من الظواهر اللغوية ( الحذف ) - 3
د. طاهر عبد الفتاح الطويل
بين الحذف والإضمار
علمنا أن (الحذف) إسقاطُ جزءٍ من الكلام أو التركيب، غير أنه قد وقع اختلاط بين مصطلح )الحذف( ومصطلح آخر هو)الإضمار(، وفي تراثنا النحوي من يفرق بين هذين المصطلحين كـ)الزركشي( الذي يقول: "والفرق بينه - أي: الحذف - وبين الإضمار: أن شرط المضمر بقاء أثر المُقدَّر في اللفظ؛ نحو: ﴿ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [الإنسان: 31] ، ﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ ﴾ [الفتح: 6] ، ﴿ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ ﴾ [النساء: 171]؛ أي: ائتوا أمرًا خيرًا لكم، وهذا لا يُشترَط في الحذف؛ ويدل على أنه لا بد في الإضمار من ملاحظة المقدَّر (باب الاشتقاق)، فإنه من أضمرت الشيء: أخفيته ... وأما الحذف: فمن حذفت الشيء: قطعته، وهو يُشعِر بالطرح، بخلاف الإضمار؛ ولهذا قالوا: (أنْ( تنصب ظاهرة ومقدرة، وردَّ ابن ميمون قول النحاة : إن الفاعل يُحذف في باب المصدر، وقال : الصواب أن يقال: يُضمَر ولا يُحذَف؛ لأنه عمدة في الكلام".
وقال (ابن جني) في "خاطرياته)[1]: "من اتصال الفاعل بالفعل أنك تُضمِره في لفظ إذا عرفتَه؛ نحو): (قم(، ولا تحذفه كحذف المبتدأ؛ ولهذا لم يجُزْ عندنا ما ذهب إليه الكسائي في ( ضربني وضربتُ قومك ) "[2].
والمتأمل لتعليل ( ابن جني ) بعدم حذف الفاعل للاتصال بين الفعل والفاعل وأنهما مرتبطان، وبينهما علاقة إسنادية؛ لذلك فإنه لا يحذف لأنه عمدة - يعجب؛ لأنه في الوقت نفسه يقر بحذف المبتدأ مع أنه عمدة في الجملة الاسمية، وبينه وبين الخبر علاقة إسنادية، دون أن يذكر لنا ابن جني السبب وراء هذه التفرقة.
وقد ذهب أيضًا إلى التفريق بين الحذف والإضمار ( أبو البقاء العكبري)حينما تعرض للحديث عن قوله تعالى: ﴿ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾ [ ص: 3]؛ قال: "فأما (حين) فمذهب سيبويه أنه خبر)لات( ، واسمها محذوف؛ لأنها عملت عمل (ليس (؛ أي: ليس الحين حين هرب، ولا يُقال: هو مضمر؛ لأن الحروف لا يضمر فيها، وقال الأخفش: هي - أي: لات - العاملة في باب النفي فـ)حين( اسمها، وخبرها محذوف؛ أي: لا حين مناص لهم أو حينهم، ومنهم من يرفع ما بعدها، ويقدر الخبر المنصوب؛ كما قال بعضهم:
( فأنا ابنُ قيسٍ لا براحُ ) [3]"[4].
غير أننا نجد كثيرًا من كتب التراث النحوي قد ساوت بين مصطلحي الحذف والإضمار، ولم تفرق بينهما، حتى إنك لتجد اللفظين يتبادلان في القضية الواحدة والموضوع الواحد في بعض الأوقات؛ فهذا أبو حيان حينما يتعرض لقوله تعالى: ﴿ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ﴾ [الصافات: 93]، يجعل (ضربًا) منصوبًا بفعل محذوف، يقول: "فهو - أي: ضربًا - مصدر فعل محذوف"[5]، وحين يتعرض لقوله تعالى: ﴿ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [آل عمران: 49]، يذكر خمسة أوجه في نصب (رسولًا) منها أن يكون منصوبًا بفعل مضمر والتقدير: ويجعله رسولًا، أو إضمار فعل من ( أرسل) والتقدير: أُرسلتُ إلى الناس رسولًا[6]، وكذلك حين يتعرض لقوله تعالى: ﴿ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44]، يجعل الجار والمجرور ﴿ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ متعلقًا بفعل مضمر؛ إذ يقول: "والأجود أن يتعلق قوله ﴿ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ بمضمر يدل عليه ما قبله"[7].
بل إن أبا حيان أحيانًا يستخدم مصطلح الحذف والإضمار في موضع واحد، وذلك خلال حديثه عن قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [الرعد: 31]؛ يقول: "و﴿ أَنْ لَوْ يَشَاءُ ﴾ جواب قسم محذوف؛ أي: وأقسموا لو شاء الله لهدى الناس جميعًا، ويدل على إضمار هذا القسم وجود (أنْ) مع (لو)؛ كقول الشاعر:
أما واللهِ أَنْ لَوْ كُنْتَ حُرًّا *** وما بِالحُرِّ أَنْتَ ولا القَمِيْنِ[8]"[9]
أما ابن مالك فقد استخدم أيضًا مصطلحي الحذف والإضمار بمعنًى واحد دون تفريق بينهما؛ فتراه يقول في ألفيته في باب (الابتداء) متحدثًا عن حذف الخبر وجوبًا:
وقَبْلَ حالٍ لا يكونُ خَبَرا
كَضَرْبِي العَبْدَ مُسِيْئًا، وَأَتَمّ
عنِ الذي خَبَرُهُ قَدْ أُضْمِرَا
تبيينيَ الحقَّ مَنُوْطًا بالحِكمْ[10]
ويقول أيضًا في باب (اشتغال العامل عن المعمول ):
فالسَّابِقُ انصبه بفعلٍ أُضْمِرَا ***حَتْمًا مُوافِقٍ لِمَا قَدْ أُظْهِرَا[11]
وأحيانًا أُخر يعبر عن المحذوف بلفظ)الساقط ) أو (السقوط)؛ كما في باب (لا النافية للجنس) يقول:
وشاعَ في ذا البابِ إِسْقاطُ الخبَرْ *** إذا المرادُ معَ سقوطِهِ ظَهَرْ[12]
وفي باب (الأفعال التي تنصب مفعولين) يقول:
ولا تُجِزْ هُنا بلا دلِيْلِ *** سُقُوطَ مَفْعُولَيْنِ أَوْ مَفْعُولِ[13]
إذًا فالحذف والإضمار والسقوط جاءت جميعها بمعنًى واحد عند ابن مالك.
كما أن من بين الباحثين المعاصرين من ذهب إلى أنه لا فرق بين الحذف والإضمار؛ كالأستاذ/ إبراهيم مصطفى في كتابه (إحياء النحو) ؛ إذ يرى أن الإضمار لا يختلف عن الحذف؛ لأن كلًّا منهما فيه تقدير ما لا وجود له في ظاهر النص اللغوي[14].
وإلى هذا الرأي أيضًا ذهب الدكتور محمد إبراهيم الطاووس، وجعله أقرب للحقيقة والصواب، مستشهدًا بما جاء في حاشية(الشهاب الخفاجي) على تفسير البيضاوي؛ حيث جاء فيه قوله: "قول مضمر؛ أي: محذوف"[15]، كما يستشهد الدكتور الطاووس بموضع آخر في حاشية (الشهاب) ذكر فيه "أن الحذف أعم من الإضمار، وقد يُستعمل كلٌّ منهما بمعنى الآخر"[16].
إذًا فكثير من العلماء لم يلتزموا هذا الالتزام الصارم في التفريق بين المصطلحين كما ذهب إليه بعضهم، فكثيرًا ما يُعبَّر بأحد المصطلحين مكان الآخر، وهذا ما يميل إليه الباحث؛ نظرًا لما تؤكده شواهد تراثنا النحوي، كما أن التعبير بأحد المصطلحين عن الآخر هو مجاز يدل عليه ثراء لغتنا وغناها، وسعتها وقوة بيانها وعظمتها.
_________________________________________________
[1]- لم أهتدِ إلا إلى الجزء الثاني من الخاطريات لابن جني، تحقيق ودراسة: سعيد بن محمد بن عبدالله القرني، رسالة ماجستير، جامعة أم القرى، كلية اللغة العربية، 1417 ه - 1996 م، وكتاب بقية الخاطريات لابن جني أيضًا، تحقيق: د/ محمد أحمد الدالي، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، 1413 هـ - 1992 م، ولم أقف فيها على هذا القول في مظانِّه.
[2] البرهان في علوم القرآن، الزركشي، تحقيق الأستاذ/ محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، الطبعة الثالثة، منقحة ومحررة، 1400 هـ - 1980 م، 3/ 102، 103.
[3] عجزُ بيتٍ من الكامل لسعد بن مالك بن ضُبيعة، والبيت بتمامه:
من صدَّ عن نيرانها ***** فأنا ابنُ قيسٍ لا بَراحُ
الكتاب: 1/ 58، وفيه (فرَّ) بدلًا من (صدَّ)، أمالي ابن الشجري، تحقيق ودراسة: د/ محمود محمد الطناحي، مكتبة الخانجي، الطبعة الأولى، 1413 ه - 1992 م، 1/ 431، شرح المفصل: 1/ 109، المغني لابن فلاح اليمني: 3/ 112، همع الهوامع : 1/ 397، شرح شواهد المغني للسيوطي، ذُيِّل بتصحيحات وتعليقات العلامة محمد محمود الشنقيطي، وقف على طبعه وعلَّق حواشيه: أحمد ظافر كوجان، 1386 ه - 1966 م لجنة التراث العربي، دمشق، ص: 583، 612، خزانة الأدب: 1/ 467، 2/ 172، 4/ 39، الأشباه والنظائر للسيوطي: 8/ 109، 130، وشرح التصريح: 1/ 199، والدرر: 1/ 248، لسان العرب: 1/ 361 مادة (برح)، وبلا نسبة في المقتضب: 4/ 360، والمفصل: ص: 56، ومغني اللبيب: 1/ 266، وأمالي ابن الحاجب، تحقيق ودراسة: د/ فخر صالح سليمان قداره، دار الجيل، بيروت، دار عمار، عمان، دون طبعة أو تاريخ: 1/ 326، والإنصاف: 1/ 314 ، وتخليص الشواهد: ص: 293، ورصف المباني في شرح حروف المعاني، أحمد بن عبدالنور المالقي، تحقيق: أحمد محمد الخراط، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، د. ت، ص 266، وكتاب اللامات للزجاجي، تحقيق: مازن المبارك، دار الفكر، دمشق، الطبعة الثانية، 1405 هـ - 1985 م، ص 105.
[4] التبيان في إعراب القرآن، أبو البقاء العكبري، تحقيق الأستاذ/ علي محمد البجاوي، مكتبة ومطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، د. ت: 2/ 1097.
[5] البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، حقق أصوله وعلق عليه وخرج أحاديثه: د/ عبدالرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1423 هـ - 2002 م، 7/ 487.
[6] انظر البحر المحيط: 2/ 741، 742.
[7] البحر المحيط: 5/ 630.
[8] البيت من الوافر، وهو بلا نسبة في الإنصاف: 1/ 178، رصف المباني: ص: 116، مغني اللبيب: 1/ 42، شرح شواهد المغني: ص: 111، شرح أبيات مغني اللبيب، عبدالقادر البغدادي، تحقيق: عبدالعزيز رباح، أحمد يوسف دقاق، دار المأمون للتراث، دمشق، بيروت، الطبعة الثانية، 1407 هـ - 1988 م: 1/ 157، خزانة الأدب في إحدى روايتيه: 4/ 143، وقد ذكر البغدادي أن الفرَّاء أنشده في تفسير سورة الجن عند تفسير قوله تعالى: ﴿ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ ﴾ [الجن: 16]، وعندما رجعت إلى (معاني القرآن) للفراء لم أجدها، ورواية البيت في جميعها ما عدا (رصف المباني):
أما واللهِ أَنْ لَوْ كُنْتَ حُرًّا ****وما بالحُرِّ أَنْتَ ولا العَتِيْقِ
وأنشده أبو علي الفارسي عن بعض البغداديين في كتاب الشعر، أو شرح الأبيات المشكِلة في الإعراب: 2/ 443:
أما واللهِ عالِمِ كُلِّ غَيْبٍ
وربِّ الحِجْرِ والبَيْتِ العَتِيْقِ
وما بِالحُرِّ أَنْتَ وَلا الخَلِيْقِ
لَوْ أنَّكَ يا حُسَيْنُ خُلِقْتَ حُرًّا
وكذلك في شرح الرضي على الكافية: 2/ 251، وهي الرواية الأخرى للخزانة: 4/ 140، كما نقل هذه الرواية عن الفارسيِّ (السيوطيُّ) في شرح شواهد المغني: ص: 111، والبغدادي في شرح أبيات مغني اللبيب: 1/ 157، 158.
[9] البحر المحيط، 5/ 504، 505.
[10] ألفية ابن مالك، حققها وخدمها: سليمان بن عبدالعزيز بن عبدالله العيوني، مكتبة دار المنهاج للنشر والتوزيع بالرياض، د. ت: ص: 89.
[11] ألفية ابن مالك، ص: 102.
[12] ألفية ابن مالك، ص: 97.
[13] ألفية ابن مالك، ص: 98.
[14] انظر: إحياء النحو، الأستاذ/ إبراهيم مصطفى، الطبعة الثانية، 1413 ه - 1992 م، دون ناشر، ص: 56.
[15] بلاغة الحذف في القرآن الكريم، د/ محمد الطاووس، دار حراء للطباعة والنشر، المنيا، الطبعة الأولى، 1995 م، ص: 19.
[16] المرجع السابق، ص: 19.
|