العربية هويتنا.. فلنحرص عليها

د. محمد حسان الطيان

يوم شاء الله وله الحمد والمنة لهذه اللغة الشريفة أن تكون لغة كتابه الكريم.. تتلى بها الآيات.. وتزكى بها الأنفس.. ويعلم بها الأميون الكتاب والحكمة.. كان ذلك في الوقت نفسه إيذاناً بأمرين اثنين:
أولهما: فتح باب من العناية بهذه اللغة لم يغلق ولن يغلق مادام في الكون قرآن يتلى.. وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليه، تصديقاً لقول المولى سبحانه: ((إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون))
وثانيهما: شن حرب شعواء لا هوادة فيها على هذه اللغة بدأت بالحملات الشعوبية، واستمرت بالحملات الاستعمارية، ومازالت قائمة بهذا الغزو الثقافي الذي يحدق بنا من كل جانب، وهذه العولمة التي تحيق بنا وبلغتنا.
واللغة تمثل قلعة من قلاع الأمة، وحصناً حصيناً من حصونها، فهي هويتها، وفيها كينونتها، وهي رباطها المتين الذي يشد بعض أبنائها إلى بعض، ويصل مشرق هذه الأمة بمغربها، وحاضرها بماضيها ومستقبلها، وهي وعاء فكرها، ووسيلة تواصلها، وأداة المعرفة فيها.
واستهدافها يعطل نمط تفكير الأمة، ويلغي عقلها، ويطمس شخصيتها، ويعبث بثقافتها، ويقطع أوصالها، ويجفف ينابيعها، ويجتث جذورها ويتركها في مهب الريح وخصوصاً عندما تكون اللغة لغة العقيدة والقيم والثقافة والحضارة والعلم والتعليم والعبادة كما هي الحال في لغتنا العربية.
وليست العربية لغة إقليمية تخص بلداً معيناً أوشعباً مخصصاً، بل هي لغة الأمة كل الأمة، ولست أعني الأمة العربية فحسب بل الأمة الإسلامية أجمع لأنها لغة القرآن الكريم.
وأنت تجد التنبيه على أهمية اللسان العربي من الأولويات التي وردت في كتاب الله عزوجل. فالقرآن الكريم((نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربي مبين)) [الشعراء 193-195]
       وقد نزل بهذا اللسان بغية أن نعقله و نفهمه ونتدبره ونعمل به: (( إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)) [ يوسف 2] .
و(( إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)) [الزخرف 3].
وتجد البيان – وهو أعلى درجات الفصاحة والتمكن من اللغة _ من أجل النعم التي أنعم الله بها على عباده، وهي مقرونة بنعمة الخلق وتعليم القرآن (( الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان)) [ الرحمن 1-4]
     والرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بصريح الذكر الحكيم أن يهز النفوس بالقول البليغ المؤثر: (( وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً)).
      ثم  إنه _ بأبي هو و أمي _ سيد الفصاحة و البيان، وقد صرح بذلك وافتخر حيث قال: (( أنا أفصح العرب بيد أني من قريش)) وجعل ذلك مما ميزه الله به واصطفاه على سائر خلقه حيث قال في معرض ما أعطيه دون غيره من الأنبياء و الرسل والناس أجمعين: (( وأوتيت جوامع الكلم)).
ولا أدل على تعلقه بالفصاحة والبيان، وإيثاره البلاغة وبديع القول من خبر عمرو بن الأهتم والزبرقان بن البدر حين وفدا عليه فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن الأهتم عن الزبرقان بن بدر فقال: (( إنه لمانعٌ لحوزته، مطاع في أَدْنَيه))
فقال الزبرقان: إنه يا رسول الله ليعلم مني أكثر مما قال، ولكنه حسدني شرفي فقصّر بي، فقال عمرو: (( هو والله زَمِرُ المـُروءة، ضيّق العَطَن، لئيم الخال )) فنظر النبي صلى الله عليه وسلم في عينيه، فقال: (( يا رسول الله رضيت فقلت أحسن مما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت، وما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الآخرة )) فقال صلى الله عليه وسلم (( إن من البيان لسحرا)).
    ولما سمع صلى الله عليه وسلم لحناً من رجل قال لأصحابه: (( أرشدوا أخاكم فقد ضل)) فسمى اللحن ضلالاً. وهل بعد الضلال إلا الخسران؟!
    و أما عمر رضي الله عنه فقد كتب إلى أبي موسى الأشعري أن "خذ الناس بالعربية فإنها تزيد في العقل وتثبت المروءة". وكتب في الآفاق ألا يقرئ القرآن إلا صاحب عربية. وكان يقول(( تعلموا الشعر فإن في محاسن تبتغى ومساوئ تتقى ))
    وكان حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه يقول: (( إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب))
    وقصته مع نافع بن الأزرق مشهورة معروفة، إذ سأله نحواً من مئة سؤال عن غرائب الكلمات في كتاب الله عز وجل فكان ابن عباس يلتمس تفسيرها فيما ورد في شعر العرب، و يستشهد لمعنى كل كلمة ببيت أو أكثر من شعر الجاهلية أو صدر الإسلام.
    ولو مضينا في تتبع عناية السلف بهذه اللغة الشريفة لما وسعنا المقام والمقال، فذا أمر مشهود له، وتراثنا مليء بما يؤكد بلوغهم الغاية في ذلك.
    أما العداء لها، فقد تولى كِبْرَهُ الشعوبيون من الفرس وأذنابهم، أولئك الذين ضاقت صدورهم بالفتوح الإسلامية، فانقلبوا عليها، وراحوا يكيدون لأهلها، مظهرين محبتهم للدين، مبطنين عداءهم له، هذا العداء الذي تبدى واضحا جليا في عداء العربية، والتنكر لها، والهزء بها، ومحاولة إبراز ما يتراءى لهم أنه من عيوبها.
    وما زال لهؤلاء الشعوبيين أتباع وأذناب في كل مكان. يكيدون لهذه اللغة، ويضعون العراقيل في وجه تقدمها، أو التعليم بها، أو رفع رايتها، ويلصقون بها كل تهمة، وينعتونها بأسوأ النعوت، وينبزونها بأشنع الألقاب.
    وإن تعجب فعجب أن يتبعهم نفر منا، لا نشك في دينهم وخلقهم وعروبتهم! لكن انبهارهم بالإنجليزية من جهة، وولعهم بتقليد الغالب من جهة أخرى، غطى على كل شيء من الأصالة والانتماء، والعروبة والدين. فتراهم ماضين في حربهم على العربية غير آبهين بما يخلفه ذلك من فساد وتدمير لوجودهم ودينهم وانتمائهم.
    وقد عقد ابن خلدون فصلا مفردا في مقدمته المشهورة تحت عنوان: "الفصل الثالث والعشرون في أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده."  بين فيه أنّ النّفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه، إمّا لنظره بالكمال بما وقر  عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أنّ انقيادها ليس لغلب طبيعيّ إنّما هو لكمال الغالب.
    ثم عقد فصلا آخر بين فيه أن الأمة إذا غلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء، لأنها تذوب في هذا المغلوب.