيل المثال- والروائي والصحافي والمترجم والناقد، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى إسهامات المدرسة المغاربيّة في زرق اللغة بحقنةٍ مغذيّة: الجابري، العروي، جعيّط، وغيرهم".

ويجد الشيخ حسن أن الوضع ليس سيّئا تماما، "فاللغة تحرز تقدّما على صعيد الانتشار، مع الأحداث السياسية الجارية، وتنمو في أوساط جديدة بفعل الحروب الناشبة منذ نصف قرن والهجرات الجديدة، وكل هذا يعد بدروب جديدة تسلكها اللغة، ولم تعد الترجمة من اللغات الأخرى إلى العربيّة فحسب، بل باتت من العربيّة إلى تلك اللغات، وإن كانت في نطاقٍ ضيّق".

ويرى صاحب المجموعة الشعرية "مرّوا عليّ" أن وصف "ميّتة" وصف قديم، "ولا نستطيع أن نقول الآن إنّه جائر، لمسوّغاته الكثيرة حين ذاك، ولكنّنا الآن تجاوزناه".

أسماء حسين: الحرّاس المتزمتون والموت السريري

وتؤكد الكاتبة والمترجمة المصرية أسماء حسين من جهتها للجزيرة نت أنّ اللغة العربية -بعكس بعض الانطباعات التي تشير إلى قصورها عن التعبير أحيانا- تعد من أكثر اللغات مرونة.

وتبرر ذلك بأن للعربية "نسيجا طيعا يمكننا أن نضيف عليه ما نشاء من مفردات وألفاظ بما يتناسب مع كل مرحلة حضارية، فهي أولا وأخيرا تنتمي لنا، وقاموسها تحت تصرفنا. لذلك علينا الحرص على تجديدها بما يخدم متطلباتنا اللغوية لكل عصر".

وتستدرك صاحبة ديوان "أجمل الوحوش التي عضّت روحي" أنه ليس من الصحيح التعامل مع اللغة باعتبارها حبيسة داخل كهف يقف على أبوابه حراس لها، يظنون أنهم هكذا يخدمون لغتهم من التحريف أو التشوّه، فهم لا يستوعبون أن "حراستهم المتزمتة تلك تقود اللغة إلى الموت السريري".

وتستطرد أسماء بأن إحدى أزمات اللغة تكمن في "هرب أصحاب اللغة من لغتهم إلى لغات أخرى للتعبير"، وذلك حين لا تتوفر فيها صيغة تعبير منشودة في الحديث أو الكتابة عن مجالات شتى. 

وقالت أسماء للجزيرة نت إنه بسبب خشية المساس "بجذور اللغة"، لا نفكر بإضافة صيغ متفق عليها، في الوقت الذي "تتوفر عديد من المفردات في لغات أخرى، ميسرة واضحة، وقابلة للاستعمال، دون تخوفات أو تعقيدات نحوية".

أيضا هناك إشكالية المفردات الجامدة في الفصحى، والتي يبرر اللغويون التمسك بها كأصول لا يجب تحديثها، ويمكن استبدالها بمفردات أخرى أكثر مرونة، "ولكن تجد نفورا أو تخوفا من استخدامها لتشابهها مع العامية العصرية، مثل مفردة: تلفزيون، التي ما زال هناك إصرار لقصرها على: تلفاز، باعتبارها أصح لغويا، ونبذ الأخرى كشبيه عامي أو مستنسخ أجنبي، برغم استخدامنا لها في لساننا اليومي بالفعل، بينما في الحقيقة من الواجب اعتبار كليهما صحيحا، فمفردة تلفزيون أكثر ملاءمة للعصر وأقرب لألسنتنا"، وذلك وفق أسماء حسين التي تعتقد أن لغة اللسان الفاعلة لا بد من اعتبارها جزءا من تكوين اللغة الفصحى واستلهام المناسب منها، للإضافة عليها وتحديثها بما يحقق التوازن العصري للغة.

وفي استفسار للجزيرة نت عن استخدامها تلك المفردات في الكتابة، تقول المترجمة المصرية: "يحدث أن أتلقى أحيانا نقدا يخص استعمالاتي للغة، ومحاولات لتصحيحها وإعادتها إلى مسار الفصحى الثابت، بينما تخرج المفردات مقصودة تماما مني على هذا النحو، وأنا على قناعة تامة أن تطويري من التعبير بالعربية بما يناسب حاجة النص ويكسر عجزه اللغوي، أكثر نفعا وإثراءً للنص من التزمت الذي يقتل روحه المطلوبة. وبناء عليه، أعتبر لغتي العربية معيارية متطورة باستمرار".

إبراهيم حسو: لغة بسبعة أرواح!

من جهته، قال الشاعر والناقد السوري المقيم في ألمانيا إبراهيم حسو إن "اللغة العربية ما زالت فتية وبسبعة أرواح، وهي فقط في مرحلة إعادة تحضير الهيكلة التحتية. هي  متكاسلة وخاملة ومركونة في مطرح ما من الذاكرة".

ويقصد حسو بالذاكرة تلك "الذاكرة القلقة التي تتجدد بخراب لغات أخرى؛ كما كانت العبرية التي أعادوها للحياة بعد أن غدت في مثيل الموتى منذ أكثر من قرن".

ويرى حسو في حديثه للجزيرة نت أن "العبرية" عادت وأضحت من اللغات الكتابية والتعبيرية، كونها من اللغات المتقلبة أو ما يمكن تسميتها باللغات التي تعيد ولادة ذاتها، أي تلك التي تولد من رحم ظروفها، "كما هي اللغة العربية، مع تباين متواضعٍ ومتعالٍ؛ وهو أن اللغة العربية ولدت من قربى اللغات الأخرى. والعبرية واحدة منها".

ويتساءل حسو: هل تستمكن العربية أن تبارك إنتاج معجمها وجزالتها كما كانت قبل الجاهلية وبعدها؟ هل اللغة العربية لغة الدين أو القراءة التأويلية التي لا تصلح للعلوم البصرية وغيرها من العلوم الإجرائية؟ لماذا أبقيت هذه اللغة متأخرة مع مجيء التكنولوجيا و توابعها؟

ويجيب الحسو للجزيرة نت بأن ذلك ربما يكمن في انعزال الكاتب العربي عن منبته اللغوي، مع ارتقاء اللغات الحية مثل الإنجليزية كلغة الكتابة والأدب وكلغة التكنولوجيا بكل معالمها.

ويعزو حسو ذلك لكونها من اللغات المرنة الطيّعة التي تصلح للترجمات من كل اللغات وإليها، ويضيف "ومع هذا ثمة مؤلفون وناقلون يجربون إحياء هذه العربية، وفرض شراكتها عبر كتّاب الروايات والنصوص التقليدية المتاخمة للعصرنة، وتدعيمها بإدماج الألسن الأصيلة ومشتقاتها ضمن انتعاش المفردات وتحولاتها، وعبر تحفيز وإنجاح الخطابات المتقاعسة التي تعطل استمراريتها وبقاءها"، وينتهي إلى أن اللغة العربية ستعيد تصنيع نفسها إذا تغلغلت في التعليم والأبحاث الجامعية بطرق أيسر وأوضح.

ويرى حسو أنّ ما يحسب للغة العربية هو تحديها ومواجهتها للبعثرة والتشتيت والتغييرات التي تصاحب التطور العصري في العلوم وما يلحقها، كما كل اللغات العالمية التي تتآكل وتتراجع أمام الإنجليزية والفرنسية، اللتين تبتلعان اللغات الهشيشة المعتلة.

واستطرد حسو أن كل اللغات التي أبقيت صامدة وصلبة هي تلك التي بنت لنفسها ركائز مستحدثة وقواعد سلسة "خططت لصوغ دراسات لسانية تشرف على عافية اللغة واعتلالها، بكل منظوماتها الصرفية والصوتية والسمعية وما شابه ذلك من معطيات معرفية حديثة".

طارق إمام: لغة مقدسة وبشر عاديون

لا يتذكر الروائي المصري طارق إمام متى قرأ مقالا لأحد المستعربين كان عنوانه "لغة مقدسة وبشر عاديون"، لكن هذا العنوان لخص له الكثير من جوانب مأزق لغة يحتاجها الاستعمال، وفي الوقت نفسه يتشبث بها النص المقدس كي تبقيه في حاضر ألسنةٍ لا تكف عن التغير.

وقال للجزيرة نت إن اللغة (العربية في حالتنا) هي طريقة المبدع الوحيدة لابتعاث العالم في نص مكتوب. "أي أننا نتحرك بداهة من داخل شرطها، لكن مشكلة اللغة العربية في ظني هي أنها تلامس المقدس، أو تنوب عنه، أو تحمي استمراريته، بالتالي فمغامرة المبدع العربي مع اللغة تكاد تصل في خطورتها للتجديف".

ويرى إمام أنّ الخشية من تطور العربية هي خشية تغريب النص وتحوله إلى مهجور، وأن فقهاء اللغة العرب (وبينهم مثقفون) هم في الغالب أنفسهم "فقهاء الدين". فيجد إمام أن "الأصولية اللغوية هي الوجه الآخر للأصولية الدينية. حتى اللهجات المحلية ثمة حرص على ألا تلوث واحدية اللسان المبين، لذا تُستخدم على استحياء"؛ والمبدعون -قبل غيرهم- يفرضون الرقابة على أنفسهم في توظيفها. 


من هنا يرى صاحب رواية "طعم النوم" أن العربية قاصرة بالتأكيد في عدد من المناحي، والترجمة تكشف ذلك بوضوح، كما يكشف العلم هذا المأزق أكثر من الفن. ويستطرد إمام للجزيرة نت أننا "لا نكاد نعثر في العربية على ما يسعفنا لنترجم مصطلحا مثلا. لا أتحدث فقط عن العلوم الطبيعية، لكن المسألة تمتد للعلوم الإنسانية كعلم الجمال ومن داخله النقد الأدبي".

من هنا يجيء "الاجتهاد الاضطراري" الذي يتحول بدوره -بعد حين- لما نسميه فوضى المصطلحات، ومن ثم يرتبك المعنى الذي يبحث عن تسمية غير موجودة، على حد وصفه.

ويرى إمام أن اللغة العربية تحتاج "لقدرٍ من الشجاعة في توسيع المعجم"، تحتاج ألا يجعلها حرصها على "النقاء" تطرد كل ما من شأنه تلقيحها، خاصة أنها تواجه خطرا آخر هو توحش الهوة بين لغة التدوين وشفاهة مدونيها حين يتحدثون.

وعاد الإمام بدوره للحديث عن حرّاس اللغة، فقال للجزيرة نت "ربما لا أغالي إن قلت إن إصرار حماة اللغة على احتقار اللهجات المحلية والتحذير من توظيفها داخل النصوص الجمالية للأدب، قد غرب هذه اللهجات في ما بينها بقدر ما غرب اللغة عنها جميعا". 

الشاعر حسين مقبل: التكنولوجيا الرقميّة وتراجع اللغات

أما الشاعر اليمني المقيم في ألمانيا حسين مقبل فيستند إلى المقولة العربية القديمة: لكل ساقطة لاقطة؛ "والساقطة في المثل هي الكلمة، فتلتقطها الأُذن ويترجمها اللسان بعد ذلك". 

ويضيف "وإذا بدأنا بالمقدمة هذه كمدخل للحديث عن اللغة العربية وإشكالية التجديد فيها، فسنجد أن الأمر (بالنسبة لي على الأقل) لا يحتمل إطلاق الأحكام: أسود أبيض، حي ميت، فما بالنا باللغة الرابعة في العالم من حيث المتحدثون بها"، وفق دراسة عن ترتيب استعمال اللغات على الشبكة العنكبوتية عام 2012 من قبل منظمة الإنترنت العالمية.
اعلان

وقال مقبل للجزيرة نت إنّ مرونة أي لغة تأتي بالتزامن والاتساق مع الاستقرار الذي تشهده "مواطن" المتحدثين بها، "فمجمع اللغة العربية (مصر) مثلا، غير قادر على مواكبة المصطلحات الجديدة التي تظهر في شتى مجالات الحياة، مثل العلوم والصناعة والاقتصاد والرياضة، فيكتفي بإعجام المصطلحات وتمريرها كما هي لأنها وليدة بيئتها".

ويرى مقبل أن هذا ما يجعل البعض يقولون "بمرونة اللغات الأخرى وجمود اللغة العربية" التي تحمل المتغيرات السياسية والحضارية جزءا كبيرا من جمودها.

ويستطرد مقبل للجزيرة نت بأنه لا يمكن تحميل اللغة وزر التأخر والتشظي الذي تعيشه البلاد العربية، خاصة لجهة عدم تحدث من ينتمون إليها بها، والاستعاضة عنها باللغة الشعبية الدارجة لا يعني موت اللغة بالضرورة، فهي "لغة التعليم والصحافة والسياسة والثقافة، فإذا اندثرت كلغة محكية، فهي ما زالت حاضرة وبقوة في الوعي الجمعي العربي عبر لغة خطابها". 

ويرى مقبل أن اللغة العربية في حالة سكون كنتيجة طبيعية لحالة الموت السريري الذي تعيشه جغرافيا الناطقين بها.

أما بالنسبة لجمودها في الترجمة عند النقل، فيجدها مقبل إشكالية تخصّ لغة عالمية مثل اللغة الإنجليزية، التي لا توجد فيها أدوات ربط مثل تلك التي في اللغة العربية، "فيستعيض المترجم بالمعنى كي لا يفقد نقلها من لغة إلى أخرى بريقها".

وشدد المقبل للجزيرة نت على أننا يجب أن "لا ننسى دور التكنولوجيا الرقمية ودورها في تراجع الكثير من اللغات بسبب التعامل مع هذا المجال بلغةٍ واحدة إلا ما قل".

الجزيرة