أثر الإعلام في تقويض دعائم العربية
تطورت صناعة الإعلام في العالم العربي تطورا متسارع الخطا، بتأثير التطور العالمي للإعلام، ودخلت وسائل الإعلام من صحيفة وإذاعة وتلفاز كل منزل، وخاطبت كل أفراد المجتمع بمختلف فئاتهم، وكل هؤلاء يجدون في وسائل الإعلام المختلفة ما يلائم تفكيرهم، ويلبّي متطلّباتهم، ومن ثَمّ صار الإعلام منبع المعرفة، وأداة التوجيه والتأثير في الأمة، وتنبع أهمية الوسيلة الإعلامية من كونها تخاطب -كما أسلفت- كل شرائح المجتمع وفئاته، فالكل واقع تحت تأثيرها، كما أنها تغطي مساحات واسعة، فالصحيفة تقرأ في بلاد المغرب والمشرق معا، ومشاهد التلفاز في أقصى الشرق يستطيع أن يرى ما يحصل في أقصى الغرب.
ويعتمد الإعلام اللغة أساسا في مخاطبة الجمهور، وتضاف الصورة إلى اللغة في بعض الوسائل الإعلامية كالتلفاز، لكنّ اللغة هي أداة التواصل الأولى، لذا فإن اللغة تتأثّر أيّما تأثر بالعملية الإعلامية، فقد تزداد رقيا وحضارة، وقد تنحدر إلى لغة السوقة والأمّيين، وهي في الحالين سوف تُنشر وتتكرس في أوساط المجتمع، وكلّما ارتقت لغة الإعلام، ارتقت معها لغة المجتمع، وبارتكاسها تنحطّ لغة الأمة، ومن هنا يظهر دور الإعلامي وتأثيره -الذي لا يستهان به- على اللغة التي يكتب بها مقالا، أو يقدّم بها برنامجا، وسوف أتناول في هذا المقال أبرز التأثيرات السلبية للإعلام على العربية الفصحى.
آ-الصحافة
كانت الصحافة من أول وسائل الإعلام ظهورا في العالم العربي، وهي تؤدّي دورا مهما في نشر الوعي الاجتماعي والعلمي والسياسي بين أفراد المجتمع، فضلا عن التواصل بين الشعوب والأمم المختلفة، ومن أهمّ خصائص الصحافة الاستمرارية المنتظمة، والسرعة في نقل الحدث، وأساسها -كما يقول الرافعي- ما يمكن كما يمكن، ودأبها السرعة والتصفح والإلمام(1)، ولأجل ذلك اتجهت اللغة الصحفية إلى "النزعة الوظائفية الإخبارية، أكثر مما اعتنت بالوجهة الجمالية الكامنة في اللغة". وربّما اعتبرت هذه النزعة من مميزات الصحافة، حيث استطاعت بسببها أن تنشئ لغة تجمع بين فصاحة العبارة وسهولتها، فقرّبت الفصحى من أذهان العامة، لكنّ تلك السهولة والبساطة قد جنحت في كثير من الأحيان إلى الخطأ والزلل، حتى تعدّدت عثرات اللغة الصحفية، وكثرت كبواتها، وجنت على الفصحى، ومن أهم هذه العثرات:
1- غزو الألفاظ العامية لأسطر الصحف والمجلات، وقلما تسلم صحيفة أو مجلة من ذلك، وهذا من أعظم ما جنته الصحافة على الفصحى، لأنّه في شيوع الألفاظ والأساليب العامية في الصحافة تكريس لها في أوساط المجتمع من جهة، وقبر للفظ الفصيح من جهة أخرى. وحجّة المحررين في استخدام العامية أنّهم يطلبون الأسهل والأقرب لفهم القرّاء، لكن ليت الأمر اقتصر على هذه المصطلحات! بل إنه تعدّاه إلى كتابة مقالات كاملة باللهجة العامية، وتُذيّل هذه المقالات بأسماء كبار الكتاب والأدباء في العالم العربي!
ثم استحدثت بعض الصحف صفحات كاملة يومية لنشر القصائد العامية، وتمجيد شعراء العامية، حتى صار أدب العامية أقرب طريق للوصول إلى الشهرة وعلو الكعب! بعد ذلك تحوّلت هذه الصفحات إلى مجلاّت (للأدب) الشعبي، تهتمّ بالدراسات الشعبية، وتهلّل لكلّ قصيدة عامية، وتملأ هذه المجلات أرفف المكتبات، ويتهافت الناس على شرائها، بينما يقبع بعض أدباء الفصحى في ركن مظلم، لا يُلتفت إليهم، فقلّةٌ هي الصحف التي تحوي صفحات مخصصة للأدب الفصيح، وفي مقابل عشرات المجلات الشعبية، لا نجد إلا بضع مجلات تهتم بأدب الفصحى وشعرائها، ناهيك عن جودة طباعة الأولى وسعة انتشارها.
لقد شنّ مصطفى صادق الرافعي رحمه الله تعالى منذ نصف قرن حملة شعواء على الصحافة، ورأى أنّ "أكثر ما تنشره الصحف من الشعر هو... صناعة احتطاب من الكلام، وقد بطل التعب إلا تعب التقشُّش والحمل، فلم تعد هناك صناعة نفيسة في وشي الكلام، ولا طبع موسيقي في نظم اللغة، ولا طريقة فكرية في سبك المعاني(2).
والشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى حمل على صحف دمشق التي "تجمع على مدح الكتاب وتقريظه، وتهلّل للشعر الجديد وتصفق، وما ثمّة إلا منكر من القول قد صيّروه معروفا، أو ثقيل بارد استحبّوه، أو غثّ متهافت رأوه قويا بليغا، كأن الأدب صار لهوا وعبثا(3).
هذه نظرة الرافعي والطنطاوي لأدب الصحافة يوم أن كان لديهم صحف كالرسالة والمقتطف، وغيرهما من الصحف التي كانت تحمل همّ الفصحى، فما عسانا نقول اليوم يا ترى؟!!
كما تمتلئ صفحات الجرائد والمجلات بالإعلانات المصاغة بلهجة عامية، وكذلك النشرات الإرشادية، وأغلب مجلات الأطفال يصاغ محتواها بالعامية، مع أن المفترض في هذه المجلات أن تكون من وسائل ترسيخ اللغة العربية الفصحى لدى الناشئة، وأن تقرّبهم منها، وتشجّعهم على استعمالها!
2- شيوع اللحن والأخطاء النحوية، والأساليب اللغوية الركيكة على صفحات الصحف والمجلات في العالم العربي، ويرجع ذلك إلى عدم إلمام المحررين بقواعد النحو العربية، ثم السرعة وعدم الاعتناء بالأساليب اللغوية السليمة، والبحث عن أقرب الطرق إلى أذهان القراء وأفهامهم، "وهم لذلك يجعلون الفصاحة واللكنة، والخطأ والصواب، والإغلاق والإبانة، والملحون والمعرب، كلّه سواء وكلّه بيانا(4)، مادام القارىء يفهم المراد ويستوعب المقال.
وهم قد أخطؤوا حين ظنّوا أن لغة الإعلام لها أن تتحرر من القواعد النحوية والصرفية، وأن ذريعة استنادها إلى الأحداث الفجائية، تجيز لها أن تتصف بالشذوذ النحوي والإملائي، بل على العكس من ذلك.. إذ أنّ انتشار الوسيلة الإعلامية وتغطيتها مساحات شاسعة يحتّم عليها أن تبحث عن الرقيّ في خطابها الإعلامي، حتى تكون إحدى أدوات النهوض بالأمة.
3- في اللغة الإعلامية عامة، واللغة الصحفية على وجه الخصوص، هناك ما يمكن تسميته بالقوالب الجاهزة التي تصبّ فيها المادة الصحفية، فلو تتبعنا طريقة كتابة خبر معين في عدد من الصحف، فسنجد أن صياغة الخبر تكاد تكون متماثلة من حيث المفردات المستخدمة، والأساليب التعبيرية، في أغلب الصحف. وكون اللغة الإعلامية تتطلب الوضوح والبعد عن الألفاظ المبهمة والأساليب الغامضة، فإن ذلك لا يعني أن يلجأ المحرر دوما إلى ذات الألفاظ.. والصياغة المعتادة!
إنّ معجم العربية غني بالكلمات والأساليب التي لا حصر لها، لكنّ الإصرار على إهمال جزء كبير من هذا المعجم، والاكتفاء ببعض ما فيه، أفقد العربية أهم خصائصها ومميزاتها، فاللفظ الذي يصحّ أن يكون له معانٍ متعددة، اقتصر على معنى واحد مشتهر من تلك المعاني، وأُهمل الباقي، والمعنى الذي تؤديه عدة ألفاظ، استُعمل منها لفظ واحد، أو اثنان وأُهمل ما عداه، وقد أوجد هذا الأمر لدينا فقرا في المفردات اللغوية وأساليب التعبير. ربما لا تتحمل الصحافة وحدها مسؤولية ذلك.. حيث تشاركها أيضا وسائل الإعلام الأخرى، والأدباء والمثقفون وأرباب الأقلام في الأمة.
4- استخدام الألفاظ والمفردات الأجنبية مع وجود لفظ عربي مقابل لها، ونشر الإعلانات المصاغة بلغة انجليزية أو فرنسية، وربما احتل هذا الإعلان صفحة كاملة من الصحيفة أو المجلة، هذا فضلا عن الصحف الناطقة بلغة المستعمر السابق.. في الوطن العربي، ففي بلاد المغرب مثلا تُعدّ الصحف الصادرة بالفرنسية؛ الصحف الرئيسية بين أوساط الشعب، وهي تزيد من تشبّثه بأهداب الفرنسية، واستثقاله العربية.
إنّ الأصل في هذه الصحف والمجلات أنّها موجهة للقارئ العربي، فما المسوّغ الذي يبيح لها مخاطبة القارئ بغير لغته، إلا الشعور بدونية اللسان العربي، وتفوّق اللسان الأعجمي عليه، هذا إن أحسنّا الظن بها، لكنّ الحق أنها تسعى لنشر الأجنبية وتأصيلها في المجتمع على حساب العربية.
ب- الإذاعة والتلفاز
سبقت الإذاعة التلفاز في دخول العالم العربي، لكن التلفاز كان أكثر ثأثيرا وجذبا للمشاهدين، لكون اللغة تخاطب في المتلقي حاسة واحدة، والتلفاز يضيف بعدا آخر للكلمة المنطوقة. ولا يمكننا إغفال الدور الذي قامت به هاتان الوسيلتان في نشر الفصحى، وذلك في بدايات إنشائهما، حيث إنهما اعتمدا الفصحى في مخاطبة المتلقي، فضلا عن العديد من البرامج النحوية والأدبية والتعليمية.
لكنّ هذا الحرص على العربية وعلومها ما لبث أن تضاءل شيئا فشيئا، حتى انقلب إلى حرص على العامية المحلية، ونبذٍ -بل محاربة- للفصحى ولكلّ ما يمتّ إليها بصلة، وتحوّل ذلك الدور الكبير في نشر العربية إلى دور كبير في هدم العربية وتقويض دعائمها، بطرق متعددة، وأساليب مقصودة وغير مقصودة، لكنّها في النهاية تثمر نتيجة واحدة، ومن هذه الأساليب:
1-حرب اللهجات المستعرة بين الإذاعات والفضائيات العربية(5)، والتنافس المحموم لحيازة قصب السبق، بانتشار عامية هذه الإذاعة أو تلك الفضائية بين أكبر عدد من المستمعين والمشاهدين، حتى تنوّعت وتعددت لهجات الإذاعات والفضائيات بعدد الدول العربية.
وكان ابتداء انتشار هذا التلوّث اللغوي بظهور المسلسلات والأفلام، وكانت الحجّة في ذلك محاكاة الواقع، ثم انتقلت هذه المحاكاة إلى برامج التراث والإعلانات والبرامج الحوارية وحتى العلمية..!
وأدّى هذا الاندفاع نحو العامية إلى جعل بعض اللهجات أقرب إلى فهم المتلقي من الفصحى، خصوصا بالنسبة للأميين وأنصاف المتعلمين، وكذا الأطفال، واللهجة المصرية أصدق مثال على ذلك، فقد انتشرت في أرجاء العالم العربي، وصارت بمثابة لغة التواصل بين العرب، يفهمها الشامي والعراقي واليمني والمغربي، ويعود السبب في ذلك إلى الإذاعة والتلفاز اللذين نقلا الفنون المصرية، الغنائية والدرامية وغيرها، إلى المتابعين لهما في أرجاء الوطن العربي.
واليوم.. بعد أن ضاق الفضاء بالفضائيات العربية، ظهرت في الساحة الإعلامية لهجات أخرى تنافس المصرية على مقعد الشهرة والانتشار، وتكاد بعض الفضائيات تعطي للمتابعين لها دروسا في قواعد لهجاتها وأصول النطق وأصوات الأحرف فيها، كل ذلك يحدث على حساب الفصحى، بل وعلى حساب العامية الراقية أيضا، "فالأولى تهان، والثانية تبتذل، حتى إنها كثيرا ما تجنح إلى السوقية والإسفاف، متجاوزة العامية الراقية المحترمة(6).
منافذ العامية في الإذاعة والتلفاز
لقد تعددت منافذ العامية في الإذاعة والتلفاز، وبات من الصعب حصرها، فهناك إذاعات وفضائيات تبدأ إرسالها وتنهيه بالعامية، وما بين البدء والختام لا يكاد المتابع يسمع جملة فصيحة، لكنني سآتي على ذكر أهم المنافذ، وأكثرها تأثيرا.
المذيعون والمذيعات: الكثير من هؤلاء لا يحسن صياغة جملة فصيحة غير ملحونة، وما يعلم من قواعد العربية شيئا، وهو لا يرى في ذلك عيبا أو منقصة تحطّ من قدره، بل وصل الأمر ببعضهم إلى ازدراء الفصحى، وجعلها مثارا للسخرية والاستهزاء، في مقابل الاعتزاز باللهجة المحلية، والشعور بتفوّقها على ما عداها من اللهجات.
وتعدّ البرامج الحوارية الفنية والثقافية والسياسية، من أكثر البرامج التي يجنح مقدموها إلى استعمال العامية، لأنّ التحدّث بالفصحى فيها يتطلب مهارة وعلما وثقافة، وكلّ ذلك يفتقر إليه هؤلاء المذيعون، فيعمدون إلى مداراة النقص، بالنقص ذاته. أمّا الضيف الذي هو محور البرنامج، ففي كثير من الأحيان لا يكون أفضل حالا من المذيع، فهو يجاريه في الحديث بالعامية، ويتفوّق عليه في استعارة المفردات والمصطلحات من لغة أخرى، ليثبت نخبويته، فهو يرى أن لغة النخبة لا يجوز تدنيسها بمفردات عربية فصحى!!
وإذا علمنا أن كثيرا من البرامج الحوارية إنّما تستضيف أصحاب الشهرة والمثقفين والساسة، ومتبوئي المناصب العليا في المجتمع، فسوف ندرك عظم الـتأثير الذي يتركه هؤلاء لدى العامة من الناس، عندما يلاحظون مدى حرص هذا النجم على أن يبعد عنه عار الفصحى وشنارها، وأن يغرق ما أمكنه في عاميته المحلية المطعمة بلغة (المستلِب)، ومن منطلق ولع الغالب بالمغلوب، فإن الشعور بالازدراء والنقص تجاه الفصحى سينتقل حتما إلى المتلقي.
أما إذا تحدّث هذا (النخبوي) بالفصحى، فإنه سيهمل الإعراب -وهذه أول خصائص العامية- وإذا أعرب فسوف ينصب المرفوع، ويخفض المنصوب، وقلّة هم اللذين يتحدّثون بفصحى معربة سليمة من اللحن.
وتأتي بعد ذلك مشاركات المستمعين والمشاهدين في برامج البثّ المباشر، لتزيد الطين بلّة، فحديث بعضهم ينحدر إلى العامية المبتذلة، التي يشقّ على من لديه أدنى حسّ أدبي أن يسمعها.
البرامج الموجهة للأطفال: وهذه من أخطر المنافذ، لأنها تكرس العامية في نفوس النشء وهم في مرحلة يتشوقون فيها للمعرفة، ويسهل تأثّرهم بكلّ ما حولهم، وبدلا من استغلال هذه المرحلة في تعزيز مكانة الفصحى، وترسيخ الملكة اللغوية لدى الناشئة عن طريق الاستماع، نرى وسائل الإعلام تهدم اللبنات الأولى التي يشيدها التعليم في عقول هؤلاء الصغار، بتركيزها على العامية في كلّ ما هو موجّه للطفل، بدءا بالرسوم المتحركة، ومرورا بالبرامج الثقافية والترفيهية، وانتهاء بالإعلانات التجارية والبرامج الإرشادية، وكلّ هذه البرامج لها أشدّ التأثير على سلوك الطفل وتفكيره ولغته، فهو يعمد دوما إلى محاكاة أبطالها، وتقليدهم فيما يأتون من أقوال وأفعال، ويستوعب كل ما يسمعه ويشاهده بدقة متناهية.
إنّ أمثال هذه البرامج تعدّ بيئة خصبة للتعليم والتوجيه غير المباشر، إن أُحسن الإعداد لها، وتم اختيار كفاءات ومواد مناسبة. أما إن كان العكس، فالجرم عظيم وخطير، يتغلغل أثره عميقا في النفوس، ويظهر في صورة أجيال لا تميّز الفاعل من المفعول.. ولا تعرف الفرق بين المرفوع والمنصوب!
الإعلانات التجارية: وتأتي أهميتها "من كونها عبارة عن رسائل قصيرة موجهة، تتكرر بشكل مكثف على أذن المستمع وعينه، على نحو يجعلها ترسخ في ذهنه، بحيث يمكن أن يردّدها دون وعي"(7). وغالبا ما يحرص القائمون على هذه الصناعة على استخدام العامية التي يرون أنها أكثر تأثيرا وجذبا للمتابع، وبالتالي أضمن في تسويق سلعتهم ورواجها، وربما علّلوا استخدامهم للعامية بأنها تمثل الواقع، وهنا يحق لنا أن نتساءل: أين هو الواقع في إعلان يصاغ باللهجة اللبنانية أو المصرية، ليذاع في إذاعة يمنية أو يعرض في تلفاز سعودي؟.. إنّ الأصدق أن يقال إنها مجاراة للواقع، وعزف على وتر اللهجة المفضّلة لدى المتلقي! وهكذا يتمّ تسخير اللغة لتصبح أحد أدوات صناعة المجتمع الاستهلاكي!
برامج الشعر الشعبي أو العامي: وكذلك الأمسيات الشعرية لشعراء (إن صحّت التسمية) العامية، وتستميل هذه البرامج فكر المستمع والمشاهد نحو هذا النحو من الشعر، وتوجد هالة من النجومية والشهرة حول شعرائه، وتؤدي دورها في إفساد الذوق الأدبي العام.
يضاف إلى ما سبق الأغاني الموسيقية التي تصدح دوما في الفضائيات والإذاعات، ولو أنّه ما وجد سبب لتحريمها إلا ألفاظها المبتذلة، التي لا تحترم ذوقا، ولا تراعي أدبا، لكفى به من سبب. كذلك برامج المسابقات والبرامج العلمية، وهذه يفترض بها أن ترتقي بالمشاهد والمستمع تفكيرا ولغة، لا أن تزيده جهلا وخطأ.
وفي مقابل الطوفان العارم للعامية، ما عاد للفصحى مكان إلا في نشرات الأخبار، وهي هنا مشوّهة عليلة، مليئة بالأخطاء اللغوية والإلقائية. لقد نسي القائمون على الإذاعة والتلفاز أنّ "وسائل الإعلام يجب أن تكون موجِّهة لا موجَّهة، وهذا يعني أنّها لا يصحّ أن تتملق عواطف الجمهور أو تجري وراء نزواته، بل يجب أن توجهه وتأخذ بيده، وتقوده إلى حيث تريد، فلهذا السبب وجدت، ومن أجله تعمل(8).
نعود إلى الأساليب التي انتهجتها الإذاعة والتلفاز في محاربة الفصحى:
انتشار استخدام الأجنبية في الإذاعات والفضائيات العربية، فمسمى القناة أو الإذاعة أجنبي، ومسمّيات البرامج أجنبية، والمذيعون يحرصون على تطعيم عاميتهم بمفردات أجنبية، وهذا أحد مظاهر الاستلاب الذي تعانيه الأمة العربية الإسلامية، ومن مضاعفات هذه الظاهرة "تشويه الذات وتحقيرها، والرفع من قيمة الآخرين وتراثهم ومنجزاتهم (ولغاتهم)، وهذا.. يقود إلى تدمير الذات، واستبدالها بذات أخرى وهمية أو مصطنعة(9) كما يقول المفكر برهان غليون.
وهكذا صارت اللغة الأجنبية أحد دلائل التميز والنجومية في المجتمع العربي، والمتحدّث بها إنّما يريد أن يؤكّد انتماءه إلى طبقة النخبة، التي تتميّز عن العامة حتى في لغتها، وقد ساهمت الأعمال الدرامية العربية في تأصيل هذا المفهوم، فغالبا ما تحوي لغة الشخصيات التي تمثل الأثرياء وأصحاب النفوذ في المجتمع الكثير من المفردات والألفاظ الأجنبية، تأكيدا لتميّزهم من جهة، وتشويها للعربية، وبخسا لقدرها من جهة أخرى.
3- الأعمال الدرامية والمسرحية والسينمائية العربية، وهذه قد ساهمت بدور فعال في الحطّ من قدر الفصحى والإساءة إليها بأساليب عديدة(10)، وسوف نتجاوز العامية المستخدمة في هذه الأعمال، مع أنّها كانت من أهم أسباب استشراء داء العامية في وسائل الإعلام العربية، وعذرُ من ينشرون هذا الداء -كالمعتاد- محاكاة الواقع وتجسيده، على فرض أننا سلّمنا وقبلنا هذا العذر (الواهي)، فلن يسعنا التسليم أمام هذا السؤال الكبير: لماذا يعمد كتاب الدراما إلى إنطاق الشخصيات التي تمثّل علماء الدين والمتديّنين بالفصحى، في مسلسل كلّ من فيه ينطق بالعامية(11)؟!! هل نعدّ هذا من باب محاكاة الواقع أيضا؟!! أم تراه خوفا على الفصحى.. وحبّا لها؟!!
إنّ إظهار الفصحى في الأعمال الدرامية وغيرها على أنّها لغة علماء الدين، يوحي للمشاهد بأن استخدام هذه اللغة يقتصر على هؤلاء، كما يكوّن مفهوما خاطئا عن العلاقة بين العربية والدين، فالدين الإسلامي كان بمثابة نقطة انطلاق للعربية نحو العالمية، وحافظاً لها من الاندثار على مرّ الأزمان، لكنّ ذلك لا يعني تخصيص العربية بكلّ ما هو ديني وتعبدي فقط. إنّ هذا المفهوم الخاطئ ينذر بإقصاء الفصحى وإبعادها عن كل مجال علمي أو ثقافي أو اجتماعي، وجعلها لغة شعائرية، تؤدّى بها الصلوات، وتُلقى بها الخطب في المساجد، وتجري على ألسنة المتدينين فقط، وهذا ما تؤصّله وتغرسه هذه الأعمال في نفوس المشاهدين والمتابعين لها.
كذلك غالبا ما تكون اللغة العربية في هذه الأعمال موضع سخرية واستهزاء، بل وازدراء أحيانا أخرى، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها فيلم لأحدهم "يسخر فيه من مدرّس العربية، ومن اللغة العربية سخرية ماكرة، مقصودة بلا شك، فيصوّر مدرس اللغة العربية بائسا مسكينا، تبعث كل مواقفه على السخرية به، ولا يثير الاحترام عند أحد، ويجعل فتاة مائعة تحاول أن تقرأ نصا عربيا في درس المطالعة، فتخطئ أخطاء مضحكة.. ولكنها تُقدّم في سياق الأحداث بالصورة التي توحي للمشاهد أنها معذورة.. فاللغة العربية هكذا.. صعبة على الأفهام! لا يمكن للمتعلّم أن يستوعبها مهما بذل المعلّم من جهد(12). هذا مثال ذكره الأستاذ محمد قطب من عشرات السنين، قبل أن يستفحل الداء.. وينتشر في الجسد أجمعه!
هذه أهم النقاط التي أراها ساهمت في ضعف العربية من خلال وسائل الإعلام المختلفة.
ج- الحاسب الآلي والشبكة العنكبوتية
استخدام الانترنت كوسيلة إعلامية يعدّ مجالا جديدا في البلاد العربية، لكنّنا يمكن أن نقول إنه استطاع مجاراة الوسائل السابقة، وجذب الجمهور، إن لم يكن قد سبقها، وتفوّق عليها. وبحكم كونه أتى متأخرا، فهو ليس مؤثّرا بقدر ما هو متأثّر، فصفحات الشبكة من منتديات ومواقع تعد مثالا حيا -مؤلما أشدّ الألم- لما وصل إليه حال أبناء العربية.
إنّ جولة واحدة في أحد المنتديات، تصيب المرء بالذهول من شدّة الانحطاط اللغوي الذي تئنّ من وطأته هذه المنتديات والمواقع، فالفئة العمرية التي ترتاد أمثال هذه المواقع تتراوح في أغلب الأحيان بين سن 20 إلى 30 وحتى 40، أي أنّهم جميعا قد نالوا قسطا وافرا من التعليم، يمَكّنهم على أقلّ تقدير من الكتابة الإملائية الصحيحة، لكنك تفاجأ بكمّ هائل من الأخطاء التي ما كنت تتصور أن يقع فيها طالب الابتدائية! هذا فضلا عن العامية التي تتحرّر من كل قيد قواعدي أو إملائي، وتفتقر حتى إلى الرقي!
وليس هذا إلا نتاج سياسات تعليمية فاشلة، ووسائل إعلامية مبتذلة، ثم الإهمال من قبل الشخص نفسه، فهي كلّها حلقات متصلة، وسلاسل مرتبطة، يجرّ بعضها بعضا، وطريق الإصلاح لا بدّ أن يبدأ بالحلقة الأولى، ثم نتدرّج حتى نصل إلى الهدف المنشود.
توصيات
إنّ المطلوب من وسائلنا الإعلامية كثير وكبير، لكن لن يجدي الكلام إن لم يدرك القائمون على هذه الوسائل عظم الجرم الذي يقعون فيه، فإنّ إدراك الخطأ هو أهمّ خطوات الإصلاح، بعد ذلك علينا أن نردّ السهام في نحر العامية، فنحارب غزوها للصحف والمجلات والقنوات، ثم تجريم كل من يتحدّث أو يكتب بها في أي وسيلة إعلامية كانت، ثم إلزام الإعلام برفض الإعلانات التجارية المصاغة بالعامية أو بلغة أجنبية، وعدم بثّها أو نشرها حتى تحوّل إلى الفصحى، وتحقيق هذين الأمرين يحتاج إلى جهود القائمين على وزارات الإعلام في البلاد العربية، بعد أن يتكامل وعيهم بعظم الخطر المحدق بالعربية، وأهمية صرف بعض الجهود (الجبارة) التي يبذلونها في تنقية وسائلهم من كلّ شائبة سياسية! في تنقية العربية كذلك من كل شائبة تحطّ من قدرها!
كذلك لا بدّ من التوعية الإعلامية بأهمية ومكانة اللغة العربية، وذلك بطريقة تلائم العصر، ولا بدّ من الاستفادة في هذا المجال من تقنيات الحاسب الآلي، لوضع برامج تجمع بين الفائدة العلمية والتشويق والمتعة، كذلك إنتاج برامج تعلم اللغة بأساليب مبتكرة ومبسطة، ويمكننا الاستفادة في هذا المجال مما قدّمته الأمم الأخرى للحفاظ على هويتها اللغوية، فهناك مثلا عدّة مواقع على الشبكة تعلّم اللغة الانجليزية بطرق ميسّرة ومحبّبة، بعيدا عن تعقيد القواعد والاشتقاقات ونحوها، بينما لا يوجد مثيل لهذه المواقع بالعربية، إلا بضع صفحات لا يرتقي أغلبها للمستوى المطلوب.
ولا ننسى أهمية مخاطبة الطفل، وغرس محبة لغته والحفاظ عليها في نفسه منذ نعومة أظفاره، ويتحقق هذا بتقديم برامج تعليمية تراعي سن الطفل وميوله وقدراته العقلية، كذلك بتعديل المناهج التي تمثل الثغر الأول الذي ينفذ منه بغض العربية إلى نفس الطفل.
ليس معنى كل ما سبق أنه لا بد أن يكون كلّ أفراد المجتمع بلغاء فصحاء، فهذا ممّا لا قبل لأيّ مجتمع به، لكن الواجب أن يلمّ كلّ منا بأهمّ القواعد الضرورية، التي تمكّنه من الحديث والكتابة بلغة سليمة من الأخطاء الفاحشة، والهفوات الشنيعة، التي لا عذر لأحد في الوقوع بها. كذلك فإنّ اللغة تعدّ من أهمّ خصائص وسمات أيّ أمّة، وهي كذلك صمّام أمان بالنسبة لها، فإن انهارت دعائم اللغة فاقرأ على الأمّة السلام! لأن اللغة كما يقول الرافعي رحمه الله تعالى: "هي صورة وجود الأمة بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسها" فإن تحول الشعب عن لغته فإنما هو "التحول من أفكاره وعواطفه وآماله، وهو إذا انقطع من نسب أمته، انقطع من نسب ماضيه"(13).
والحمد لله رب العالمين.
مداد القلم
|
|
|