مظاهر العبقريَّة الرياضيَّة للخليل بن أحمد الفراهيديّ
الدكتورة/ مروة علي عطا الله عبد الغني (كلية دار العلوم/ جامعة المنيا)
لقد كان الخليل بن أحمد هو العالم اللغويُّ التي تمثَّلت فيه ظاهرة التسارع المنهجيِّ الفريدة التي حقَّقت طفرةً علميَّةً في حركة التأليف العلميِّ في الحضارة العلميَّة على وجه العموم، وفي العلوم اللغويَّة على وجه الخصوص، وإنْ كان هنالك من شاركه فيها سواءً من معاصريه، أم من تلاميذه، وقد تَمَّ على يد الخليل ولادة ما يُسَمَّى بالاستقراء الرياضيِّ، وإيجاد البذور الأولى لنظرية المجموعات، ومن ثَمَّ وجدنا أنَّ المجال التنظيريَّ قد فُتِحَ على مصراعَيْه أمام كلِّ طريقةٍ ممكنةٍ لمقاربة المادة العلميَّة المجموعة، وعدم القطع، والارتكان إلى النموذج الأوحد في الرؤية العلميَّة، مع وجوب الفتح، والتجديد المستمر للنظريات الأخرى، ثم تأتي خطوةٌ تسارعيَّةٌ جديدة للخليل؛ ألا وهي الانتقال بين أكثر من علمٍ؛ بغية تأسيس طرقٍ خاصَّةٍ بتلكم العلوم، أو لبذر بعض بذور بداياتها؛ وهي ما تُسَمَّى ببذور المصطلحيَّة كعلوم الصرف، والنحو، والأصوات، والمعجم، والعروض والموسيقى وعلم استخراج المعمي.
ويمكننا مقاربة هذه الخطوات بتتبُّع المسار العلميِّ للخليل وذلك على النحو التالي:-
أولًا: مرحلة الجمع:-
وقد مارس الخليل –في هذه المرحلة- العلم بمفهومه الشائع آنذاك، بَيْدَ أنَّه قد استطاع فيها أن يتفرَّد بسمته، ويتميَّز عن معاصريه، وليس أدلَّ على ذلك من قصَّته الشهيرة مع الكسائيِّ (ت 189 هـ)؛ الذي سأل الخليل متعجِّبًا من قدراته العلميَّة المذهلة؛ قائلًا له: من أين أخذت علمك هذا؟؛ فأجابه الخليل قائلًا: من بوادي الحجاز، ونجد وتهامة؛ فخرج الكسائيُّ إلى البادية ورجع وقد أنفذ خمس عشرة قنينة حبرٍ في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ، ولعلَّ الملفت للنظر -في هذه القصَّة- هو كون الخليل قد بلغ -في هذه المرحلة- مبلغًا كبيرًا؛ مما دفع الكسائيَّ إلى الرحيل للبادية بغية منافسة الخليل في علمه، لنجد أن مفهوم الجمع -في هذه المرحلة- قد انحصر بحسب زعمهم في معادلةٍ متكافئةٍ مفادها (العلم = الحفظ) تلك المعادلة التي قد تسبَّبَتْ غلبتها -على مفهومهم للجمع- في نشأة أزمةٍ كبيرةٍ بينهم آنذاك؛ مما مهَّد لمرحلةٍ مهمَّةٍ هي مرحلة الاستقراء.
ومن المعلوم أنَّ الاستقراء هو عمليَّةٌ تقوم على استثمار الملاحظات حول موضوعٍ ما؛ لصياغة مفاهيم معرفيَّة تكون بمثابة اللبنة الرئيسة للبنية التحتيَّة المشكِّلة للقوانين العامَّة للموضوع المدروس، ويُشْتَرَطُ في عمليَّة الاستقراء ثلاثة شروط هي كالتالي:-
أ- أنْ يكونَ عدد منطوقات الملاحظات –التي تكون أساس التعميم- عددًا مرتفعًا.
ب- أنْ تتكرَّرَ الملاحظات داخل شروطٍ كبيرة التَّنوُّع.
ج- ألَّا يحدث لأيِّ منطوقِ ملاحظةٍ صراعٌ مع القانون الكليِّ؛ الذي اشْتُقَّ منه ذلك المنطوق.
ثانيًا: مرحلة الاستقراء التصنيفيِّ:-
تُعَدُّ هذه المرحلة –بحسب قول الدكتور/جمعان عبد الكريم- هي المرحلة الفاصلة في تأسيس العلوم العربيَّة، والإسلاميَّة، وقد كانت نتاجًا طبيعيًّا لغلبة النمط السالف ذكره؛ وهو(العلم = الحفظ)، وقد تمخَّض عن نمط الاستقراء انفجارٌ معرفيٌّ وحضاريٌّ جديدٌ؛ فكان بمثابة نقلة نوعيَّة هائلة إلى أولى عتبات العلم، ولم يكن الخليل متردِّدًا عند إقدامه على تلكم الخطوة، بل كان واثقًا من فعاليَّتها منتصبًا على أرضٍ صلبةٍ مكَّنته من الوثب وثباتٍ واسعةً معتمدًا على آليَّات الاستقراء التصنيفيِّ الذي بلغ مبلغًا كبيرًا في تعميم استعماله على كافة العلوم، بوصفه أحد أهم المناهج وأصلحها للدرس اللغويِّ.
وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الخليل قد قام –في المقام الأوَّل- بجمع المادة العلميَّة الأوليَّة بَيْدَ أنَّه تنبَّه إلى كون هذا الجمع لا يمثِّل فائدةً كبيرةً تُذْكَرُ؛ نظرًا لأنَّه لم يكن هناك اشتغالٌ آخر على متنه، لتبدأ العمليَّة الثانية في التصنيف الاستقرائيِّ لردِّ المتشابهات إلى بعضها، وملاحظة طرائق التشابه بين المفردَّات، والتراكيب؛ فكانت مساهمة الخليل الذي أدرك أهميَّة وجود مصطلحاتٍ محدَّدةٍ قادرةٍ على استيعاب المفاهيم المستقرأة فكانت ممارسة الاستقراء -في وضع اللغة العربيَّة صرفًا، ونحوًا- هي أكبر دليلٍ على ما بذله الخليل من جهدٍ خارقٍ في سبيل تأسيس قواعد اللغة العربيَّة وبلوغ أشُدِّها وليس أدلَّ على ذلك من نحوه المبثوث عبر كتاب تلميذه النجيب (سيبويه).
ثالثًا: مرحلة الاستقراء الرياضيِّ:-
لقد امتاز الخليل عن بقية معاصريه باستعماله الوسائل الرياضيَّة؛ "فلم يُرَ قط في استعماله للوسائل العقليَّة الرياضيَّة في ميدان اللغة"، وقد حاول الخليل أنْ يؤسِّسَ لنوعٍ جديدٍ من الاستقراء عن طريق تطوير عملية الاستقراء في حدِّ ذاتها، وقد كان له ما أراد، فكان الاستقراء الرياضيُّ؛ الذي يُعَدُّ من أهمِّ طرق البرهنة في الرياضيَّات ويقوم على الاعتماد على العمليَّات الرياضيَّة في إحصاء الظواهر، ومن ثَمَّ وضع نظريَّاتٍ علميَّةً بناءً على هذه العمليَّة الرياضيَّة الاستقرائيَّة، ويُمَثِّلُ كتاب (العين) أنموذجًا عمليًّا للاستقراء الرياضيِّ؛ فالكتاب قائمٌ على عملية جمعٍ استقرائيَّةٍ رياضيَّةٍ قائمةٍ على التقليبات القائمة -في ذاتها- على نظرية التباديل والتوافيق كما قام على حصر كلام العرب بناءً على المجموعات الصوتيَّة بدءًا بحرف (العين)، ويشرح تلميذه (الليث) وقع تلك الفكرة الرياضيَّة المذهلة في تلك المرحلة؛ فيقول: "فجعلتُ أستفهمه ويصف لي، ولا أقف على ما يصف، فاختلفتُ إليه في هذا المعنى أيَّامًا ثم اعتلَّ وحججتُ فرجعتُ من الحجِّ؛ فإذا هو قد ألَّف الحروف كلَّها على ما في صدر الكتاب".
وكانت لغة الخليل لغةً رياضيَّةً حاذقةً ماهرةً؛ فتجده يقول معتمدًا على العمليَّات الحسابيَّة: "فإذا أردت أن تستقصي من كلام العرب ما كان على حرفَيْن ممَّا تكلَّموا به، أو رغبوا عنه ممَّا يأتلف، أو لا يأتلف؛ مثل: كم، وقد، وعن، وأخواتها؛ فانظر إلى الحروف المعجمة، وهي ثمانية وعشرون حرفًا، فاضرب بعضها في بعض تبلغ سبعمائة وأربعة وثمانين حرفًا، ولا يكون الحرف الواحد كلمةً، فإذا أزوجتهنَّ حرفَيْن [حرفَيْن] صِرْنَ ثلاثمئةٍ واثنتين وتسعين بناءً؛ مثل: دَمْ، وما أشبهه، فإذا قلبته عاد إلى سبعمئةٍ وأربعةٍ وثمانين، منها ثمانيةٌ وعشرون بناءً مشتبهة الحرفَيْن مثل: هه؛ قلبه وغير قلبه لفظٌ واحدٌ، ومنها ستمئةِ بناءٍ صحيحة ثنائيَّة لا واو فيها ولا ياء ولا همزة، يجمعها ثلاثمئةٍ قبل القلب، ومنها مئةٌ وخمسون بناءً ثنائيَّةً ممزوجة الأحرف الثلاثة المعتلَّة: الياء والواو والهمزة، ويجمعها خمسةٌ وسبعونَ بناءً ثنائيًّا قبل القلب، ومنها ستةُ أبنيةٍ ثنائيَّةٍ معتلَّةٍ تجمعها ثلاثةُ أبنيةٍ قبل القلب، ومنها ثلاثةُ أبنيةٍ مضاعفةٍ، وخمسةٌ وعشرون بناءً صحاحًا مضاعفةً؛ فافهمْ فقد بَيَّنْتُ لَكَ عِدَّةَ ما يخرجُ من الثنائيِّ مِمَّا تكلَّموا به، أو رغبوا عنه.
وإذا أردتَ أنْ تُؤَلِّفَ الثلاثيَّ؛ فاضربْ ثلاثةَ أحرفٍ معتلَّاتٍ في التسعةِ الثنائيَّة المعتلَّة فاضربْ ثلاثةَ أحرفٍ معتلَّاتٍ في التسعة الثنائيَّة المعتلَّة؛ فتصير سبعةً وعشرين بناءً ثلاثيَّةً، معتلَّاتٌ كلُّها، وتُضْرَبُ الثلاثة المعتلَّات أيضًا في المئة وخمسين بناءً ثنائيًّا حرفٌ منها معتلٌّ وحرفٌ صحيحٌ؛ تصير أربعمئةٍ وخمسين بناءً ثلاثيًّا، حرفان منها معتلَّان وحرفٌ صحيحٌ، وتُضْرَبُ الثلاثة المعتلَّات في ستمئةِ بناءٍ صحيحةِ الحرفَيْن فتصير ألفًا وثمانمئةِ بناءٍ ثلاثيٍّ، حرفان منها صحيحان وحرفٌ مُعْتَلٌّ، وتُضْرَبُ خمسةً وعشرين حرفًا في ستمئةِ بناءٍ ثنائيٍّ صحاح الحروف فتصير خمسة عشر ألفًا وستمئةٍ وخمسةً وعشرين بناءً ثلاثيًّا؛ فهذا أكثر ما يخرج من البناء الثلاثيِّ.
فإذا أردتَ أن تؤلِّفَ الرُّباعيَّ فعلى هذا القياس، تضربُ الثلاثة المعتلَّات في السبعة والعشرين بناءً ثلاثيًّا، ثمَّ تضرب في أربعمئةٍ وخمسين ثمَّ في الألف والثمانمئة، ثم تضرب الخمسة والعشرين الصحاح في الخمسة عشر ألف بناءٍ ثلاثيّ صحاح الحروف، فما بلغ فهو مبلغ عدد الأبنية الرباعيَّة، وكذلك سبيل الخماسيِّ الصحيح وأمَّا السداسيُّ فلا يكون إلا بالزوائد".
كما نجد ابن خلدون -في كتابه (المقدمة)- يذكر أنَّ الخليل تأتَّى له حصر كلمات المعجم بوجوه عديدة وذلك بقوله: "وكان سابق الحلبة في ذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي، وألّف فيها كتاب العين؛ فحصر فيه مركَّبات حروف المعجم كلِّها، من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي، وهو غاية ما ينتهي إليه التركيب في اللسان العربي، وتأتَّى له حصر ذلك بوجوهٍ عـديدةٍ حاصرةٍ، وذلك أن جملة الكلمات الثنائيَّة تخرج من جميع الأعداد على التوالي من واحد إلى سبعة وعشرين، وهو دون نهاية حروف المعجم بواحد؛ لأن الحرف الواحد منها يُؤْخَذُ مع كلِّ واحدٍ من السبعة والعشرين كذلك، ثم الثالث والرابع، ثم يُؤْخَذُ السابع والعشرون مع الثامن والعشرين فيكون واحدًا، فتكون كلها أعداد على توالي العدد من واحد إلى سبعة وعشرين فتجمع كما هي بالعمل المعروف عند أهل الحساب؛ وهو أنْ تجمع الأول مع الأخير وتضرب المجموع في نصف العدَّة، ثم تضاعف لأجل قلب الثنائيِّ؛ لأنَّ التقديم والتأخير بين الحروف معتبرٌ في التركيب، فيكون الخارج جملة الثنائيَّات، وتخرج الثلاثيَّات من ضرب عدد الثنائيَّات فيما يجتمع من واحد إلى ستة وعشرين على توالي العـدد؛ لأنَّ كُلَّ ثنائيةٍ تزيد عليها حرفًا؛ فتكون ثلاثيَّة فتكون الثنائيَّة بمنزلة الحرف الواحد مع كلِّ واحدٍ من الحروف الباقية، وهي ستة وعشرون حرفًا بعد الثنائيَّة؛ فتجمع من واحد إلى ستة وعشرين على توالي العدد، ويُضرَب فيه جملة الثنائيَّات ثم تضرب الخارج في ستَّة، جملة مقـلوبات الكلمة الثلاثية ؛ فيخرج مجموع تركيبها في حروف المعجم وكذلك في الرباعي والخماسي.
ويمكننا تبسيط ما ذكره ابن خلدون في مقدمته بالطريقة الحسابيَّة التالية:-
عدد الأبنية طريقة الحساب
الثُّنائيُّ 28×27 756
الثُّلاثيُّ 28×27×26 19,656
الرُّباعيُّ 28×27×26×25 491,400
الخُماسيُّ 28×27×26×25×24 11,793,600
المجموع 12,305,412
هذا ومن الملاحظ –كما يشير المهندس خشان خشان- أنَّ حرف الألف لم يدخل في الحساب؛ نظرًا لكونها لا تأتي أوَّلَ جذرٍ بل الهمزة، وما دون أول الجذر فتكون منقلبةً عن واوٍ أو ياءٍ، وقد ذكر الخليل أن مجموعها 12,315,412، وهو لم يذكر في تفصيله الثلاثي فحسبته وأضفته، وما بالنا نستقرئ القرينة في وجود ذات الشاهد المتمثِّل في ثلاثةٍ ربما كان هناك غيرها:
1 – في تعدُّد أحكام العروض التجزيئيَّة تعدُّدًا كبيرًا-حيث نجدها كلَّها منسجمةً معًا لا يناقض أحدها الآخر- دليلٌ على وجودِ تصوُّرٍ شاملٍ في ذهن الخليل قد صدرت عنه تلكم الأوصاف الجزئيَّة، ويُعَدُّ وجود ذلك التصوُّر الشامل، وصدور الأوصاف الجزئيَّة عنه من تجليَّات المنهج بل إنَّ من تجليَّات المنهجيَّة لدى الباحث أنْ يفترضَ وجودَ منهجٍ شاملٍ لدى بحثه في الجزئيَّات، حتى لو لم يكنْ يعرفه فيكون ذلك باعثًا له على البحث عنه.
2 – دوائرُ الخليلِ معبِّرةٌ عن تفكير الخليل، ومنهجه؛ بجمعها احتمالاتِ تناوبِ وتجاورِ المقاطع، والأحكام العامة المترتِّبة على ذلك، ومن لا يعتبرون العروض العربيَّ علمًا اعتبروها مجرَّد طُرْفَةٍ، وتتلاشى صحة هذا القول إذا ما جمعنا الدوائر في ساعة البحور –كما في الشكل التالي- بحيث تظهر خواص المحاور كما هو الحال في الدوائر؛ بحيث تُفْهَمُ كثيرٌ من خواص المقطع حسب موقعه معبَّرا عنه بإحداثيَّاتِ كِلَيْهِمَا، مع العلم بأنَّ القول بالصدفة –هنا- كالقول بأنَّ خطوط الطول والعرض صدفةٌ بالنسبة للكرة الأرضيَّة.
ويتضح لنا -ممَّا سبق- أنَّ الخليل -بعمله هذا- قد أرسى القواعـد الحقيقية لعـلم العـدد الذي يُعَدُّ المدخل لعلم الجبر، ومنها موضوع المتواليات الحسابيَّة، بل نجده كذلك منظِّرًا رئيسًا لنظرية المجموعات في صيغتها المعاصرة؛ وهذا ما نُعِدُّهُ مظهرًا من مظاهر الموضوعيَّة في مبحث الدرس الصوتيِّ عند الخليل.
ويتضح لنا -ممَّا سبق- أنَّ الخليل -بعمله هذا- قد أرسى القواعـد الحقيقية لعـلم العـدد الذي يُعَدُّ المدخل لعلم الجبر، ومنها موضوع المتواليات الحسابيَّة، بل نجده كذلك منظِّرًا رئيسًا لنظرية المجموعات في صيغتها المعاصرة؛ وهذا ما نُعِدُّهُ مظهرًا من مظاهر الموضوعيَّة في مبحث الدرس الصوتيِّ عند الخليل.
وقد اعتمد الخليل كذلك الاستقراء الرياضيَّ في حصر بحور الشعر، ولكن بعد أنْ طوَّر هذا الاستقراء وفق أساسٍ جديدٍ غير طريقة التقليبات؛ فقد أخذ الخليل بناصيتيّ كُلٍّ من الاستقراء التصنيفيِّ، والاستقراء الرياضيِّ، وقام بصياغة فروضه العلميَّة معتمدًا على كليهما، وبخاصَّةٍ الاستقراء الرياضيّ؛ الذي يختلف عن الاستقراء الناقص، أو ذلكم الاستقراء التقليديّ؛ الذي يُعَدُّ تابعًا للفرض العمليِّ، جديرٌ بالذكر أنَّ هذا النوع من الاستقراء –في حدِّ ذاته- قد تحوَّل عند الخليل من استقراءٍ رياضيٍّ إلى افتراضٍ استنتاجيٍّ، ومنه إلى أن أصبح نظريَّةً لغويَّةً مكتملةً تعتمد ما حصره الاستقراء الرياضيُّ، وما لم يستطع حصره، وما يحتمل أنْ يجده من عناصر أخرى تحتملها مكوِّنات النظريَّة، أو الاستقراء الرياضيّ يومًا ما، ولعلَّ ذلك يظهر في نظريَّة التقليبات في كتاب العين، وكذلك في دوائر الخليل العروضيَّة.
وإذا اتخذنا من (عروض) الخليل مقياسًا؛ لأمكننا ملاحظة ثلاثة توجُّهاتٍ رئيسةٍ، بين كُلٍّ منها قدرٌ من التفاوت، وهي كما يأتي:-
1- توجُّهٌ لا يخرج -في عمومه- عن عروض الخليل، ويضُمُّ معظم العروضيِّيْن العرب قديمًا وحديثًا، ويغطِّي مساحةً واسعةً منه، بيد أنَّه يعتمد –في معظمه- على الوصف؛ حيث ينقل عن الخليل توصيف تطبيقاته الجزئيَّة بعباراته، وقد خطا بعض العروضيِّيْن خطواتٍ متفاوتةً في بعض التصنيفات، والأحكام العامة؛ التي انطلقت من العروض باتِّجاه علم العروض.. فظهرت على قليلٍ منها بوادر تلمُّسٍ منهجيٍّ يشير إلى مشارفتها تخوم الرقميِّ، ويقتصر الاختلاف فيما بين هذه الأصناف وعروض الخليل على تعديلاتٍ جزئيَّةٍ لا تَمُسُّ الحشو؛ كإضافةِ أو إنقاصِ مقطعٍ في آخر الشطر، أو عرض بعض المقصرات، أو فك البحور من الدوائر، أو أحكام بعض الزحافات والعلل، أو إلحاق وزنٍ مهملٍ على الدائرة ببحور الخليل، أو تجميع المقاطع على نحوٍ يغاير تفاعيل الخليل شكلًا، أو باعتبار بعض الصور المتولِّدة من بحور الخليل بحورًا مستقلةً، أو استدراك بعض الأوزان المُشتقَّة من دوائر الخليل، وإذا ما قُوْرِنَ هؤلاء مع سواهم؛ فإنهم يعتبرون من مدرسة الخليل في العروض. وبتتبعهم الخليل، واسترشادهم بظلال منهجه؛ يضحى انحراف بعضهم عن (علم العروض) انحرافًا محدودًا لا يُذْكَرُ.
يقول الأستاذ/ كمال إبراهيم: "وإذا أردنا أنْ نتأمَّلَ في استدراكات من جاء بعده من العلماء نجدها لا تخرج عن استدراكات في العرض، ولن تمسُّ الجوهر في قليلٍ، أو كثيرٍ".
2- توجُّهٌ لا يلتزم بعروض الخليل، ويظنُّ أنَّ التفاعيل تُلصق اعتباطيًّا، فراح أصحابه يفبركون ويصطنعون بحورًا جديدةً ما أنزل الله بها من سلطانٍ، وعلى رأس هؤلاء نجد الدكتور/ محمد صادق الكرباسي، والأستاذ/ محمود مرعي، وبخروج أصحاب هذا التوجُّه عن عروض الخليل فإنَّهم يضربون بعروض الخليل عرض الحائط، ويضرمون النيران في تفاعيله؛ فقد مارسوا (علم العروض) بأدوات العروض ولو أنَّهم أدركوا ما يقتضيه الحدُّ الأدنى من المنطق بأنَّ للخليل منهجًا متفرِّدًا بذاته وأنَّ تفاعيله مقيَّدةٌ به، لما أصرُّوا على نقض منهجه؛ واستحداث وحداتٍ مغايرةٍ لتفاعيله، بل ومن العجب العجاب أنْ يدَّعي هؤلاء أنَّهم يكملون رسالة الخليل ويسيرون على منهاجه.
على العروضيِّ –إذن- أنْ يتَّبع الخليل اتِّباعًا أعمى، وليس له أنْ يجتهدَ؛ فما يعرفه عنه ما هو إلَّا جزئيٌّ تجسيديٌّ لا يؤهِّله للاجتهاد، ويكاد اجتهاد من اجتهد من العروضيِّيْن -في علم العروض- لا يخلو من هنَّاتٍ يسيرةٍ، أو خطيرةٍ، فعالم العروض المُلِمُّ بشموليَّة منهج الخليل سيجد نفسه يتبع الخليل على بصيرةٍ؛ نظرًا لكونه يتناول الذائقة العربية، وخصائصها تناولًا علميًّا شموليًّا منهجيًّا قوامه الفكر.
3- تَوَجُّه المستشرقين، وتلاميذهم؛ وهو ذلك التَّوَجُّهُ العلميُّ الحميد لدى الغربيِّيْن الباعث على البحث عن رؤيةٍ شموليَّةٍ ذات قواعد جامعة مطردة مؤطِّرة للأوزان ومهيمنة عليها، وذلك هو مجال (علم العروض)، وقد حسب جلُّهم أنَّ ما لدى العرب ما هو إلا توصيفاتٌ تجزيئيَّةٌ يقدِّمها عروض الخليل، بَيْدَ أنَّهم لا يلامون في ذلك لأنَّ العروضيِّيْن العرب هم من صدَّروا إليهم تلكم المفاهيم المغلوطة عن منهج الخليل.
ولا اختلاف -في العروض- بين المستشرقين والخليل بما هو أوزان البحور. ويختلف تقييم نتاج المسشترقين بحسب المقيِّم، فإذا كان المقيِّم لا يدرك وجودَ منهجٍ للخليل فغالبًا ما سيجد نفسه منقادًا لمنهجهم باعتباره علم العروض الوحيد؛ وذلك كمن يجهل معذورًا علم الاقتصاد الإسلاميّ فيعتبر علم الاقتصاد الرأسماليّ هو العلم الوحيد المنوط بالاقتصاد، ومن كان يدرك وجود منهج للخليل سيدرك أنهم قد أحسنوا الغاية لكنهم جانبوا الصواب في الوسيلة التي تتحقق بها هذه الغاية، فضلُّوا الطريق باستعمالهم الخاطئ لأدوات لغاتهم، وأعاريضهم في فهم العروض العربيّ؛ وهي أدواتٌ قاصرةٌ –في معظمها- عن احتوائه، واشتمال كينونته، وأهمها النبر في الشعر الانجليزي، وإهمال حقيقة الوتد وهو عماد الهيئة المهيمنة على الكم في العروض العربيِّ؛ ممَّا أدَّى إلى خلطٍ لا يمكن قبوله ممن يحسن العربية إلا بإيقاف تشغيل العقل، وتعطيل التفكير السليم أو استلابه.
رابعًا: الفروض العلميَّة الاستنتاجيَّة:-
الفرض العلميُّ يعني –على وجه العموم- "تخيُّلُ شيءٍ يعبِّر عن علَّةٍ مُعَيَّنةٍ لمجموعةٍ مُعَيَّنَةٍ من الظواهر أو الحوادث موضوع الاختبار، وأنَّ تلك العلَّة عاملٌ أساسيٌّ في إنتاج تلك المجموعة"، أو هو تخمينٌ مبدئيٌّ يستدلُّ به الباحث على إيجاد علاقةٍ بين مُتَغَيِّرَيْن أو أكثر.
وإذا نظرنا إلى طريقة الخليل في البحث، والاستقصاء عن الفروض العلميَّة؛ لوجدنا أنَّه يبحث عن العلَّة وراء الظواهر اللغويَّة، مع جزمه، وتسليمه المطلق بأن ما سيصل إليه -من علَّةٍ أو فرضٍ علميٍّ- إنَّما هو شيءٌ آخر يختلف تمام الاختلاف عن الظاهرة نفسها؛ فهو فرضٌ علميٌّ واحد، بينما يمكن للظاهرة أن تقبل فروضًا علميَّةً أخرى، وهذا يعني كون الخليل على وعيٍ تامٍّ بمسألة حتمـيَّة تعدُّد النــظريَّات أو تعدُّد الفروض العلميَّة؛ فحينما سُئِلَ الخليل عن العلل التي يُعْتَلُّ بها في النحــو هل هي مأخوذةٌ عن العرب، أم هي من اختراعه؟؛ فقال: "إنَّ العرب نطقت على سجيَّتها وطباعها، وعرفتْ مواقع كلامها، وقام في عقولها علله، وإنْ لم يُنْقَلْ ذلك عنها، فأنْ أكنْ أصبتُ العلَّة؛ فهو الذي التمستُ، وإنْ تكنْ هناك علَّةٌ له فمثلي في ذلك مثل رجلٍ حكيمٍ دخل دارًا مُحْكَمَة البناء، عجيبة النَّظم والأقسام، وقد صحَّت عنده حكمة بانيها بالخبر الصادق أو بالبراهين الواضحة والحُجَج اللائحة، فكلما وقف الرجل في الدار على شيءٍ منها قال: إنَّما فُعِلَ هكذا لعلَّة كذا وكذا سنحت له وخطرت بباله محتملة لذلك؛ فجائزٌ أنْ يكونَ الحكيم الباني للدار فعل ذلك للعلَّة التي ذكرها هذا الذي دخل الدار، وجائزٌ أن يكون فعله لغير تلك العلَّة، إلَّا أنَّ ذلك ممَّا ذكره هذا الرجل محتملٌ أنْ يكونَ علَّةً لذلك، فإن سنح لغيري علَّةٌ لما علَّلْته من النحو هو أليق ممَّا ذكرته بالمعلول فليأتِ بها".
لقد اتَّسمت ذهنيَّة الخليل الرياضيَّة بنظرةٍ علميَّةٍ دقيقةٍ قائمةٍ على الملاحظة الجيِّدة المتأنِّية علاوةً على الإحاطة بكافَّة جوانب الفرض الاستنتاجيِّ؛ ممَّا أَّى إلى إحكامٍ تامٍّ تحوَّل معه الفرض الاستنتاجيُّ إلى نظريةٍ قامت عمليَّة صياغتها، أو إنتاجها وفقًا للمتطلبات الواجب توافرها في أسلوب البحث العلميِّ، ولعلَّ ذلك يبدو جليًّا في القصة التالية؛ التي توضِّح أسلوب شيخنا الخليل في معالجة المسائل، والفروض العلميَّة "قال النضر بن شميل: جاء رجلٌ من أصحاب يونس إلى الخليل يسأله عن مسألةٍ فأطرق الخليل، وأطال حتى انصرف الرجل فعاتبناه فقال: ما كنتم قائلين فيها؟ قلنا: كذا وكذا، فلم يزلْ يغوص حتى انقطعنا، وجلسنا نفكر فقال: إنَّ المجيب يفكر قبل الجواب، وقبيحٌ أنْ يفكرَ بعده، وقال: ما أجيبُ بجوابٍ حتى أعرف ما عليَّ فيه من الاعتراضات، والمؤاخذات".
وقــد كـان لهـذه العــقـليَّــة الـخـليـليَّــة الفذَّة دورٌ كـبـيــرٌ فــي إنتـاج أهــم النظـريـات العـلميَّــة –بمفهوم النظريَّة الذي يجعلها مجموعةً من الفروض العلميَّة؛ التي تُوْضَعُ في علاقاتٍ بعضها مع بعض داخل نظامٍ يشملها- في اللغة، لتصبح فروضه العلميَّة من أهم النظريات العلميَّة التي أثارت جدلًا واسعًا بين أرجاء الوسط اللغويِّ ومنها نظرية العامل، ونظرية المُسْتَعْمَل والمُهْمَل في المعجم وأوزان الشـعر كما كان الجهاز المصطلحيُّ، والمفاهيميُّ الموسوم بالتكامليَّة دليلًا دامغًا، وبرهانًا واضحًا على هذه العقليَّة الخليليَّة الفذَّة، والعبقريَّة العلميَّة، والمقدرة المقتدرة على صناعة نظامٍ مصطلحيٍّ متكاملٍ قادر على احتواء النظريَّة العلميَّة بين طيَّاته والتعبير عنها؛ فقد وضع الخليل جهازًا مصطلحيًّا للعروض والقافية، وصل عدد مصطلحاته إلى 191 مائةٍ وواحدٍ وتسعين مصطلحًا علميًّا، ويشير سليمان أبو ستة إلى بدايات تشكُّل المصطلحات العروضيَّة؛ فنجده يقول: "ونحن لا نشكُّ في أنَّ الخليل وضع جُلَّ مصطلحات هذا العمل، إذ لولا ذلك ما تمكَّن من إيصاله للناس على النحو الذي نعرفه"، وهذا العمل في مصطلحات العروض والقافية يدلُّ أكبر دلالةٍ على ظاهرة التسارع المنهجيِّ؛ التي اعتمدت اعتمادًا كليًّا على جهود الخليل بن أحمد في إرساء قواعد العلوم العربيَّة والإسلاميَّة، حتى إنَّنا إذا قمنا بمقارنةٍ عدديَّةٍ بين مصطلحات العروض والقافية، ومصطلحات أيِّ علمٍ تأسيسيٍّ ضخم؛ قد نشأت مصطلحاته تدريجيًّا، وقد اضطلع بظهوره إلى النور كوكبةٌ من العلماء كمصطلحات علم أصول الفقه التي بلغت 104 مصطلحًا؛ حينها سندرك تلك القيمة التسارعيَّة الكبيرة التي تمثَّلت في الخليل بن أحمد وعبقريَّته العلميَّة؛ التي مكَّنته من إنجازٍ مصطلحيٍّ مذهلٍ في فترةٍ وجيزةٍ.
خامسًا: إسهام الخليل في ابتكار آلياتٍ علميَّةٍ جديدةٍ:-
لقد كان الخليل بن أحمد حريصًا أشدّ الحرص على ابتكار آليَّاتٍ علميَّةٍ جديدةٍ لدراسة اللغة تبتعد عن أسلوب الجمع، والحفظ، والتلقين، وتهتم بالتفكير، والتجربة والتحليل والفرض والاستنتاج، والتنظير، ومن بين تلك الآليَّات التي اضطلع بها الخليل ما يلي:-
أ- استعمال الرموز:-
لقد استطاع الخليل أن يُوْجِدَ عددًا من الرموز المهمة؛ ومنها رمز الهمزة، ورموز الحركات من ضمَّةٍ، وفتحةٍ، وكسرةٍ، وشدَّةٍ، ورومٍ، وإشمامٍ، كما يبدو أنَّ الخليل كان ذا شجاعةٍ فائقة في القيام تغيير الرمز بتغيُّر المجال أو تغيُّر النظرية؛ إذ نراه يرمز للحركة في العروض بدائرةٍ صغيرةٍ، وللسكونِ بألفٍ على عكس رمز السكون في الكتابة العادية، وعلى العكس من المستعمل في كتب العروض فيما بعد، وهذا يدلُّ على فهم الخليل لدور الرموز بوصفها وسيلة مهمة؛ فهي تكتسب وظيفتها لديه من المنظومة التي تشتغل فيها؛ ولأجل ذلك يمكن للرمز الواحد أنْ يُسْتَعْمَلَ بحسب المجال، أو النظرية المضطلعة بتوظيفه، ولعلَّ الملفت للنظر أنَّ عمل الخليل في إيجاد رموزٍ جديدةٍ قد شابه من الاحتياط، والتنبيه ما دفعه إلى ترك العمل بها في بعض الأحيان في إطار المحافظة على الأصول؛ التي خلَّفها القدماء قبل الخليل فنجد عمرو بن الداني يقول: "وترك استعمال شكل الشعر؛ وهو الشكل الذي في الكتب الذي اخترعه الخليل في المصاحف الجامعة من الأمهات وغيرها أولى وأحقُّ اقتداءً بمن ابتدأ النقط من التابعين، وإتباعًا للأئمة السالفين".
ب- نموذج المحاكاة:-
إنَّ النماذج التي تُصْنَعُ للمحاكاة تُعَدُّ إحدى الوسائل العلميَّة الموسومة بالتطور الهائل في مقاربة العلوم، وتُعْتَبَرُ النماذج Models من أهم الوسائل التي يستعين بها الدارسون على فهم الأنظمة المعقدة؛ التي يصعب على المحلِّل استيعاب تفاصيلها بمجرد مراقبتها؛ ففي مثل هذه الحالات يقوم المحلِّل ببناء نموذج لعيِّنة الدراسة بحيث يكون هذا النموذج تمثيلًا صادقًا للواقع الموجود في النظام، وتجريدًا لما فيه من مكوِّنات، وتفاصيل.
ويمكننا النظر إلى الدوائر الخليليَّة بوصفها من أوائل نماذج المحاكاة المقامة على أساسٍ رياضيٍّ في تطوُّر العلوم العربيَّة إجمالًا إن لم تكن هي الأولى على الإطلاق كما يمكننا اعتبار هذا العمل الخليليِّ إحدى بذور نظرية المجموعات؛ التي تقوم عليها الرياضيَّات الحديثة، وقد حيَّرت هذه الدوائر العلماء زمنًا حتى أنَّ الفيلسوف المعتزليَّ نظَّام قال عنها لا يحتاج إليها غير الخليل، ويُعْزَى ذلك إلى عدم فهم الكثير من معاصري الخليل لذلك النموذج؛ نظرًا لكونها طريقةً جديدةً -في التنظير العلميِّ- قائمةً على إيجاد نموذجٍ قادرٍ على جمع كافة خيوط النظرية، وقد بقيت تلكم الدوائر مستغلقةً على الشرح حتى وصل إلينا أولى شروحها متمثِّلةً في شرح ابن عبد ربِّه الأندلسيِّ؛ ممَّا يدلُّ على عبقريةٍ فذَّةٍ استطاعت –عن طريق تلكم الدوائر العبقريَّة- جمع كافة بحور الشعر العربيِّ، علاوةً على تمكُّنها من صنع أساليب مبتكرة في ممارسة العلم.
إنَّ ما قام به الخليل من ابتكارٍ فذٍّ للدوائر العروضيَّة يدلُّ دلالةً واضحةً على مقدرته العلميَّة الجبَّارة؛ التي مكَّنته من اختصار علمٍ كاملٍ في خمس دوائر فحسب، ويقول الخطيب التبريزيُّ في ذلك: "والشعر كلُّه أربعةٌ وثلاثون عروضًا، وثلاثة وستُّون ضربًا، وخمسة عشر بحرًا تجمعها خمس دوائر"، وليس هذا فحسب؛ بل يمكننا –وفقًا لنظرية الخليل في المهمل والمستعمل- استخراج الكثير من البحور، والأوزان المهملة؛ التي لم تُستعمل من تلكم الدوائر.
وقد مثَّلت تلكم الدوائر –بوصفها نموذجًا تجريديًّا- صورةً واضحةً لتطوُّر الفكر اللغويِّ، فلم تكن لمجرد التعقيد؛ نظرًا لإتيانها في مستوى عقل الخليل، ووسمها الكثيرون بالصعوبة، والتعقيد، إلَّا أنَّه كان المقصد من وراء ابتكارها هو أن تحقِّقَ أهداف صنع النموذج العلميِّ؛ ومنها:-
أ- الانتقال إلى المرحلة التجريديَّة التي يتمُّ فيها تجريد المعلومات باستعمال الرموز والنماذج وهي تمثِّل أرقى المراحل العلميَّة.
ب- الاختصار؛ حيث استطاع الخليل الكشف عن نقاب علمٍ كاملٍ في خمس دوائر فحسب.
ج- الاستيعاب والتجاوز؛ إذ أنَّ من أجلّ ما تقدِّمه عمليات النمذجة في العلوم هو التمكين القويُّ لعملية استيعاب المعلومات، والإطار النظريّ لها؛ ممَّا قد يؤدِّي إلى عملية تجاوزها انطلاقًا من استيعاب النموذج إمَّا بنقد بناء النموذج، أو بالتعديل في النموذج، أو بتجاوز النموذج من خلال صنع نموذجٍ بديلٍ، وهذا ما تمكَّنت دوائر الخليل من إثارته عند القدماء والمحدثين على حدٍّ سواء؛ ويُعَدُّ ما وضعه الجوهريُّ (ت 393هـ)، وسمَّاه بالدوائر المداخلة؛ هي أولى المحاولات عند القدماء لصنع نموذجٍ مُعَدَّلٍ من دوائر الخليل، ويمكن أنْ يكونَ ذلك لكونها تكاد أنْ تكونَ النمذجة الوحيدة –في إطار العلوم اللغويَّة- التي وصلت إلينا حتى وقتنا الراهن.
د- التسهيليَّة؛ ويُقْصَدُ بهذا المصطلح جعل المادة العلميَّة عمليَّةً عن طريق تسهيل الوصول إلى المعلومة، وذلك يشبه تمامًا ما يقوم به الحاسوبيُّون من تمثيل قواعد البيانات الضخمة على هيئة قوالب، ونماذج تسهِّل سرعة الوصول إلى المعلومة علاوةً على تحصيل المراد منها بصورةٍ عمليَّةٍ، وهذا ما فعله الخليل حين وضع بين أيدي نقَّاد الشعر، ومريديه مقياسًا عروضيًّا متسارعًا مُمَثَّلًا في هذه الدوائر.
ومن المُرَجَّح أنَّ هنالك دائرةً أخرى -غير تلكم الدوائر العروضيَّة- قد ابتكرها الخليل واستعملها عند استقصائه لمفردَّات اللغة العربيَّة؛ لإيضاح فكرة التقليبات في الثلاثيِّ حينما يتمُّ فكُّها من عند كلِّ حرفٍ من الجهتَيْن؛ فتُخرج هذه الدائرة من الثلاثيِّ ستة أبنية ثلاثيَّة، وتسعة أبنية ثنائيَّة، والذي يجعل هذه الدائرة أقرب إلى الدوائر العروضيَّة أنَّه تمَّ استخراج بنائي الثنائيِّ والثلاثيِّ منها، ولم يكتفِ ببناء الثلاثيِّ فحسب، وهذا يشبه الدائرة العروضيَّة؛ التي يخرج منها أكثر من بحرٍ.
ويبدو أنَّ ابن دريد قد نقل هذه الدائرة عن الخليل دون أنْ يشيرَ إلى ذلك، والذي يجعل ذلك مُرَجَّحًا ورودها قبل نصٍّ طويلٍ منقولٍ دون عزوٍ في الجمهرة مع أنَّه معزوُّ إلى الخليل في مصدرٍ آخر، وفي جميع الأحوال نجد أنَّ الدائرة الموجودة في جمهرة ابن دريد واقعةٌ تحت تأثير الدوائر الخليليَّة وإن كانت لابن دريد نفسه الذي تأثَّر تأثُّرًا كبيرًا بالخليل؛ بل إنَّه قد اعتمد عليه اعتمادًا كليًّا في تأليف معجم الجمهرة، وليس ابن دريد فحسب من تأثَّر بالخليل؛ بل تأثَّر به أيضًا ابن فارس -في معجميه: المجمل ومقاييس اللغة- في طريقة ترتيب المادة العلميَّة داخل المعجم وفقًا لآليَّة الدوائر الخليليَّة في حصر بحور الشعر العربيِّ.
إنَّ النمذجة هي المُمَيِّز الأهم في لغة العلم اليوم، وهي تقوم بتغيير نظرتنا للمناهج العلميَّة وللعلم ذاته، كما أنَّها تحرِّر العقل العلميَّ، وتساعد على إذكائه، وإطلاق طاقاته، كما تكمن أهمية الدوائر الخليليَّة في كونها أوَّل محاولةٍ للنمذجة في تأريخ التطوُّر العلميِّ لعلوم اللغة العربيَّة؛ بل في تأريخ التطوُّر العلميِّ للعلوم في الحضارة العربيَّة بأسرها.
|
|
|