اللغة الإعلامية بين الإنضباط والإنفلات

أ. نهاد نجيب

 

احدق في الظلام الذي يكتنف حياتنا الإعلامية وبخاصة المرئية والسمعية والأمل يراود قلبي  في كل لحظة أن يدفع  حكماء المهنة الجميلة مصراعي  نافذة الإبداع المغلقة فيردوا  الى أنفسنا الروح التي سلبها جهلة العصر وانصاف المتعلمين في الزمن الذي نعيشه اليوم  حيث واجهت  وسائل الإعلام من فضائيات تحديات كثيرة..وأزمات شتى..وتعرضت لالوان المحن وضروب الكيد من المتخلفين من حيث الثقافة اللغوية والادائية (علم الصوت وفن الإلقاء )..ومن شايعهم فعملوا جميعا وخاصة في السنوات الأخيرة وإلى يومنا هذا على إضعاف اللغة العربية وتشويه فصاحتها عبر المهنة الإعلامية الناطقة وتشكيك أهلها..هدفهم من كل ذلك تمزيق الثقافة اللغوية والادائية وتدمير حيويتها وحرمانها من نسيم الحياة..وكأني بالاعلام الرصين يرفرف كالطائر الحبيس يريد ان ينطلق إلى الاجواء الصحيحة للإبداع  وإلى التمجيد والثناء الذين كان يتصف بهما  في ازمنة ازدهاره  على عكس الهاوية التي انحدر إليها الإعلام اليوم  … وفي مثل هذه المرحلة العصيبة نحس إحساسا حثيثا  وفي شيء من الذهول أنه ينبغي أن نبذل الجهود لاعزاز لغة الإعلام  ورفع شأنها  والحفاظ على سلامتها..وهي مهنة ليست وسيلة تخاطب وأداة فهم فحسب  وإنما هي بجانب ذلك تضطلع بدور قومي كبير على بقاء ثقافتنا وتراثنا  وازدهار حضارتنا…. وانطلاقا  من حركة تنقية لغتنا الإعلامية  وتصحيح ما يشوبها من الاخطاء والألحان ورصدها على ألسنة المذيعين والمذيعات ومقدمي البرامج ومقدماتها والحرص على تصحيحها..ينبغي تيسير تعليم اللغة العربية وفقهها ومخارج حروفها وتخليصها مما تعانيها من تعقيد واضطراب..وتحقيق النهضة المهنية الرصينة لشريحة المذيعين بصنوفهم كافة..يتوجب على المعنيين من أصحاب وسائل الإعلام المختلفة وخاصة إدارة الفضائيات والعناية والاهتمام في مجال الاختيار والاختبار  وحصد المبدعين من المذيعين  وإعادة الثقافة الإعلامية من لغة سليمة وإلقاء متقن  إلى سيرتها الأولى من الصواب… ومن أشد المحن التي أصابت  اللغة العربية  أن أناسا  من أبناء العربية الذين يرومون تعلمها  ويتخرجون من الجامعات  ومعظمهم لا يستطيع أن يكتب بضعة أسطر بلغة قومه أو يتحدث بها خاليا من الخطأ..وكذلك تسمع أساتذة كبارا ووزراء ونواب وسفراء يلقون أحاديث في المجالس الأدبية والندوات الثقافية والعلمية والمؤتمرات السياسية فتدرك ما يعانون من إحساس باهظ بعقدة اللغة التي ترهقهم بالشعور بأنهم لا يملكون أداة التعبير السليم الطلق عن افكارهم وما أكثرهم!!!! وتشتدالازمة وتتفاقم المشكلة حين تجد معظم مذيعي الأخبار ومقدمي البرامج في الفضائيات ينطقون اللغة العربية برطانة ولحن ينبو عنهما حس العربية ويتكلمونها بصورة محرفة ولا يخجلون منها..


لغة القرآن

إن على جمهرة المذيعين خاصة والاعلاميين وأصحاب القلم عامة أن يتابعوا خطى من سبقهم في الذود عن لغة القرآن الكريم وانهم مدعوون الى ايصال الكلمة الطيبة لمشاهديهم ومستمعيهم وقرائهم.. وفي إحصائية دقيقة ومدروسة لأصوات بعض مذيعي اليوم بل ربما معظمهم عبر القنوات الفضائية العراقية والعربية  بشكل عام  وصلت إلى استنتاج مفاده أن الصوت كما أؤكد عليه دائما لا يكفي أن يكون قويا حتى يستحوذ على الممرات التي تؤدي الى الأذن والقلب..

القوة وحدها لا تكفي..إن قوة الصوت الحقيقية يجب أن تكمن في كيفية السيطرة عليها وإدارتها بالشكل الذي يوفر أكبر قدر ممكن من التلاحم بين الصوت والنفس..وبين الحنجرة وقدرات عظام الفكين..وتطويع مجمل جهازي الفم والتنفس في التوفيق بين القرار والجواب..وبين الانضباط والانفلات المحسوبين بدقة تامة..ودعونا بعد ذلك ان نقول لمن يريد أن يكون مذيعا إن أصوات المذيعين الرواد الأوائل كانت من هذه الفئة القوية ولكن بلجام ومقود وأجهزة انضباط.. وفي بداية العمل الإذاعي والتليفزيوني لعقود طويلة مضت نجد من الغريب أن أصوات المذيعين الاوائل في الخمسينات والستينات القرن الماضي لم تكن مدربة تدريبا فنيا وعلميا كما تدرس اليوم في المعاهد  والاكاديميات الإعلامية..بل كان تدريبها على مقاييس بدائية لا يعتد بها ولا يقام لها أي وزن..كانت الأصوات تصدر من حناجر طبيعية لا تكلف فيها  ولا اصطناع..هي من صنع الطبيعة وحدها لا من صنع اساتذة التدريب الصوتي..وعلى هذا الاساس كان إختيار المذيع  يتم بنهج دقيق من قبل علماء اللغة المشهورين آنذاك وفي مقدمتهم العلامة الدكتور مصطفى جواد والعلامة البارز الشيخ جلال الحنفي رحمهما الله تعالى..

ولذلك كله أنجبت الإذاعة العراقية ومن بعدها تلفزيون بغداد أروع المذيعين واشهرهم..الذين كانوا يتصفون بحناجر ذهبية  من صنع الطبيعة واهمهم (محمد علي كريم..سعاد الهرمزي..حافظ القباني..ناظم بطرس ..عادل نورس..عبد الحميد الدروبي..مال الله الخشاب..سليم المعروف..أحمد الحسو..سينان سعيد..كلادس يوسف..امل المدرس..عربية توفيق)..وغيرهم فهم كثر ..وتلك الأسماء التي ذكرتها تخص عقدي الخمسينات والستينات على سبيل المثال لا الحصر…وأخيرا..سوف تصمد ثقافتنا اللغوية بوجه أنصاف المثقفين وستحافظ على معادنها الأصيلة  لأنها تحمل كنوز التراث المضيئة منذ الأزل  ..وستبقى اللغة العربية على ألسنة مذيعين متميزين ومتمكنين باللغة العربية السليمة وفن الإلقاء الرصين شامخة نقية..ولسانا عربيا مبينا..وتاكيدا على فصاحة اللغة العربية  قال الله تعالى(نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ).
 

الزمان