فن الإعلانات وبلاغة التأثير
د. أمين عبد الله اليزيدي
لعل من أبرز أهداف القول البليغ وميزاته قدرته على التأثير، وفي هذه المقالة نلامس ملامسة خفيفة فنونا قولية وبصرية تؤدي وظيفة التأثير. فمما ظهر اليوم من صنوف الأقوال البلاغية أو التي يريد منها أصحابها أن تكون كذلك من حيث هي ممتعة، ومثيرة للقارئ، ومنتقاة بعناية لأجل التأثير أو الإقناع أو الإمتاع أو الإدهاش أو لموافقة حال القارئ، من هذه المظاهر البلاغية الجديدة (رسائل الموبايل). و(الدعايات الانتخابية)، و(الإعلانات).
والمتابع يمكنه أن يجمع قدراً منها ثم يحللها وسيجد بلاغةً وروعةً ودلالةً على مختلف الأذواق. فرسائل الموبايل: قصيرة غالباً، موجزة، عامية غالباً، مشحونة بالعواطف الصادقة أو المجاملات، وتعمل هذه الرسائل على تقوية الروابط بأيسر التكاليف، كما أنَّها قد تثير البغضاء أيضاً بأقل تكلفة، إضافة إلى أنَّها قد تؤثر على العلاقات الاجتماعية من حيث الاكتفاء بالرسالة عن الاستماع للصوت أو الكتابة بخط اليد، فضلاً عن الزيارة والحضور.
ومما ظهر حديثاً في صورته وطريقة تنفيذه: فنُّ الدعاية الانتخابية، إذ كان الشعر والخطابة، وهما فنان أدبيان، يقومان بهذه المهمة، وأيضاً الكلمة السائرة أو الحكاية. وهي ( الدعاية الانتخابية) تهدف إلى هدف آني مرحلي له أثر بعد انتهاء وقت الدعاية الانتخابية. بما فيها من عبارات قصيرة كثيفة الدلالة موجهة لغرض التأثير الشديد على المتلقي بل وإيهامه وخداعه.
وتتميز جمل الدعاية الانتخابية:
1- قِصَر الجمل.
2- ملامسة الهموم مباشرة.
3- إيقاعيتها لتكون سهلة الترديد والحفظ.
4- نقل رغبات المُرَشَّح، والمُرَشِّح، إلى العبارة الدعائية.
5- النكاية بالآخر.
6- قدرتها على التأثير.
7- اللامبالاة، فهي في نهاية المطاف دعاية انتخابية أو هكذا يقال عنها، وهذا أمرٌ سلبيٌ للغاية يؤثر على القيم الأخلاقية والعلاقات الاجتماعية. لأنَّ الإنسان يتأثر حتماً بالكلمات ومشاعرها فكيف نؤذيه، أو ندلس عليه، وَنُذِّلُّه ثم نقول له: لم يكن ذلك إلا دعايةً انتخابية.
غير أنَّ من أعظم إنجازات وتحولات العصر فن الإعلان والدعاية المصحوبة بالصورة والحركة.
وصناعة الإعلان صناعة قديمة تختلف في وسائل إنتاجها وطريقة الوصول إلى المستهلك/ المتلقي، فقديماً كان الشعر أو الكلمة السائرة، وربما تجرَّأ بعضهم فافترى قولاً ونسبه إلى النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم- لِيُرَوِّج بذلك القول لمأكولٍ أو مشروبٍ أو توجهٍ سياسيٍ أو مناطقي.
يروي صاحب الأغاني: أنَّ تاجراً من أهل الكوفة قَدِمَ المدينةَ بِخُمُرٍ ( جمع خمار) فباعها كلَّها وبقيت السودُ منها فلم تنفق، وكان صديقاً للدارمي، فشكا ذاك إليه، وقد كان نسك وترك الغناء وقول الشعر؛ فقال له: لا تهتم بذلك فإني سأنفقها لك حتى تبيعها أجمع؛ ثم قال:
قل للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا صنعت براهبٍ متعبد
قد كان شمر للصلاة ثيابه ... حتى وقفت له بباب المسجد
وغنَّى فيه، وغنَّى فيه أيضاً سنان الكاتب، وشاع في الناس ؛ فلم تبق في المدينة ظريفة إلا ابتاعت خماراً أسوداً حتى نفذ ما كان مع العراقي منها.
و الإعلانات وإن كانت تهدف إلى الإغراء فإنَّها تشترك مع البلاغة في واحدة من أهم خصائصها (التأثير). ولا شكَّ أنَّ فنَّ الإعلانات، أو صناعة الإعلانات له أبلغ الأثر في نفوس المشاهدين والمستمعين.
أمَّا اليوم ومع الطفرة التكنولوجية فقد أصبحت صناعة الإعلانات أمراً متطوراً وربما كانت من أقوى التحولات الحاصلة في التجارة والأذواق والتأثير في الناس وحياتهم اليومية وتغيير أنماط الحياة الاستهلاكية، بل إنَّ من تأثيرها الشديد أن لا يتنبه المجتمع لما يحدث في حياتهم من الأحداث ومن فساد الأذواق والتصورات، فمَثلاً تبث الشاشات كل يوم أخباراً مؤلمةً مصحوبةً بالصور لعشرات القتلى والضحايا والأحداث المأساوية أو الطائفية والعرقية، ثم يكون فاصلٌ إعلانيٌّ بعدها عن أنواع الشامبو المفيدة ( كلها) لإزالة القشرة أو التجعدات...، والفرق هائل بين الحالين، لتصبح الدماء والكوارث الطبيعية والإنسانية ليست سوى خبراً مصحوباً بالصورة، أما الشامبو( على سبيل المثال) فإنَّه ضروري لتسيير أمورنا، كما أنَّ مثل هذا الإعلان يُعَمِّقُ الإحساس بأنَّ الأمور بخير أو تبدو كذلك، ولم يبق من المشاكل إلا ما يتعلق بالشعر أوالبشرة أو المأكولات السريعة..الخ.
وتهدف الإعلانات ( صوتاً وصورةً وعبارةً وحركةً) إلى إحداث الإثارة الحسية في المشاهد/ المتلقي، من خلال البصر والسمع، وإلى إثارة الاشتهاء( ليس بقصد الشهوة في معناها الشائع) لكن الرغبة في مشاهدة أو تملك أو شراء السلعة المُعْلَن عنها.
كما قد تهدف إلى تغيير أذواق الناس وعاداتهم تجاه الأشياء والحقائق والأحداث بما يخدم غرض الإعلان، وقد يكون غرضاً سياسياً وليس استهلاكياً فحسب، وإلى ترويض المشاهد/ المتلقي، للتحول القيمي وأول صور ذلك التحول هو التحول إلى نمط المستهلك.
ومن ميزات الإعلانات ( ):
1- عدم وجود العنصر الشخصي، لأنَّه ينقل المعلومات من المُعْلِن إلى عدد من الأفراد وبدون مواجهة بينهما.
2- لا تنتهي وظيفتها عند حدِّ توصيل المعلومات من طرفٍ إلى آخر، بل تهدف إلى إقناعه.
3- لها وسائلها الخاصة.
وبقدر الأثر الإيجابي لصناعة الإعلانات في الترويج للبضائع والخدمات وأيضاً في مساعدة المحتاجين أحياناً، فإنَّ لها جانباً سلبياً منه:
1- إفساد الذوق( وليس على إطلاقه).
2- التأثير على القيمة والتفكير الجِدّي في الأحداث وبقاء التأثير بالحدث الإعلاني على حساب الحدث الفعلي.
3- تعميق النمط الاستهلاكي، والترويج له بصفته هو الحقيقة المطلقة، أو على الأقل الموجودة.
4- إضعاف دور الكلمة والتفاعل معها، وهذا ما يصنعه الإعلان حين يُصْحَب بالصورة، ( وأيضاً للمسلسلات والأفلام والعرض المتحرك للصورة أيًّا كان نوعها هذا التأثير وبنسب متفاوتة) وهذا يعني تفعيل أثر بلاغة الصورة المرئية على حساب بلاغة الكلمة المقروءة والمسموعة. و" غالباً ما تَستخدم الإعلاناتُ الكلمةَ بطريقةٍ خاصة بتأليف أسماء للمنتجات واستخدام نوع متفرد من اللغة" ( ).
والصورة المرئية ذات أثر مباشر على الإحساس والخيال والأذواق، وتعمل غالباً على إفساد دور الكلمة، وتوثق دور الصورة البصرية المتحركة فقط، دون القيم الذوقية والأخلاقية الراقية، و قد تعمل على إقصائها. وهذا يعود بنا إلى ما سلف ذكره من تحول مشاهد الدمار والخراب والدماء إلى مشاهد مؤثرة من حيث كونها صورة وليس من حيث كونها تُعَبِّر عن كارثة حلَّتْ بمن وقعت عليهم، بل قد لا نتأثر إن سمعنا الخبر دون رؤية صورةٍ عنه. ويمكن للمتابع المتأمل أن يدرك كيف تُوَظَّف الصورة لمصالح مؤسسة أو جماعة أو دولة بصرف النظر عن أثر ذلك التوظيف في المجتمع المتلقي.
فبلاغة البلاغة، وبلاغة العبارة الدعائية تفترقان في جملة أمور، ومنها ما مضى، وأيضاً: أنَّ الأخيرة تؤدي رسالتها فوراً لأنَّها صُمِّمت لكي تُرى وتؤثر بنظرة واحدة. ولذا فهي لا تبقى وينتهي أثرها عند حصوله وإن استجبنا لها وحققنا غرض تلك العبارة أو الرائعة البلاغية الأدبية فالمقصود أن يختبرها المرء، أن تنفذ إلى قلبه، أن يتأملها( ).
وفي الإعلان وظيفة بلاغية فمفهوم الإعلان هو" الرسالة البيعية الأكثر إقناعاً، والموجهة إلى العميل الأكثر احتمالاً، سواءً لِمُنْتَجٍ أو لخدمة، وبالتكلفة الأقل، فالإقناع وظيفة بلاغية، وأيضاً الاختصار في التكاليف من خلال الوصول إلى أكبر عدد ممكن في وقت واحد( ). وبلاغة الإعلام ووسائله الحديثة تأتي من كونها وسائل إقناع في مجتمع يتجه يوماً بعد يوم نحو علوم الدعاية، فسيادة وسائل الإعلام في ثقافتنا تجعل من الفنون الإعلامية ممارسة إبداعية للإقناع( ).
ولا شكَّ أنَّ فنَّ الإعلانات، أو صناعة الإعلانات له الأثر البالغ في نفوس المشاهدين والمستمعين. ويدخل أيضاً فن الدعاية الانتخابية بما يحمله من عبارات قصيرة كثيفة الدلالة موجَّهة لغرض التأثير الشديد على المتلقي بل وإيهامه وخداعه.
|
|
|