الدستور وكارثة تعريب العلوم

طلعت رضوان

 دأب الإسلاميون والعروبيون منذ عدة سنوات على المطالبة بتعريب العلوم، وبعد أنْ سطا الإسلاميون على الثورة بالتواطؤمع الأمريكان والعسكرجاءتهم الفرصة فنصوا فى دستورهم على ((تعريب التعليم والعلوم والمعارف)) (م12) ولم يكتفوا بذلك وإنما نصوا أيضًا على ((اللغة العربية مادة أساسية فى مراحل التعليم المختلفة بكل المؤسسات التعليمية)) (م60) وبالتالى يكون على مراكزالبحوث (فى الطب والصيدلة والزراعة والجيولوجيا إلخ) فالالتزام بهذيْن النصيْن ، تكون أمتنا المصرية قد تلقتْ الضربة القاتلة فى مجال البحث العلمى ناهيك عن العلوم الإنسانية التى استهدفها النص عندما ذكرمصطلح (المعارف) وتداعيات الكارثة تتمثل فى :
أولا: لايستطيع أى إنسان التعامل مع العلوم الطبيعية والكمبيوترإلاّ إذا أجاد اللغة الإنجليزية (على الأقل) بصفتها اللغة العالمية الأولى، سواء فى البحوث العلمية أوفى التواصل العالمى من خلال شبكة الانترنت. وذكرالعالم جون جريبين أنّ العلم بمعنى science ((كما أدرك جاليليو مكتوب بلغة الرياضيات. بيد أنّ تلك اللغة لم تكن تطوّرتْ واكتملت فى عصرجاليلو، وكانت ثمة حاجة إلى ابتكاراللغة الرمزية التى نستعين بها تلقائيًا اليوم باسم الرياضيات- لغة المعادلات مثل E=mc2 وطريقة وصف المنحيات الهندسية عن طريق المعادلات، قبل أنْ يفيد الفيزيائيون إفادة كاملة من الرياضيات فى وصف العالم الذى نعيش فيه)) (تاريخ العلم- ترجمة شوقى جلال- عالم المعرفة الكويتى ج1ص147) وذكركثيرون من العلماء المصريين أنّ العديد من المصطلحات العلمية (فى الطب والهندسة إلخ) يستحيل (وليس يصعب فقط) ترجمتها إلى اللغة العربية. وذكر د. يوسف حِتى وأ. أحمد شفيق الخطيب فى مقدمة (قاموس حِتى الطبى) أنهما تساهلا ((فى تعريب الكثيرمن الألفاظ المُشتقة من اللاتينية واليونانية)) وتبدوصعوبة التعريب فى المثال التالى abdominoposterior فهذه الكلمة الواحدة تكون فى العربية سبع كلمات : بطنى – ظهرى-بطن الجنين – بإتجاه ظهرالأم. وعلينا أنْ نتذكرتجربة تعريب الطب البائسة فى سوريا وفشلها الذريع عكس تقدم الطب فى كوبا مثلا ، وبسبب هذا (التعريب) انتشرتْ نكتة أنّ الرئيس السورى طلب تعريب كل شىء أجنبى فقيل له لقد عربنا كل شىء عدا كلمة واحدة فقال ماهى؟ قالوا هل تعطينا الأمان قال نعم قالوا خشينا من ترجمة كلمة (بامبرز) أما فى مجال العلوم الإنسانية فإنّ أ. حسن عثمان ذكرفى مقدمة ترجمته للكوميديا الإلهية لدانتى ((يَظلم دانتى من يحاول ترجمة الكوميديا إلى لغة أخرى بأسلوب فصيح موّحد. وأفضل ترجمات الكوميديا هى الترجمات التى يحاول مترجموها التجاوب والتموّج مع دانتى والانتقال معه من الشعرالفخم الجزل إلى الكلام البسيط العامى الذى يجرى على ألسنة الناس فى الشارع والبيت)) (دارالمعرف المصرية- عام 88ص69) وذكردُنى غالى فى ترجمته لقصص أندرسن ((تكمن الصعوبة الخاصة فى ترجمة أعمال أندرسن إلى العربية ، فلوتـُرجمتْ وفق ضوابط اللغة الفصحى الكلاسيكية ستفقد الإحساس بالحس العفوى الفنى غيرالرسمى الخالى من التعقيد فى تراكيبه اللغوية الذى تعكسه اللغة)) (دارالمدى- عام 2005ج 1ص9)
ثانيًا: لايختلف أى عقل حرمع حقيقة أنّ (من أنجب هوالوحيد الذى له حق إختياراسم مولوده) ومع ذلك ابتلينا فى السنوات الماضية بمن يسطون على (مُنتج) غيرهم فيكون (التلفاز) بديلا عن التليفزيون، رغم أنّ الأوربيين أصبحوا يكتفون بحرفيْن فقط TV وأنّ كلمات تلغراف ، تليفون ، العدسة المقربة telephoto Lens ، تلسكوب، تليستار(القمرالتليفزيونى) إلخ تبدأ ب tel وذكرأ. محمود تيمور(عضومجمع اللغة العربية) أنّ البعض اقترح كلمة الخيالة بديلا عن السينما و(الإرزيز) بديلا عن التليفون فكتب ((خيرلنا ألاّنُضيّع الجهد والوقت والتجربة فيما لاغناء فيه ولا جدوى منه. ولنربأ بأنفسنا عما يجرعلينا التهكم والسخرية.. لسنا ندين للغة بتقديس سماوى نستوحى منه الرهبة من الكفر، وإنما اللغة من خلق أنفسنا ومن صنع ألسنتا وهى جانب من حياتنا ويتطورمعنا ويسايرنا فيما نعالج من ضرورات وملابسات.. ألفاظ اللغة تنبع من حاجات العصر، ومن واقع الشئون الاجتماعية فى حياة الناس)) (مشكلات اللغة العربية- المطبعة النموذجية- عام 56ص14 ، 31) وتتجسّد مشكلة الغزوالعروبى على العقل المصرى عندما أجلس بين أقاربى (أميين ومتعلمين) ونشاهد فيلمًا أجنيًا ويطلبون منى ترجمة اللغة العربية المكتوبة على الشاشة، مثل معنى كلمة (مرآب) ومعنى كلمة (مكابح) أوعندما تقول الممثلة بالإنجليزية ((سأذهب لتعديل المكياج)) فتـُترجم ((سأذهب للتبرج)) أوعندما يقول الممثل ((سوف أتمشى)) walk فأتى الترجمة غيرالأمينة ((سأتسكع)) أويُترجم (آيس كريم) إلى بوظه و(بيره) إلى جعة. فهل إخترع العرب الآيس كريم والبيرة فيحق لهم اختيارالاسم؟ وتطغى كلمة (حافلة) على كل المركبات فى الترجمات العربية بغض النظرعن الفرق بين الأتوبيس واللورى إلخ.
ثالثا: إنّ طه حسين أحد المدافعين عن اللغة العربية كتب ((اللغة العربية عسيرة، لأنّ نحوها مازال عسيرًا ولأنّ كتابتها مازالت عسيرة)) وأدلى بشهادة حق فذكر ((إنّ كثيرًا من الناس ليقولون أنّ اللغة العربية التى يتعلمها الصبى فى المدرسة لغة أجنبية)) وأنّ اللغة العربية إنْ لم تنل علومها بالإصلاح صائرة- سواء أردنا أولم نرد – إلى أنْ تـُصبح لغة دينية)) وأما عن النحوفيتمنى لوأعفى المتعلمين منه. وكان هدفه هوتطويراللغة لذا وصل غضبه ضد الجمود إلى أنْ ذكر((إما أنْ نـُيسّرعلوم اللغة العربية لتحيا، وإما أنْ نحتفظ بها كما هى لتموت)) وأكثرمن ذلك ذكرأنّ اللغة العربية ((إنْ لم تكن أجنبية فهى قريبة من الأجنبية، لايتكلمها الناس فى البيوت ولايتكلمونها فى الأزهرنفسه)) (مستقبل الثقافة فى مصر- دارالكتاب اللبنانى- بيروت- المجلد التاسع- عام73- أكثرمن صفحة) وعن جمود اللغة العربية ذكرأ. بيومى قنديل أنه بالحروف النبطية كتب مصحف عثمان ((ومنذ ذلك الحين أخذ الإصلاح يدخل على هذه الحروف بدءًا مما استنبطه اللغوى أبوالأسود الدؤلى عن الحروف السريانية من علامات الإعراب إذْ وضع نقطة فوق الحرف للدلالة على الفتحة ونقطة تحته للدلالة على الكسرة وأمامه للضمة إلخ وكانت تلك النقط تتم بحبريُخالف فى اللون حبرالكتابة. ولم يتأخرالإصلاح الثانى أكثرمن عشرين عامًا إذْ وضع يحيى بن يعمر، ونصرالدين بن عاصم ما يُسمى بالإعجام أى نقط الحروف المشتركة فى الرسم بنفس لون الحبرالذى يكتب به الكاتب باعتبارها جزءًا من الحرف ذاته. وكان ذلك على عهد عبدالملك بن مروان تحت ولاية الحجاج بن يوسف الثقفى على العراق. ثم كان الإصلاح الثالث الذى تم على يد اللغوى الكبيرالخليل أحمد الفراهيدى الذى وضع طريقة أخرى لعلامات الإعراب وذلك بأنْ استبدل النقط الملونة بعلامات صغيرة تكتب بنفس الحبر. وكان مجموع ماوضعه ثمانى علامات على شكل حروف صغيرة ثم تطورتْ حتى صارت إلى الصورة التى نعرفها اليوم. وهكذا حظيت الحروف العربية النبطية الأصل بثلاثة إصلاحات كبرى فى غضون فترة لاتتجاوزقرنًا من الزمان قبل أنْ تصل إلى مرحلتها الأخيرة التى بقيتْ عليها حتى يومنا هذا أى قرابة اثنى عشرقرنًا)) ونقل معلومة مهمة عن د. عبدالوهاب مسعود وهى أنّ اللغة العربية يصل عدد نحوها وصرفها وإملائها إلى مايزيد على 12ألف قاعدة رياضية، مقابل ألف واحد للغة الإنجليزية. ونشرنص وثيقة صادرة عن توصيات مجمع اللغة العربية ممهورة بإمضاء د. شوقى ضيف. ومع أنها تـُدافع عن اللغة العربية بها أخطاء فى رسم الأسماء الأجنبية والأسلوب والنحو. ونقل عن د. أحمد درويش (حكى لى مرة تلميذ صغيرأنّ مدرس اللغة العربية وهويشرح لهم بيت عمربن كلثوم فى معلقته وهويُخاطب عمربن هند((تُهدّدنا وتوعدنا رويدًا.. متى كنا لأمك مقتوينا)) وقد حاول أنْ يبسط لهم معنى الشطرالأخير(بالعامية) قائلا إنّ معناه (ماكناش خدامين عند أمك) (أهرام 25طوبة- يناير98) وهكذا فإنّ التلاميذ لم يفهموا المعنى العربى إلاّبعد ترجمته إلى اللغة المصرية الحديثة وفق التحليل العلمى الذى أفاض فيه المرحوم بيومى قنديل (أنظر كتابه- حاضرالثقافة فى مصر- ط 4- على نفقته الخاصة- أكثرمن صفحة)
كما أنّ المترجمين المصريين المُتأثرين بالعروبة يلجأون إلى الحفريات مثلما فعل عبدالرحمن بدوى فى ترجمته لرائعة سرفانتس (دون كيشوت) فيضطرالعقل الحرإلى ترك تلك الترجمة والبحث عن ترجمة أخرى طالما أنه لايُجيد الإسبانية. وعندما مددتُ يدى إلى مكتبتى (قسم الرواية) بشكل عشوائى، وجدتُ مترجمًا يكتب ((نذهب بالجنفاص لننظف الحمام)) فما معنى (جنفاص؟) وهل على القارىء أنْ يترك المتعة الفنية للبحث فى قواميس اللغة العربية عن هذه الحفرية؟ ورغم مغالاته فى (التعريب) وقع فى الخطأ عندما كتب ((شحيحى البصر)) والأصوب ((ضعيفى البصر)) لأنّ (الشُح) معناه فى قواميس اللغة العربية البخل وهى صفة للإنسان (أين تذهب يابابا- جون لوى فورنييه- ترجمة أيمن عبدالهادى- هيئة الكتاب المصرية- سلسلة الجوائز- رقم 69- ص 49، 124) ويكتب صالح علمانى ((استبدلتُ أبوىّ بحمىّ)) ومن السياق نفهم العكس وهذا خطأ لغوى لأنّ الباء تـُلحق بالمتروك ولكنه (رغم أنه غيرمصرى) انحازللشائع فى الكتابة المصرية (أنظرترجمته لرواية جوزيه ساراماجو"الكهف" هيئة الكتاب المصرية- سلسلة الجوائز- عدد 49ص 280) وأغلب الكتب فى مكتبتى (مؤلفة ومترجمة) تمتلىء بالأخطاء اللغوية فى الأسلوب والصرف والنحو. ورئيس مجمع اللغة العربية لم ينجح فى تفادى الأخطاء فى اللغة العربية، ولنا أنْ نتصورالموقف البائس لطلاب الكليات العلمية، عندما تنصرف عقولهم للبحث عن المرفوع والمنصوب والمجرور. فهل اللغة العربية التى لم ينتج أهلها العلم تصلح لعصرالعلوم؟ وهل التعريب هوقاطرة التقدم أم أنه دعوة للإرتداد للخلف ولتجذيرالتخلف؟

الحوار المتمدن