مًنْ الذي صنع عبقرية أسلافنا من الشعراء ؟
د. سليمان علي عبد الحق
الفن هو ذلك التعبير الإبداعي الراقي الذي يعبر عن رؤية المبدع لما يحسه ويدركه شعوره في لحظة فارقة من لحظات حياته ؛ ألا وهي لحظة الإبداع أو الخلق Creation ، فهي تلك اللحظة التي يمتزج فيها الوعي بغير قليلٍ من اللاوعي ، وتنفض عن مخيلة المبدع كلُّ أدران الإلف التي حجبت جمالياتٍ كثيرةَ عن موضوعات الإدراك من حولنا .
ولا يقتصر هذا المفهوم السابق على فن دون غيره ، بل يشمل الفنون جميعاً ، لأنها تشترك في سمات عدة ؛ أولها : صدورها عن عبقرية خلاقة ، وآخرها : التأثير في جمهور المتلقين .
وعندما نتساءل : من الذي صنع عبقرية شعرائنا القدامى ؟ ينبغي أن نلتفت إلى أن هناك فرقاً شاسعاً بين ما يسمى بالموهبة العامة ، وما يسمى بالعبقرية الخلاَّقة ؛ إذ إن الموهبة العامة موجودة لدى كثير من بني البشر ، وهي هبة من الله تعالى ، ولكنها لا تكفي وحدها لإنتاج عمل إبداعي راقٍ ، لأنها قد تعتمد على مجرد التنسيق بين الأشياء المتشابهة ، أو الجمع بين الأشياء المتنافرة عبر ما يسمى بقانون التداعي ؛ ذلك الذي يعتمد على آلية عقلية تكلف صاحبها ثمناً باهظاً من عناء التفكير والتذكر.
أما العبقرية الخلاَّقة فهي خصيصة فنية تتكون بعد مرحلة صقل الموهبة العامة ، وتدريبها ، والقيام على رعايتها ، وهي تلك التي يصدر عنها الفن في أي شكل من أشكاله المعروفة : الشعر أو النثر ، أو الرسم ، أوالغناء ،أوالتمثيل ....إلخ . وأبرز أماراتها أن الفنان يستطيع أن يحتفظ بإحساسات الطفولة ، وعفويتها ، وهو في عنفوان رجولته ، فيرمق الأشياء من حوله بنظرة جديدة ، وكأنه يراها – كالطفل – لأول مرة ، فيحس فيها بغرابة ، وتقع عينه منها على أمور مجهولة ، لم يألف رؤيتها من قبل ، بل يراها تتزيَّى بزي جديد .
ومن أمارات هذه العبقرية أيضاً أن ما يصدر عنها من إبداع يكون فريداً في تأليفه ، فيصعب بل يستحيل تغييره أو نقله وترجمته إلى لغة أخرى ، دون أن يفقد كثيراً من إيحاءاته ، ودلالاته ، وارتباطاته المتشابكة التي تحافظ على تلاحمه شكلاً ومضموناً ، وإلى هذا أشار الناقد الإنجليزي "كولردج" في مؤلفه المعروف بــ"سيرة أدبية" .
ومن خصائصها أيضاً أنّ من شأنها أن تؤلف بين الأشياء المتنافرة تأليفاً سوياً ، فتبدو وكأنها ولدت معاً ، ولذا فإن ما يصدر عن هذه العبقرية من إبداع لا يمكن أن يكون متفاوتاً ، أو به اختلاف أو عدم تناسب واستواء ، كما أنه يصعب تغيير بعض ألفاظه ، ولو بألفاظ ترادفها ، إذ إن القول الأصيل لا ترادف بين ألفاظه ، وإن حاولنا أن ننثر ألفاظ قصيدةٍ حقَّة ، أدركنا صعوبة هذا الأمر ؛ فكأننا نشرع في هدم بناءٍ منيفٍ ، فتتساقط أجزاؤه إلى الهاوية بلا رحمة .
وهذه العبقرية الخلاقة هي التي صنعت شعراءنا القدامى من لدن العصر الجاهلي حتى عصرنا الحديث ، إذا كان لديهم هذه القوة الفنية التي تستطيع أن ترى الأشياء المألوفة لنا جميعاً ، جديدة ، وغير مألوفة ، فتحدث عندهم دهشة الأطفال ، عندما يرون شيئاً مهولاً لأول مرة ، وهنا تبدأ تلك القوة العبقرية عملها في إدراك هذا الشيء ؛ بأن تحذف بعض التفاصيل ، وتخفي ما لم يؤثر في إحساس المبدع ، وتركز على أشياء محددة في موضوع الإدراك ، حتى يولد هذا المولود الجديد الذي نسميه عملاً فنياً .
وعلى الرغم من أن الأدب أو الإبداع سابق على النقد ، فإن للنقد دوراً مهماً في توجيه المبدع ، بل صناعته وشهرته أو الخسف به وبإبداعه معاً ، ولو دققنا النظر قليلاً إلى بعض فحول الشعر العربي ، كأبي تمام أو المتنبي أو أبي العلاء مثلاً ، لأدركنا أن ما أثير حول أشعارهم من نقد ، وما وجه لفنهم من سهام العيب والقدح ، سواء بحق أم بغير حق ، كان له دور كبير في صنع عبقريتهم ، واتساع مخيلتهم الشعرية ، حيث سعت إلى التنقيح والتحسين المستمر لما يبدعونه ، ولذا جاءت أشعارهم محكمة البناء ، قوية النسج ، تمتع الحس ، وتقنع العقل ، ولذا فليس غريباً أن نقول : إذا كان للشعراء الفضل في إبداع الشعر ، فإن للنقاد الفضل في صناعة الشعراء .
|
|
|