أ. مها حسن
(عندما قرر الفيلسوف الألماني أدورنو أن يغادر أميركا وقد صارت له صولات وجولات فيها، سألوه، إلى أين ستذهب؟ فقال: إلى لغتي)- هكذا كتب الشاعر السوري خضر الآغا، المقيم في ألمانيا، على صفحته في الفيسبوك، بمناسبة اليوم العالمي للّغة العربية، الذي صادف أخيراً، دون أن يضيف أو يشرح حول موقفه ومعاناته الشخصية، إذ أن استناده على مقولة الفيلسوف الألماني، كافية لتعبّر عن فقدانه لوطنه.
الروائية السورية، روزا ياسين حسن، المقيمة أيضاً في ألمانيا، كتبت عن العصا السحرية التي كانت تمتلكها هناك في بلدها، وافتقادها لقوّتها السحرية، وهي تعيش في بلاد جديدة، لتقول: (في بلادي البعيدة لم أكن أعرف بأن اللغة هي العصا السحرية. فقد عشت كما يعيش معظمنا بدون إدراك لقوة السحر: اللغة. وبالمناسبة ثمة الكثير من الساحرات والسحرة في بلدي البعيد. لم أدرك ذلك حتى ألفيت نفسي فجأة في الـ"هناك" بدون عصاي. كيف يمكن لساحرة أن تمارس سحرها بدون عصاها السحرية؟! تُجرّد بلحظة من كل قوتها: اللغة، التي قضت عمرها تراكمها كلمة وراء كلمة، وتعويذة وراء تعويذة. تغيّر اللغة لا يعني تغيّر الكلمات أو الألفاظ، تغيّر اللغة يعني تغيّر نمط التفكير، العقل وارتكاسات الروح. فلكل لغة عواطفها ومزاجها.. وأيديولوجياتها. هذا يعني أن تعويذات السحر القديمة، التي قضت عمرها تتعلّمها، لا تساوي في المنافي شيئاً، ليست أكثر من فولكلور غريب تقوله امرأة غريبة ويسلّي جمهور المسرح.
نتحوّل فجأة حين نفقد لغتنا من ساحرات عظيمات إلى مجرّد كائنات مهملة فولكلورية يخونها التعبير والقدرة على التأثير في أي شيء!).
معاناة استخدام اللغات الجديدة
أتابع في كل يوم الأسئلة التي صارت نمطية لدى السوريين المنتشرين في المنافي، حول معاناتهم في استخدام اللغات الجديدة، هذه الغربة اللغوية التي تزيد من شعورهم بالمنفى، لتكون اللغة الجديدة بمثابة جدار يحول بينهم وبين مواطني هذه البلاد.
تذكرتُ معاناتي اللغوية الطويلة في فرنسا، وقد وصلتُها قبل سنوات من مغادرة أصدقائي السوريين لبلدنا هناك، وكيف أتحدث بالعربية، حين أشعر بالإرهاق، فتنفلت مني بعض العبارات، أمام أصحاب لا يعرفون لغتي الأولى.
في فرنسا، ونحن نملأ سيرنا الذاتية، لنقدمها لدوائر رسمية، نملأ دائماً حقلاً يدعونه باللغة الأم. واللغة الأم في فرنسا، هي اللغة التي نتعلمها في المهد، التي تدندن لنا بها أمهاتنا، قبل أن نعي معنى الكلام.
"يُقال إنه حين يداهم الموت أحدنا، نشعر بالحنين إلى أماكننا الأولى، وتنطلق لغة تلك الأمكنة على ألسنتنا"
تعلمتُ السحر، كما تستعمل روزا من وصف، عبر هذه اللغة. فُتنتُ بها، وإن كنتُ قادمة من بيئة مغايرة، تعيش هذا التناقض بل والاغتراب بين لغتين: لغة تتعلمها في المدرسة، وتسمعها في نشرات الأخبار الرسمية، والدوائر الحكومية، ولغة البيوت والحارات والأقارب والجيران..
كنتُ أملأ باكراً تجاويف دماغي اللغوية، أتحايل على تداخل اللغات في بيت أهلي: العربية الفصحى، المحكية السورية، الكردية، والتركية أحياناً..
كانت جدة أمي التركية، تقذف بمفردات تركية بين عباراتها، ليستعين دماغي بمترجم آلي يسكن فيه، بعد أن صارت لدي معادلات لفظية بالعربية، لكلمات جدتي التركية. أما جدتي الكردية، فقد كانت تجهد في استعمال العربية معنا، نحن أحفادها، الذين نتكلم جميعاً باللغة العربية، التي لا تتقنها جدتي، وحين كانت تهدهد لنا، مسترخية، بل ونحن مسترخين في حضنها، كانت تدندن كلمات بالكردية.
أما أمي، موّرثتي اللغة، لغة السحر، فلطالما قصّت عليّ حكاياتها السحرية باللغة العربية، فهي قادمة من بيت يتحدث العربية على الأغلب، لأن أمها عربية.
بحثاً عن التفوق المدرسي، جذبت معي براعتي باللغة العربية، وصرتُ من المتميزات في صفوفي الأولى، تطلب مني معلماتي القراءة لباقي الطالبات، بل وشرح القواعد وتفسير المفردات.
برعتُ في الإعراب، ووجدته يحتاج إلى دقّة كأنه عالم من معادلات الرياضيات: أحببتُ اللعب مع الأفعال المعتلّة، لأظهر براعتي في الجزم، وأحببتُ قاعدة كسر التاء في حالة نصب جمع المؤنث السالم، بدل الفتحة..
في الثانوية العامة، وأنا أنظر إلى جدول علاماتي، احمّر وجهي من الحياء، لأنني كنت وحدي، بين جميع البنات، التي أحمل أعلى علامة في اللغة العربية. ذلك الرقم الذي رفع من مجموع علاماتي، وأهّلني لدخول كلية الحقوق.
قال لي زميل يقف في الساحة، ينتظر علامة أخته: ما دخلك أنت باللغة العربية؟ أنتم أكراد!
تذكرت ذلك الألم على وجه أبي، وهو يكرر حديثاً منسوباً إلى الرسول، لم أعثر عليه يوماً: أنا عربي، والأعراب ليسوا مني! كان أبي يشعر بهذا النبذ باكراً، لكنني لم أستسلم لانكسار أبي. سألت معلمة اللغة العربية، التي كانت تميّزني كأنني ابنتها، فشرحت لي الفارق بين العرب والأعراب، حيث لا يقلل استعمال وصف أعرابي من قيمة أحدنا. هكذا، تابعت سيري واستمتاعي بتذوق اللغة العربية، التي جعلتني أقرأ خارج منهاج المدرسة، وفتحت أبواب العالم أمامي، لأقرأ سارتر ونيتشه ورامبو، وكل هؤلاء الكبار، باللغة العربية.
لن أتحدث عن معاناتي في الجامعة، ثم المعاناة الأكبر وأنا أدخل عالم الكتابة، لأتلقى هذا النبذ، لأنني كردية، كأنني أقتحم أرضاً ليست لي، ليكتب صحافي وناقد سوري في جريدة رسمية، بعد ظهور اسمي في لائحة البوكر للرواية العربية: لكنها جائزة للرواية العربية! ملمّحاً إلى وجود روايتي.
حسناً، جئت إلى فرنسا، وكنت أقول لنفسي، لو أتيح لي توجيه رسالة إلى قوى غامضة سحرية، تستجيب لرغبتي، لطلبت أن يتحدث الفرنسيون العربية. نعم، حين يسترخي عقلي، بعد التعب والكلام الطويل، تقفز الكلمات العربية من بين جملي الفرنسية، كما كانت تفعل جدتي التركية: تنقذنا اللغة الأولى، وتطبطب علينا، وتحمينا من الإرهاق.
يُقال إنه حين يداهم الموت أحدنا، نشعر بالحنين إلى أماكننا الأولى، وتنطلق لغة تلك الأمكنة على ألسنتنا.
ماتت جدتي التركية وهي تُكثر من استخدام مفرداتها الأولى، وكذلك كثّفت جدتي الكردية لغتها الخاصة، قبل أن تموت..
أما أنا، فصار عليّ الاستعانة بالفرنسية أحياناً كلغة حامية، لأشعر بالتوتر، وأنا أتحدث بهذه اللغة، ثم تقوم مترجمة/ أو مترجم، بتحويل فرنسيتي، إلى الإيطالية، أو الهولندية، أو أية لغة أخرى، تضع حائطاً بيني وبين الفرنسية.
سألت جوزيف، ناشري الإيطالي الذي رافقني في جولتي في إيطاليا، وكنت أتحدث بالعربية في أمكنة، وبالفرنسية في أخرى، حسب توفّر المترجم، وكان جوزيف يصغي إلى الترجمة الإيطالية: أين وجدتني أكثر ارتياحاً ودقّة في الإجابات؟ أجابني جوزيف: بالعربية.. كنتِ تتألقين، وتصحبين شخصاً آخر!
في ملتقى جامعي، وفي وسط أكاديمي رسمي، أتحدث فيه بالفرنسية، اضطررت لاستخدام مفردة لم أجد معادلها بالفرنسية، حيث سألت الأستاذة الجالسة بجواري، وهي من أصل سوري، ومن حلب تحديداً: بيتوتية؟ فانفجرت السيدة الرصينة بالضحك. أجابتني، لكننا لم نتوقف عن التهكّم السري بيننا، ونحن نتبادل مفرداتنا الحلبية الخاصة بيننا، ونشعر بدفء يحطم قواعد الجلسة الرسمية، لننقل عدوى الضحك إلى الباقين، كأن لغة حلب، جلبت بيوتها الحميمة ولغة نسائها الساخرات، بل لغة الشارع التلقائي، الضارب عرض الحائط بكل هذه القواعد..
ارتباك لغوي
في بيت أهلي أيضاً، كانت أمي تستعمل معنا الكردية، لتأنبينا أو لتنبيهنا، أمام جاراتها العربيات، وتستخدم معنا العربية، في مواقف مماثلة، أمام قريباتنا الكرديات، لتحظى أمي، بلغة سرية مزدوجة، تلجأ إلى كل منها، أمام غربة الآخر..
اليوم، في فرنسا، البلد الذي أحبه وأنتمي إليه بقوة، ولا أرغب مثل الفيلسوف الألماني أدورنو بتركه إلى أرضي الأولى، أشعر بارتباك لغوي، بين الفرنسية اليومية، والعربية كهوية أدبية، حيث وجودي في الحياة متوقف على كتابتي، وكذلك يزداد ارتباكي، بل وغربتي، وكثافة منفاي، وأنا أستمع إلى أقاربي يتحدثون باللغة الكردية، ويجهدون حين يتحدثون إليّ بالعربية.
أما الشعراء والكتّاب والنقّاد الأكراد، الذين أضافوا على اللغة العربية، مثل الباحث عدنان عيدان، الكردي العراقي المتخصص في برمجة اللغة، ومخترع مترجم "الوافي" الذي يُعتبر أول برنامج ترجمة إلكترونية، وغيره من الأسماء الشهيرة في الأدب والفكر، فسيأتي ذكرهم لاحقاً.
العربي الجديد