البحث العلمي والقرار السياسي
أ.د.علاء على الحمزاوى
تقاس أعمار الأمـم، وتعرف حضاراتها بما أنجزته من إبداعات ومبتكرات وبما فيها من علماء ومبدعين في مختلف العلوم وألوان المعرفة؛ ومن هنا تأتي أهمية البحث العلمي، فهو أعظم نشاط إنساني، وهو أساس النهضات وعماد الحضارات، وسبيل التقدم في شتى مناحي الحياة، ولا يمكن لأمّـة أن تُذكَر وتخلَّد حضارتها إلا والبحث العلمي سبيلها إلى ذلك، ولعل ماضي العالم الإسلامي وحاضر العالم الغربي خير شاهد على ذلك.
فقد أبدع المسلمون الأوائل فصنعوا حضارة ذات آفاق بفضل ما يسمى اليوم "البحث العلمي" ؛ حيث تجاوز فكرهم حدود التفكير اليوناني القائم على "التأمّل العقلي" فحسب، وذلك بإضافة منهج "البحث العلمي" القائم على الملاحظة والتجريب، وكانوا في ذلك منطلقين من أول أمر إلهي إلى الأرض "اقـرأ" ؛ ومن ثم نجحوا في إحداث نقلة تاريخية فجّروا خلالها ينابيع معرفية ضخمة في شتى العلوم، أقام الأوربيون عليها حضارتهم الحديثة.
ومن ثم وجّه الغرب جُـلّ اهتمامه إلى "البحث العلمي"، فخصّصوا له معظم ميزانياتهم، وأطلقوا العنان للمفكرين والباحثين، فظهرت النظريات والابتكارات التي جعلت لهم حضارة ومدنية، في حين تخلى العرب عن ماضيهم الحضاري المشرّف؛ بسبب إهمالهم "البحث العلمي"، ولم يكن سبب التراجع هو ضعف الفكر العربي وعدم وجود مفكرين ومبدعين، كلا !! فما أعظم فكرنا وما أكثر علماءنا ومفكرينا! وإنما السبب يعود إلى عدم اهتمام صانعي القرار السياسي بالبحث العلمي، فضلا عن تهميشهم العلماء، بل وطردهم، فما أكثر العلماء العرب الذين أسهموا في التقدم الغربي؛ بفضل احتضان الغرب لهم وتحفيزهم بشتى الوسائل.
أضف إلى ذلك أن ثمة فجوة بين صانعي القرار السياسي و"البحث العلمي"، فما أكثر الرسائل العلمية القيّمة التي مصيرها أرفف المكتبات، وما أكثر الرسائل المقطوعة الصلة عن احتياجات المجتمع، وكأن الهدف منها هو الحصول على درجة وظيفية!!
وثمة أسباب أخرى يتحملها صانعو القرار السياسي منها: ضعف ميزانية البحث العلمي، فهي في العالم العربي كله لا تقارب نظيرتها ـ مثلا ـ في ولاية أمريكية أو في اليابان أو إسرائيل أو دولة غربية، في الوقت الذي ينفق المسئولون بسخاء على تسلح الأمن الداخلي!
ومنها ضعف نشاط الترجمة، فما يترجَم في العالم العربي لا يقارب ما يترجَم في كوريا أو فرنسا أو حتى اليونان، فضلا عن الدول الكبرى الأخرى، علما بأن "الترجمة" من أهم مظاهر التقدم العلمي، وهي السبب الأول في أن تكون اللغة القومية هي لغة العلوم، كما في كل دول العالم ما عدا العالم العربي! كذلك من الأسباب التي تقع على عاتق صانعي القرار السياسي تضييق الحريات، فالبحث العلمي يقتضي مزيدا من الحرية الفكرية وإطلاق العنان للمفكرين والمبدعين ليفكروا ويبدعوا وينتجوا في إطار أخلاقي تحكمه القيم العربية الإسلامية.
ومن ثم ينبغي على صانعي القرار أن يكونوا على قدر المسئولية والإدراك بأهمية العلم والتعليم، فيدعموا نشر ثقافة البحث العلمي من خلال مناهج التعليم ووسائل الإعلام، ويحتضنوا العلماء والمفكرين، ويعمدوا إلى تعزيز التوجه الاقتصادي للبحث العلمي، مع الحرص على الربط بين الإنتاج البحثي واحتياجات المجتمع.
غير أن هذا لا ينسينا أن نذكّر القارئ الكريم بخطوات جادة بدأت في هذا الاتجاه الصحيح، مثل خطوات خادم الحرمين الشريفين ـ حفظه الله ـ في دعم التعليم والبحث العلمي بأكبر ميزانية في العالم العربي، فهذا يؤكد إدراكه أهمية البحث العلمي وحرصه على أن تكون المملكة في قائمة الدول التي تولي العلم والتعليم اهتماما ورعاية كبيرة، ومن مظاهر ذلك: (التوسع في الجامعات السعودية وبرنامج الملك عبدالله للابتعاث، وجائزة الملك عبدالله العالمية للترجمـة). والمستقبل بالتأكيد أفضل!!
|
|
|