المَلَكَة البلاغية
د. أمين عبد الله اليزيدي
عرَّف العلماء الفصاحة والبلاغة من حيث كونهما علماً وفناً، أمَّا من حيث كونهما ممارسةً فلابد من وجود مَلَكَة لدى المستخدم اللغوي. والمَلَكَة غير الغريزة، إذ الغريزة جنس من الطبع المجبول عليه الإنسان ولا طاقة له في منعه أو اكتسابه، وإن كانت له القدرة على تهذيبه، أمَّا المَلَكَة فهي طبعٌ مكتسب، مع قابلية في النفس.
غير أنَّ الفصاحة تتعلق بالكلمات وطريقة أدائها من قِبَلِ المتكلم أكثر من تعلّقها بالمعنى فقد يكون الخطيب فصيحاً يخرج الحروف من مخارجها ويَبِينُ عنها وإن افتقر إلى البلاغة. ومن هنا قيل: الفصاحة في المتكلم هي مَلَكة يقتدر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح( ). وقد جعل الجاحظ للفصاحة والبيان في المتكلم مظاهر أخرى منها: أن يخلو لسانه من عيوب النطق، وأن يكون سليم الأسنان تامَّها، وأن يكون المتكلم عند الكلام رابط الجأش، لا يتلفت ولا يحكُّ رأسه ولا يضطرب، وأن يوزع نظره على كل الحضور.
والبلاغة في المتكلم مَلَكَةٌ يقتدر بها على تأليف كلام بليغ. ( ) وقد فصَّل ابن خلدون في مقدمته المَلَكَة اللغوية والبلاغية وكيفية اكتسابهما، ولأهمية الموضوع فقد نضطر لنقل ما أورده وإن طال، والذي جعلني أؤثر ابن خلدون عمَّن سواه أن كتابه في علم الاجتماع البشري، وفي جعله البلاغة والكفاءة البلاغية جزءاً من هذا العلم، يجعل ابن خلدون مُمَيَّزاً عن غيره. وكلام ابن خلدون يوصلنا للبحث في مسألة الكفاءة البلاغية والتي سنتطرق لها هنا. وأول ما ينبغي تنميته للوصول إلى الكفاءة البلاغية: الثروة اللفظية، ومعرفة التراكيب وفنونها، ومعرفة الفروق بينها ودلالتها، ولا يكتفى بالمعرفة، لأنَّ المعرفة غير المَلَكَة، أمَّا المعرفة فهي سهلة ميسرة ولعل كثيراً من الطلاب–اليوم - لديهم القدرة على حفظ ومعرفة فنون البلاغة وتعريفاتها لكنه لا يقدر على استخراجها أو تقليدها أو تذوقها. وذلك لأنَّ الثروة اللفظية ومعرفة التراكيب والفروق بينها تنمي الذوق للوصول إلى الاختيار والاصطفاء، ثم التقليد والمحاكاة، ثم الإنشاء قدر الإمكان، إذ الإنشاء ليس ميسراً لكل صاحب ذوق، لأنَّه مَلَكَةٌ مستقلة، ويكون ذلك باختيار النصوص الرائقة وتحليلها والتدرب على التحليل ووضع اليد على مكامن الجمال كما قال عبد القاهر الجرجاني.
إذا كانت المَلَكَة البلاغية على هذا القدر من الأهمية كما تجلَّت لنا من بيان وظائف البلاغة وأهداف القول البليغ، فإنَّه يتقرر وجوب تحصيلها لطالب العلوم اللغوية، غير أنَّ هناك متطلبات للوصول أو الحصول على هذه المَلَكة، يمكن أن نوجزها في ما يأتي:
أولاً: المتطلبات المعرفية:
إذا كان الأمر كما قد تقرر في ما سلف من أنَّ الفصاحة والبلاغة تكون في اللفظ المفرد، ثم تكون في الألفاظ المركَّبة وما تؤديه من معاني وصور، فإنَّ ذلك يدعو إلى أن نعلم ما يحتاجه من يريد الاحتراز عن الخطأ، قدر المستطاع، وذلك بإلمامه بالعلوم الأدبية، وأهمها وأجلها لمن أراد أن يكون صاحب علم في فن البلاغة، ولِمَن أراد أن يُنَمّي سليقته، ويصلح من ذوقه، خاصةً أنَّ اللسان قد فسد، والطبائع قد اختلفت:
1- علم اللغة، وهو العلم بمعاني مفردات الألفاظ.
2- علم التصريف، وهو علم بتصحيح أبنية الألفاظ.
3- علم الإعراب وهو النحو.
4- تحقيق علم الفصاحة والبلاغة، وهو نظرٌ خاص بعد النظر في كل ما سبق ليأمن الخطأ في نظم الكلام حسب المراد( )، وأن يدرك الفروق بين العبارات المختلفة عن المعنى الواحد من حيث تأديته وتصويره وتفخيمه، ومن ذلك أن ندرك الفرق بين قولنا: محمد يشبه الأسد شجاعة، و محمد يشبه الأسد، و محمد أسد، وقول الشاعر:
إن تلقني لا ترى غيري بناظرة تنس السلاح وتعرف جبهة الأسد.
والبلاغة قبل أن تكون علماً معيارياً له قواعده وضوابطه، فإنَّه علم باطنيٌّ يعتمد الذوق الحسن، والحس السليم، المعتمد على الحس من ناحية الصوت ومدخلات الحس الأخرى، و الخيال من ناحية التصاوير، والفكر من ناحية المعاني، والمشاعر من ناحية خوالج النفس ورغباتها، والنفس تصدق ذلك فتحسُّ به وتتأثر له، أو تمجُّه وتنبو عنه. والبلاغة محببة إلى النفوس والعقول والأسماع، ولا تجد أحداً وصِفَ بالبلاغة إلا ارتاحت لذلك نفسه، إن كان عالماً أو جاهلاً. وليس أدلُّ على ذلك أنَّ العلماء حفظت لنا كلمات الأعراب، وأسماؤهم غفل لا نعرفها ولا تزيدنا معرفتنا بها شيئاً. ومن هنا فالبلاغة لا تكون علماً دون مَلَكَة.
ثانيا: المتطلبات الوجدانية والمهارية:
( أ) الذوق وتحصيل المَلَكَة البلاغية:
التذوق الفني هو التفاعل مع الآخر انفعالياً ونفسياً، ومدركات شكلية وموضوعية وقيم جمالية مؤَسَّسَة على إعمال الحواس البصرية السمعية واللمسية والعرفية والمدركات الخبروية والعقلية، وتلمس الأثر الفني في مجالاته المتعددة سواءً أكانت فنوناً معرفية، أدبية، تعبيرية، تشكيلية، مهنية يدوية و تقنية، وصولاً لأحكام قيمة مقننة وفق معايير الرصد المنهجي المباشر معرفياً وبصرياً لمكونات، وعناصر، ورموز، ودلالات موضوع التذوق( ). والبدء بالتذوق أمرٌ غريزيٌّ لأنَّه شرطٌ لازمٌ وضرورة لوجود النقد الفني، وهو سابق له في كل المقاييس( ). ويتحصل الذوق وينمى بالمخالطة وكثرة الاستعمال، و قد جعله ابن خلدون هو البلاغة بل معناه هو حصول المَلَكَة البلاغية للسان( ).
ويكون ذلك من خلال:
1- المخالطة. ذلك" أنَّ الأذواق كلها في معرفة البلاغة إنَّما تحصل لمن خالط تلك اللغة وكثر استعماله لها ومخاطبته بين أجيالها حتى يحصل مَلَكَتَها"( ).
2- مراعاة التكرار والاستماع المتكرر.
3- موفور الحفظ للأشعار والخطب ورائق الكلام. إذ لا بدَّ من كثرة الحفظ لمن يروم تعلم اللسان العربي، وعلى قدر جودة المحفوظ وطبقته في جنسه وكثرته من قلته، تكون جودة المَلَكَة المتحصلَّة للحافظ.... وعلى مقدار جودة المحفوظ أو المسموع، تكون جودة الاستعمال من بعده، ثم إجادة المَلَكَة من بعدهما. فبارتقاء المحفوظ في طبقته من الكلام، ترتقي المَلَكَة لأنَّ الطبع إنَّما ينسج على منوالها، وتنمو قوى المَلَكَة بتغذيتها. وذلك أنَّ النفس، وإن كانت في جِبِلَّتها واحدة بالنوع، فهي تختلف في البشر بالقوة والضعف في الإدراكات( ).
1- الممارسة. فهذه المَلَكَة لا تحصل إلا بممارسة كلام العرب. وتكرره على السمع والتفطن لخصائص تراكيبه( ).
2- التقليد والمحاكاة والارتياض. فالمَلَكَات اللسانية كلها إنَّما تُكْتَسَب بالصناعة والارتياض في كلامهم، حتى يحصل شبه في تلك المَلَكَة( ).
3- مراعاة التدرج. ( ).
وهذا يؤدي إلى:
1- أن يكوّن لدى الدارس ما يشبه ذائقة خاصة به.
2- بناء تصور ذهني يعرفك فيه ما تستفيده بالارتياض في أشعار العرب.... فإنَّ مؤلف الكلام هو كالبنَّاء أو النسَّاج، والصورة الذهنية المنطبقة، كالقالب الذي يبني فيه أو المنوال الذي ينسج عليه. فإن خرج عن القالب في بنائه أو على المنوال في نسجه كان فاسداً( ).
3- تترسخ هيئة في النفس من تتبع التراكيب في شعر العرب جريانها على اللسان، حتى تستحكم صورتها، فيستفيد بها العمل على مثالها والاحتذاء، في كل تركيب من الشعر( ).
4- القدرة على التمييز والتهدي إلى القول البليغ ( ). وهذا هو ثمرة من ثمار الذوق.
وقد يقول قائل: إنَّ المعرفة بالقوانين البلاغية واللغوية المستنبطة من كلام العرب تغني عن ذلك. فيرد عليه ابن خلدون بقوله: "ولا تقولنَّ إنَّ حرفة قوانين البلاغة كافية في ذلك، لأنَّا نقول: قوانين البلاغة إنما هي قواعد علمية قياسية، تفيد جواز استعمال التراكيب على هيأتها الخاصة بالقياس.... نعم إنَّ مراعاة قوانين هذه العلوم شرط فيه لا يتم بدونها، فإذا تحصلت هذه الصفات كلها في الكلام اختص بنوع من النظر لطيف في هذه القوالب، التي يسمونها أساليب، ولا يفيده إلا حفظ كلام العرب نظماً ونثراً( ).
والذي لديه معرفة بالقوانين ولا يمارس التفاعل مع القول البليغ أو لا يستطيع تذوقه كان كمن اشترى مطبخاً ضَمَّنَه كل ما يتطلبه هذا الفن من المواد والبهارات والكتيبات وغير ذلك، إلا أنَّه محروم من نعمة حاسَّة الذوق فكيف يستطيع أن ينتج طعماً راقياً وأنَّى له.
أمَّا من لم يتأتى له القدرة على التذوق فإنَّه:
1- يُحْرَم المتعة فيما يصنعه هو أو غيره.
2- يُحْرَم الاكتشاف للخطأ والصواب، أو للجديد.
3- يُحْرَم التطور والتطوير.
4- محروم من المعرفة بالأشياء ومكوناتها وتأثيراتها.
5- محروم من القدرة على القياس والاستنباط.
6- محروم من القدرة على الابتكار.
وهذا عام في كل صنعة وفن إن كان طبخاً، أو نجارةً، أو تلويناً، أو بناءً، أو لغةً أو غير ذلك من الصناعات والمهارات.
( ب) الاستيعاب البلاغي:
كما أنَّ لعملية الاتصال أو التواصل عوامل مساعدة أو معوقة لهاتين العمليتين فإنَّ البلاغة تتطلب مهارات أكبر من مهارات الاتصال أو التواصل.
ومن العوامل التي تبدو مؤثرة في الاستيعاب البلاغي:
1- طريقة تقديم العرض البلاغي.
2- الموقف والحالة. فقد تستمع إلى الآية القرآنية أو الموعظة – على سبيل المثال- مرة بعد أخرى، لكنَّك في لحظة شعوريةٍ ما تدرك وكأنَّك تسمعها للوهلة الأولى.
3- الوعي القائم من المتلقي تجاه القول والموقف البلاغيين. من حيث المعرفة والمهارة اللازمين، فالذي لا يفهم طرق التعبير الاجتماعية لمجتمعٍ ما لن يفهم الأسلوب البلاغي لذلك المجتمع، والذي لا يعرف الأمثال وفنون القول التي لها صفة (اللازم الكلامي)، سيظنُّ أنَّ ما يسمعه هذراً وسخفاً، والذي لا يستطيع أن يفرق بين كون القول مباشراً صريحاً وبين كونه كنائياً تعبيرياً يفوته حتماً إدراك واستيعاب القول البلاغي وغرضه. وكم في حياتنا الخاصة والعامة من تعبيرات اجتماعية لا تكون ذات مدلول مفهوم فضلاً عن أن تكون ذات مدلول بلاغي ما لم يكن لدى المتلقي وعيٌ مسبق بذلك الأسلوب أو التعبير.
4- ملامسة الهموم القائمة وقرب القول من واقع الحياة، ومع أنَّ هذا ليس شرطاً لازماً إلا أنَّ قُرْبَ التمثيل مما يفهمه المتلقون أو ربط التمثيل بما هو مفهوم لهم فإنَّه يساعد على تسهيل الاستيعاب البلاغي.
5- دور الرسالة وغرضها، هل هو ثقافي، تعليمي، تربوي، تذوقي وفني.
6- ومما يُعَقِّدُ مسألة الاستيعاب البلاغي وتذوق النصوص البلاغية والتحليل البلاغي، ضعفُ الكفاءة الأدبية أو انعدامها، إذ يفتقر العديد من الناس إلى الخلفية المتراكمة من الخبرة، أو يفتقرون أيضاً للقدرة الخاصة على التشغيل للمعلومات من أجل استخلاص المعنى من النص التشبيهي أو اللوحة الفنية على سبيل المثال( ).
ج- الكفاءة الأدبية
وأقصد بها: القدرة أو المهارة على تذوق النصوص، وانتخاب الأجود من مجموعة نصوص، والقدرة على الاستمتاع بها، ومهارة تحليلها، فضلاً عن قراءتها قراءة سليمة متوافقة مع صياغتها ودلالاتها. إذ نجد مَنْ لا يجيد تلك المهارات ولا يتحلى بتلك القدرات، ليس لأنَّه بليد، ولكن لأنَّ ذلك القول ليس محطَّ اهتمام المتلقي – وقد أورد ابن جني مثلا في كتابه الخصائص يفيد في مقام القول هنا وهو أنَّ البقَّال ليس له اهتمام بالنظر في تصريف الكلمات لأنَّ عقليته وثقافته لم تمارس هذا اللون من التعامل مع اللغة، كما أنَّ مهارته وكفاءته مقتصرة على البيع والشراء، كما أنَّ من لا يمتهن التجارة لا يفهم مصطلحاتها وأساليبها. "ولذا فإنَّ المرء الذي يفتقر لهذه المعرفة- امتلاك فهم ضمني لأسس الخطاب الأدبي- وليس على اطلاع بالأدب وليست له أُلْفَة بالأعراف التي تُقرأ بموجبها الأعمال الأدبية سيشعر بالحيرة الكلية والإعاقة إذا قُدِّمَتْ له قصيدة ليقرأها. إنَّ معرفة المرء باللغة قد تُمَكِّنُه من فهم عبارات وجمل، ولكنَّه قد لا يعرف كيف يتصرف إزاء التسلسل الذي يربط هذه العبارات ( وهو ما يكوِّن الأسلوب) إنَّه قد لا يستطيع أن يقرأ هذه العبارات بوصفها أدباً، لأنَّ هذا المرء يفتقد أسباب الكفاءة الأدبية المعقدة. إنَّ هذا المرء لا يقوم على إدراك النحو الداخلي للأدب لأنَّه يفتقر للمَلَكَة التي تتيح له تحويل السياقات اللغوية إلى بُنى أدبية، وإلى معان أدبية "( ). وهذا يقود إلى التساؤل كيف ينبغي قراءة الأدب؟
من الواضح أن الأدب ونصوصه لا تُقْرَأ قراءةً نفعية، بل تُقْرَأ وفق مقام خاص هذا المقام هو مقام القول الأدبي، أي أن نقرأ مُتَمَثّلين للقول وللحالة، و لا ننتظر من القول الأدبي فائدة مجردة بل قد لا نجدها.( الذي نجده هو مكافأة المتعة الأدبية) كما لا ينبغي قراءة عناصر النص على أنَّها كلمات ذات معنى معجمي فقط، بل نقرؤها وفق سياقها.
|
|
|