لغة محفوظة

د. جواهر بنت محمد حسن مهدي

عندما تعهَّد الحقُّ سبحانه وتعالى بحفظ القرآن الكريم، فلا يُزاد فيه باطلٌ ولا يُنقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه. كان ذلك وعدًا ضامنًا منه - عز وجلّ- بحفظ اللغة التي أُنزل بها من الضياع والتلوث، أو الاندحار والاضمحلال.
حتى وإن حاول المغرِضون والجاهلون زعزعة يقين أمَّة الإسلام بهذا، أوتشكيكهم بوفاء لغةِ قرآنهم بمتطلبات عصرهم وحاجات زمانهم وتطوُّرات أيامهم.
ولقد أدرك الواعون والغيورون -على مرِّ التاريخ- خطورة خدش صلة أهل العربية بعربيتهم، أو تقصُّف شعورهم بعزَّتها ومكانتها؛ فتوالت صيحاتهم، وتعاقبت تحذيراتهم، وتتالت دعواتهم للعودة إلى حياضها، والذودِ عن سياجها؛ فباللغات تُصان الهُويَّات، وتزهو المجتمعات وترتقي الحضارات.
فكيف الأمر بلغة مشدودة بُعرى الدين، مربوط فهم مغازي الآيات الكريمة بفهم ألفاظها ومعانيها.
ورغم ثقة أهل العربية بأنَّ لغتهم باقية صامدة مابقي الزمان إلَّا أنهم لاينكرون الوهن الذي اعتراها، والضعف الذي لحق نسيجها من جرَّاء ما أصاب أمتها من انتكاسة وتبعية وقهقرة وَصَمَتْ هامة حضارتهم، ونكَّلت بجسدِ لُحْمتهم، في الوقت الذي انتشت فيه اللغات الأخرى وليدة اللاتينية، وقويت وامتطت صهوة الفِكر؛ لامتطاء أصحابها ركائب الحضارة والتقدم والعلمنة والثقافة الفكرية والثراء النتاجي في الأصعدة والمجالات جميعها.
ومعرفة أهل العربية بوهَن لغتهم، واعترافهم بمضاء النَّصْلِ الذي اخترق صدر كلمتهم -في هذا العصر- لايكفي للاستطباب واسترداد عافية لغتهم دون جهودٍ صادقة وخُطًى واعدة ومعالجات رائدة ترى نور النتائج في رؤيتها قبل خطوط خطتها.
ومِن الحقائق الجليَّة التي لايُنكرها منكر ما لدُوْرِ العلم ومؤسَّسات التعليم من وظيفةٍ في تربية الأجيال وتعليمهم، والحِفاظ على تراثهم الفكري ومكتسباتهم الحضاريَّة ورعاية موروثاتهم الدينية والتاريخية واللغوية، التي إن أضاعوها ضاعوا، وإن ارتقوا بها عزُّوا وسادوا.
لكنَّ واقع التربية والتعليم في العالم العربي قد أصابه شيءٌ من الترهُّل لاسيمَّا في مجال تعليم اللغة العربية أسلوبًا ومادةً وطرائقَ تدريس حتى مع وجود صيحات التطوير ورياح التغيير التي نالت بعض صحائفها؛ فأمرُ الحفاظ على العربية لايقتصرُ على صرعات تغيير المناهج الدراسية أو تطوير استراتيجيات تدريسها فقط؛ لشراسة المشكلة وتفاقم أعراضها في ظلِّ عولمة التعليم، وسيادة اللهجات الدارجة حتى طالت تعليم اللغة العربية ذاتها ناهيك عن تعليم باقي المواد الدراسية ... إلى جانب غزو المصطلحات الأجنبية البنانَ اللسانَ العربيَّ، واستفحال ظاهرة الانبهار بالثقافة الأجنبية مانجمَ عنه عزوفٌ عن تعلُّم اللغة الأم، وعن التلذُّذ بكلمِها وجملها ومراميها ومعانيها، ناهيك عن نحوِها وصرفِها وعَروضها وقوافيها.
كل هذا وذاك يستدعي وقفة حكيمة ونظرة رصينة تسترد فيها اللغة العربية الفصحى مكانتها وعزتها، وألاَّ يُستكثر عليها جهد أو وقت أو مال؛ فعزُّ الأمة ورفيع مجدها في حاضر يومها وآفاق مستقبلها مرهون باعتزازها بلغتها ورعايتها إياها وصيانتها من كل شائبة أو نقيصة تنال طرف ذيلها قبل جوهر نحرها.

       
إنَّ التساهل في معالجة الضعف الذي اخترق اللغة العربية دون أن تمتد إليه الأيدي والعقول بالإصلاح، لهو تهاونٌ في أمور الدين قبل الدنيا، وتقاعس عن نُصرة الهوية الإسلامية التي بها تُولجُ أبوابُ الكرامةِ والشرف قبل الوشيجة القومية التي تشتد بها أواصر الأخوة والنسب.
وبنظرةٍ عجلى إلى حال الأمم الحيَّة في حفاظهم على لغتهم نجدهم يستأسدون دون أن تتسربَ عوامل ضعفٍ أو وهن إلى لغتهم، بل ويذودون حياضها عن أي غزوٍ خارجي يهدِّد كيانها أو يقوِّض بنيانها غير مبالين بقوة الغازي وصولجان تأثير حضارته.
ومن الأمثلة المحيطة على ذلك جماعة الإنجليز الذين نجدهم أحرص الناس على لغتهم والتمسك بخصائصها، وتحريم خرقِ قواعدها، أو التغيير في حرفٍ واحد منها فهم قد يعيدون طباعة صفحة كاملة من مطبوعاتهم لوجود فاصلة أو نقطة في غير موضعها الصحيح.
وهذه الصين نجدها تحرص كل الحرص على رفع شأن لغتها الأم بل وإتقانها؛ فأنشأت المعاهد المتخصصة داخل جامعاتها لترسيخ ثقافتها القومية وتعزيز لغتها والتأكيد على أن يجيدها صغار المتعلمين قبل المثقفين وأساتذة الجامعات والمربين.
وهذه كوريا الجنوبية بعد حصولها على الاستقلال عام 1945م انبرت للحفاظ على لغتهم القومية وتخليصها من آثار الاحتلال الياباني الذي حاول فرض هيمنة لغته على الشعب الكوري، مدركين أنَّ استلاب اللغة يعني فقدان الهوية، داعين إلى الحفاظ على لغتهم ليس من خلال شعارات جوفاء بل من خلال خطط عمل تنال المدرسة والمعلم والكتاب والمكتبة وأوجه الإعلام ومنابر الثقافة.
ورغم قبول اليابان لشروط الاستسلام المجحفة التي فرضتها عليها الولايات المتحدة الأمريكية في معظم مناحي حياتها لاسيما العسكرية، وإخضاعها لإصلاحات سياسية وتعليمية طالت أنظمتها التعليمية وفق المفهومات الأمريكية إلاَّ أنها لم تتخلَ عن لغتها القومية رغم نظامها الكتابي المعقّد، فبقيت لغتها القومية وسيلة لنظام تعليمها وعملية تحديثها ونهضتها العلمية والصناعية، كما سادت لغة الإعلام وأحكمت سيطرتها عليها حتى غدت أبرز قنواتها التلفازية الحكومية المعروفة باسم NHK  منارًا لنشر اللغة اليابانية وترسيخها بين اليابانيين على اختلاف لهجاتهم.
أمَّا يهود فكانوا أحرص من أولئك جميعًا على بسط نفوذ عبرانيتهم ومد سطوتها وتعزيز هيمنتها؛ لاعتقادهم بأنها لغة التوراة المقدسة لديهم التي بحفاظهم عليها يحافظون على دولتهم... وهذا أحد حاخاماتهم يخاطب شعبه قائلًا "عليكم بعبرانيتكم إذا أردتم أن تبقى دولتكم".
والأمثلة كثيرة ومتعددة على حرص الأمم الراقية على لغتها بوصفها تمثِّل رمزًا لقوميتهم وهويتهم، فكيف بقومٍ لغتهم هي وسيلتهم لفهم دينهم وتطبيق شرع ربهم وتحقيق الحب العملي لنبيهم.
ألم يأنِ الوقت لهم ليعيدوا تاجها إليها، وينصرفوا عن الاستهزاء بها والسخرية من المتحدثين بها والمنادين بهيمنتها؟
متى نكفُّ جميعًا عن التباهي بإجادة أولادنا واحدة أو أكثر من اللغات الأجنبية غير مبالين بضعفهم وتأتأتهم في اللغة العربية؟
متى نهزُّ كراسي الإعلام؛ ليفيقَ فيحسن توجيه الخطاب للطفل العربي مستخدمًا الفصحى في برامج ماتعة وذات مقصد وغاية وفائدة؟
متى نعيد للكتاب والقصة والرواية والشعر مكانتها في أفئدة الناشئة؛ لتُفتح لهم مغاليق أبواب المعرفة ومافوق المعرفة ليستعيدوا أسس العزة والكرامة ويشيدوا حضارتهم ويقودوا العالم إلى البر الاَمن والطريق المستقيم.
متى يدرك المربون والمعلمون أنَّ لغة القرآن محفوظة بحفظ الرحمن وأنَّـها ليست قاصرة عن الصمود والبقاء، وأن حاجتهم إليها أعظمُ من حاجتها إليهم، وأن المستفيد الأعظم من الذود عنها وإعلاء مكانتها هم أهلوها وليست هي... فإن ننصرها نفُز برضا ربنا وثوابه مادام أن المقصد هو الحفاظ على الدين وبلوغ رضا رب العالمين.