الأشكال السردية في رواية محمد مفلاح الجزائرية - الوساوس الغريبة أنموذجا

د. عياد زويرة

اللـّــغة ، و قد كان ” الجاحظ ” سبق …” فاقترح أن يكون مستوى لغة المتكلم أو الكاتب على قدر المخاطب و مستوى ثقافته … فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاما، و لكل حال من ذلك مقاما .” (1)
بمعنى أن لا يكتب لنفسه متجاهلا الآخر، ذلك القارئ و المتلقي لمنتوجه الأدبي ، و هنا إشارة إلى اللغة الفنية التي اعتمدها الراوي ” محمد مفلاح ” في روايته، و الأمر كذلك إذ جعلها على مستوى قريب من متلقيه ، مفصلة على مقاس مخاطبيه ، و لنا في ذلك شواهد نسوقها، هي من فيض تأليفه و إبداعه:
- ”  تابع سكان المدينة أخبار ” زينب الهنيدي” باهتمام غريب، بلغ درجة الهوس المخيف.. و طرح عمار الحر على نفسه أسئلة عديدة عن سبب هذا الاهتمام الذي لم يجد له مبررا معقولا… ” (2) – ” كانت الساعة تشير إلى السادسة مساء لما تحرك عبد الحكيم الوردي نحو جهة المسبح البلدي… قضى جزء من الليل و هو يفكر… ” (3) – ” خافت نصيرة التل أن تفقد سيطرتها على نفسها أمام سكان الحي… و تنهدت (…) قائلة لأمها المضطربة : قد يكون الخبر مجرد إشاعة .. فالرجل مظلوم. ” (4)
إنّ مقتضيات السرد قد جنحت بالراوي ” مفلاح ” لأن يفرد عناية شديدة بمكون اللغة السرداني، من أجل أن ينهض بباقي المكونات السردية الأخرى، و خصوصا في علاقة اللغة بالحدث، و هو أمر عجيب آخر نستجليه حين التعرض لأدق تفاصيله، فقد مكنت هذه الأداة المطواعة الراوي ” محمد ” من أن يحمل قراءه إلى مختلف النواحي بمنطقة (غليزان)
” الفيلا الخضراء المطلة على العمارات الصفراء ” (5) ” حي تلمينه ” (6) ” حديقة الشجرة العملاقة المقابلة لبناية المؤسسة الإدارية ” (7) ” قاعة الحفلات” (8) ” المسبح البلدي”(9) ” ثانوية بن عودة” (10) ” سينما الفتح “(11) ” شارع محمد خميستي” (12) ” الملحق الثقافي “(13)
كما مكنت اللغة في جانب آخر الروائي من أن يطلع جمهوره على أحوال بضع شخصياته  و علاقاتها، و إن دعت لذلك دواعي البناء السردي، فإن تصويره ذلك أعطى للشخصية بعدا نفسيا و اجتماعيا و جسديا ،لا يعدو أن يكون ضربا من المكونات السردية الروائية، و مثل تلك الأبعاد ما نسوقه في هذه الشواهد :
1- البعد الجسدي :
أ- شخصية ” عمار الحر ” :
- ” و مرّر يمناه على وجهه ذي الشكل المثلث…” (14) – ” و ضيّق عمار عينيه البنيتين …” (15) – ” ارتدى عمار الحر بدلته… ثمّ سرّح شعره المجعد ” (16) – ” و اتّجه عمار الحر نحو مصلحة التكوين، و هو يبحث بعينيه الضعيفتين… ” (17) – ” و مرّر عمار الحر يمناه على وجهه الشاحب ” (18)
ب- شخصية ” جميلة الساعي ” :
- ” جسدها هزيل، أما قامتها فقصيرة جدا…” (19)
ج- شخصية ” نصيرة التل ” :
- ” لاحظ عمار أنّ شعرها القصير فقد لونه الجميل، و لم يعد وجهها الدائري جذابا كما كان، بل أصبح شاحبا، تخرقه عينان غائرتان…” (20)
2- البعد النفسي :
أ- شخصية ” عمار الحر ” :
- ” و خرج من المحل ، و هو يشعر بحزن عميق في قلبه المرهق…”(21)
3- البعد الاجتماعي :
أ- شخصية ” عمار الحر ” :
- ” يا عمار.. أنت رجل نزيه، و لك مصداقية و سمعة طيّبة، فلماذا لا تسخر بعض حهودك للمجتمع “(22) – تقول” سميرة الرمال ” لعمار : ” حضورك يشجعنا … جمعيتنا في حاجة إلى دعم مثقفي المدينة ” (23)
و إنّها اللغة نفسها التي يتحدث بها الراوي ” مفلاح ” حين تكون اللغة لغة سرد أو حكي، وهي اللغة نفسها التي يتحدث بها حين تكون اللغة لغة حوار أو مناجاة :
 1- لغة السرد :
و تجسدت هذه اللغة من خلال تعريفها بشخصيات الرواية، و تعرضها بالوصف الدقيق لمعالم و آثار المدينة ( غليزان) ، و نهوضها بأحداث الرواية ، و سردها عموما …
فأمّا ما كان من تعريف فهو من طريقين :
أ- من السارد : ” ولد الحسين السعيد في حي البحيرة الميتة، و تعلم منذ صغره الكفاح من أجل اللقمة… كان والده ” لخضر السعيد عاملا بمزرعة التسيير الذاتي العمومية. وقد توفي قبل أن يلتحق حسين بالمرحلة الثانوية. و اضطر لبيع وجبات… بواسطة عربة خشبية،إلى أن وجد عملا بسوق الخضر و الفواكه.. و لم يهمل دروسه ، بل واصل تعليمه بجد إلى أن أصبح مهندسا… ” (24)
ب- و من حديث الشخصيات عن بعضها بعضا :
- قالت جميلة الساعي عن عبد الحكيم الوردي : ” ليكن شاعرا.. ليكن أمير الشعراء.. أردت منه أن يهتم بالبيت و شؤونه فقط. عبد الحكيم الوردي لن ينجح في حياته أبدا ، إنه لا يعرف إلا القراءة و الكتابة.. و لا يحب إلا نفسه .. إنه رجل أناني..” (25) – و لما ذكر اسم حسين السعيد ،ابتسم الزبير الزموري قائلا : ” إنّه مثل الآخرين .. و مع ذلك فأنا أحبه ، إنّه شخص نزيه و متواضع ” (26)
2- لغة الحوار :
ما لاحظته على مجموع الحوارات التي نسجها الروائي ” محمد “، في روايته، أنّها التزمت القصر و الإيجاز:
* إمّا لطبيعة الشخصيات التي كان يعتوها القلق و الاضطراب، فكانت لا تتمادى في الكلام، على نحو ما هو ملموس من حوار دائر بين ” عمار الحر” و بين رفيقه ” عبد الحكيم الوردي” :
- ” الحمد للّه .. و أنت ؟ و أضاف قائلا : أشكرك كثيرا : هل اضطلعت على كراستي ؟ ما رأيك ؟ و صارحه عمار الحر قائلا : لم أقرأ منها إلا بعض الصفحات، كنت مشغولا… ” (27)
* و إما لإيمان الروائي ” محمد مفلاح ” بتقنية العمل الروائي الاحترافي، في الجنوح لعدم الإكثار من الحوار و الإطالة فيه، ويعني بعض هذا أنّه على وعيّ تام بصنعته .
فكان يكتب بالفصحى اللغتين معا ، إلا ما جعله بين مزدوجتين، فكان مسرودا في نصه السردي باللسان العامي على نحو ما هو وارد للدلالة على الأعلام ، نحو: ” الميلود/ ص: 78″، ” بوعلام / ص:79 ” ، ” خروفة / ص:79″ ، زهور القايمة / ص:79“، ” راضية / ص: 80” …
إنّ ما لاحظته على لغة السرد لدى ا لروائي أنه لم يأذن لأداته المطواعة من أن تتدنى من مستواها لفصيح إلى تلك اللهجة العامية التي كانت تتطلبها و تستدعيها كثير من المواقف مثلا :
أ- في كلام ” عمار الحر ” مع أمّه (28) ب- أو ” عمار الحر ” مع ” نثيرة التل ” (29)
و على أنّ مثل هذه الظاهرة التي جئت على ذكرها،عثر عليها حين سياق الكلم الأجنبي، حيث لم يستنم الروائي ” مفلاح” إلى كتابته بخطه الأعجمي، بل ساقه بلفظ عربي، و الأمثلة في ذلك ما ورد في الشواهد الآتية :
أ- ” رامبو ” (30)ب- ” الدومينو ” (31)ت- ” تمنى أن يشتري سيارة … من نوع (كليو) ” (32)ث- ” تغيرت كثيرا ياحبيبي… أصبحت (جنتلمان) ” (33) ج- ” سيجارة أفراز ” (34) ح- ” لفنانة الفرنسية – أديت بياف – ” (35)خ- ” الشاعر – بول فرلين – ” (36)د- ” ركبت معه في سيارته (المرسيدس) ” (37)
و هذه بصراحة جرأة ناذرة عند روائيينا و كتابنا، و إنّي لأشيد بها من جرأة ما ظلت الألسن و الأقلام تكابد و تتسامح و تتدنى، من أجل أن يعطى التمكين للعامية، و لله در الكاتب       و المنظّر الأستاذ/ د.” عبد الملك مرتاض” إذ يقول :
” و دع عنك أولائك الذين لا يزالون يغالطون بجماهيرية القراءة … فإن هؤلاء وجدوا حلا لمشكلة ضعفهم في اللغة العربية العالية.” (38)
و أيا ما يكن الشأن، فإن ظاهرة أخرى التمست داخل العمل السردي في نص الروائي، و هي في التوزيع اللغوي لأصناف شخصياته وفق وظائفهم، فجعل كما أثر عن” الجاحظ” :
” لكل طبقة من ذلك كلاما، و لكل حال من ذلك مقاما .” (39)
أ- و من ذلك ، المستوى اللغوي للأرملة الثرية، إذ مثّلها لسانها بمقام المرأة المثقفة ثقافة تاريخية بوقائع منطقتها، و ثقافة شعبية برواد الشعر الشعبي في منطقتها ذاتها. ( ينظر الصفحة: 60 و ما بعدها)
ب- و مثل ذلك يقال في شخص ” حسين السعيد” الذي نطق لسانه بما يعرف بشخصيته في الحياة السياسية (ينظر الصفحة: 88 و ما بعدها)
ت- و لا يقال إلا نحو ذلك في المستوى اللغوي لشخصية ” عمار الحر” و تطابقها مع حاله، إذ كان إنسانا موهوبا مترددا في الكتابة و التأليف :
” لن يهدأ له بال [ أي لعمار الحر] حتى ينهي كتابه الجديد، و لكن عليه أولا أن يخلي ذهنه من كل المشاكل التافهة، و جلس … يركز بصره على القلم الرابض على الورقة التي غزتها حروف صغيرة ” (40)
” و اتّجه [ عمار الحر ] نحو مكتبه قائلا في نفسه : لا بد من مقاومة هذا الملل الذي أخشى أن يتسلل إلى أعماقي .”(41)
” أطرق عمار الحر رأسه لحظة تمنى لو كان قادرا على الكتابة في الصحف اليومية… ” (42)
قال ” حسين السعيد” لعمار الحر : ” فأنت ترفض السياسة بحجة الكتابة، و لكنك لم تكتب عبارة واحدة منذ سنوات .” (43)
و واصل قائلا : ” و لكنني أخشى أن تتوقف عن الكتابة .. فأنا أعرفك جيّدا يا عمار.” (44)
 
 
الهامش :
(1) الجاحظ ، البيان و التبيين ،ج/01 ،ص : 153 ، عن : د.عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية، بحث في تقنيات الكتابة الروائية، دار الغرب للنشر و التوزيع، وهران،2005 ، ص : 153 (2) محمد مفلاح ،الوساوس الغريبة،دار الحكمة للنشر و الترجمة،الجزائر، 2005 ، ص: 09 (3) م ن ، ص : 64 (4) م ن ، ص: 129 (5) م ن ، ص: 09 (6) م ن ، ص: 12 (7) م ن ، ص: 19 (8) م ن ، ص: 60 (9) م ن ، ص: 64 (10) م ن ، ص: 92 (11) م ن ، ص: م ن (12) م ن ، ص: 113 (13) م ن ، ص: 135 (14) م ن ، ص: 22 (15) م ن ، ص: 23 (16) م ن ، ص: 108 (17) م ن ، ص: 109 و ما بعدها (18) م ن ، ص: 115 (19) م ن ، ص: 117 (20) م ن