فِي نَشْأَةِ اَلنَّحْوِ وَأَهَمِيَّتِه

أ.د. عبد الله جاد الكريم

لَقَدْ كَانَ اَلْعَرَبُ قَبْلَ نَشْأَةِ عِلْمِ النَّحوِ ينطقُونَ اللُّغةَ بسليقَةٍ جُبِلُوا عليها، غَيْرَ مُحتاجين لقانُونٍ يضبطُ ألسنتهم ويصونها من اللَّحن أو مُعلِّمٍ ، فكانتْ اللُّغةُ تخرجُ مِنْ أَلْسِنَتِهِمْ كَمَا يَسِيْلُ اَلْعَسَلُ مِنْ اَلنَّحْلِ، وَكَمَا يَفُوْحُ اَلْعِطْرُ مِنْ اَلزَّهْرِ، وَلَمَّا جَاءَ اَلإسْلامُ وكرَّم اَلْعَرَبَ وَاَلْعَرَبيَّةَ بِنُزُولِ القُرآنِ بِلِسَانَهَا، ولمَّا دَخَلَ النَّاسُ فِي دِيْنِ اللهِ أفواجًا، ودخلَ الإسْلامُ بِلادًا غَيْرَ عَرَبيَّةٍ، وَامْتَزَجَ العَرَبُ المُسلمُون بِغَيْرِهِمْ مِنْ اَلْعَجَمِ فِي بِلادِ الإسْلامِ غَيْرِ اَلْعَرَبيَّةِ، وَبَدَأَ اَللَّحْنُ يَتَسَرَّبُ إِلَي أَلْسِنَتِهِمْ فَأَفْسَدَ عَلَيْهِم بَعْضَ سَلِيْقَتِهِمْ، وَمِنْ ثَمَّ لَحَنَ بعضُهُمْ في قِرَاءَةِ القُرْآنِ الكَريمِ، وهُنَا هَبَّ العُلماءُ المُسلمون اَلْغَيُّورُوْنَ عَلَى دِيْنِهِمْ وَلُغًتِهِمْ؛ لِصِنَاعَةِ قَانُوْنٍ يَحْفَظُ اَلْعَرَبِيَةَ، وَيَصُوْنَ أَلْسِنَةَ اَلْعَرَبِ مِنْ اَللَّحْنِ والتَّحْرِيْفِ، فَوَضَعُوا عِلْمَ اَلنَّحْوِ لِهَذَا اَلْغَرَضِ، وَنَجَحُوا فِي ذَلِكَ أيَّمَا نَجَاحٍ، وَأَبْهَرُوا اَلْعَالَمَ فِي هَذَا اَلْمِضْمَارِ، وَنَشَأَ عِلْمُ النَّحْوِ اَلْعَرَبِيِّ فِي بِدَايَتِهِ عِلْمًا عَرَبِيًّا مَحْضًا، لَلأَسْبَابِ اَلْمَعْرُوْفَةِ؛ اَلدِّيْنِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالتَّارِيْخِيَّةِ وَاللُّغَوِيَّةِ، وَمَرَّ بِمَرَاحِلِ نَشْأَتِهِ اَلْمَشْهُوْرَةِ - اَلنَّشْأَةِ وَالتَّطَوْرِ وَالنُّضْجِ وَالاكْتِمَالِ، عِنْدَ اَلْبَصْرِيينَ واَلْكُوْفِيِّينَ وَاَلْبَغْدَادِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ. وَأَصْبَحَ "اَلنَّحْوُ فِي اَلْكَلَامِ، كَالْمِلْحِ فِي اَلطَّعَامِ، إِذْ اَلْمَعْنَى أَنْ اَلْكَلَامَ لَا يَسْتَقِيمُ وَلَا تُحَصَّلُ مَنَافِعُهُ اَلَّتِي هِي اَلدِّلَالَاتُ عَلَى اَلْمَقَاصِدِ، إِلاّ بِمُرَاعَاةِ أَحْكَامِ اَلنَّحْوِ فِيْهِ، مِنْ اَلإِعْرَابِ وَالتَّرْتِيْبِ اَلْخَاصِّ، كَمَا لَا يُجْدِي اَلطَّعام،ُ وَلَا تَحْصُلُ اَلْمَنْفَعَةُ اَلْمَطْلُوْبَةُ مِنْهُ، وَهِيَ اَلتَّغْذِيَةُ، مَا لَمْ يُصْلْحْ بِالْمِلْحِ[أسرار البلاغة، للجرجاني: ص71] ، وَبِمُرُوْرِ اَلزَّمَانِ كَثُرَتْ اَلْمُؤَلَّفَاتُ اَلنَّحْوِيَّةُ، وَظَهَرَ فِيْهَا اَلتَّطويلُ والتَّعقيدُ، وَاَلْفَلْسَفَةُ وَاَلْمَنْطِقُ وَعِلْمُ اَلْكَلَامُ، وَدَبَّتْ اَلْخِلافاتُ فِي اَلآَرَاءِ بَيْنَ أَصْحَابِهَا، وَظَهَرَتْ اَلْمَدَارِسُ اَلنَّحْوِيَّةُ وَاَلْمَذَاهِبُ اَلْمُخْتَلِفَةُ، فَانْصَرَفَ كَثِيْرٌ مِنْ اَلْمُتعلِّمينَ عَنْ تَعَلُّمِ النَّحْوِ ومُتابعةِ دُرُوسِهِ. فَأَنَّي لَنَا أَنْ نُعِيْدَهُمْ إِلَيْهِ !!