اللغة العربية وتشكيل الوعي القومي
لعل أهم ما يميز لغتنا العربية بين اللغات العالمية الحية، أنها قديمة حديثة في آن واحد. عاصرت اليونانية واللاتينية والفارسية والسنسكريتية، واستطاعت أن تستمر بفضل ما تتسم به من مرونة وخصائص متنوعة كالترادف والاشتقاق والقياس ... لعل أهم ما يميز لغتنا العربية بين اللغات العالمية الحية، أنها قديمة حديثة في آن واحد. عاصرت اليونانية واللاتينية والفارسية والسنسكريتية، واستطاعت أن تستمر بفضل ما تتسم به من مرونة وخصائص متنوعة كالترادف والاشتقاق والقياس ... إضافة إلى أنها أفادت من لغات الحضارات التي قامت قبل الإسلام، وهضمت الكثير من معطياتها. وهو ما اكسب اللغة العربية ميزات الديمومة والقوة والقدرة على الانتشار، لأنها لغة الدين الإسلامي ولغة القرآن الكريم، ولغة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فكانت المنزلة الدينية ذات الأبعاد الإنسانية والعالمية من أسباب ترسيخ أركانها وتقدير مكانتها، فأضحت لغة عالمية، استوعبت تجارب أمم وشعوب، من خلال تعدد مصادرها الثقافية والفكرية...
وللحصول على نتائج غير تقليدية، يجب إتباع عقلية غير تقليدية، ومن هنا لابد من طرح قضية تطوير اللغة العربية كمشروع، ولحماية هذه اللغة وتطويرها لا يكفي الرجوع فقط إلى العبارات الجزلة أو المعجمية و إعادة تداولها في الحياة العامة ، بل إن التطوير اللغوي يتأتى من خلال إحياء اللغة ككيان في حد ذاته وإعطائه المزيد من الحيوية والروح، ليصبح مواكباً للمعطيات الحياتية الحديثة، والمعروف أن الدراسات اللغوية قبل تشومسكي ونظرائه من المحدثين كانت مزيجا من الفلسفة، والأدب، والتاريخ، والمنطق...
وقلما تم النُظر إلى اللغة من حيث هي لغة، أما علم اللغة الحديث، أواللسانيات، فقد اختلف عن علم اللغة التقليدي، ومن مظاهر ذلك الاختلاف والتباين، الاهتمام باللغة المنطوقة، والكلام المحكيّ، أكثر من الاهتمام بالمكتوب منه، لأنَّ الكتابة مشتقة من الكلام، ولا تخلو من تنقيح، وتصنّع، ينتج عنهما التشويه في أكثر الأحيان، فالكتابة تقدم للباحث والدارس، عينة ليست صحيحة، والنتائج التي تبنى عليها ليست دقيقة بالضرورة... فاللغة هي الكيان الحقيقي الذي يحفظ ذاكرة الشعوب، وعليه الحفاظ على اللغة العربية لا يقع على اللغويين فقط بل على الكتاب والفلاسفة ، والفنانين ، وكل من يهتم بإبراز قيم الأمة وحضارتها .
وتؤثر الضغوط العالمية للاندماج والاستيعاب تأثيرا حاسما على اللغات التي يوجد منها في العالم الآن من خمسة آلاف إلى عشرين ألف لغة، وتعبّر كل منها عن نظرة فريدة للعالم ونمطا من أنماط التفكير والثقافة، لكن العديد من هذه اللغات تتعرض لخطر الانقراض في المستقبل المنظور، ويقل عدد الأطفال الذين يتكلمون بها، كما تترك (مكانها) لاتخاذ (إحدى) اللغات العالمية بديلا عنها، وهى اللغات التي يتسم متكلموها بالشراسة الثقافية، فضلا عن أنهم أقوياء اقتصاديا. والعديد من اللغات المهددة قد ماتت بالفعل، ويعنى اختفاء أية لغة إفقارا لمخزون الإنسانية من المعرفة وأدوات الاتصال داخل الثقافات وبينها.
وتلقى اللغة العربية بتاريخها تحديا كبيرا أمام العلم الإنساني، وهذا التحدي يبتهج به العلماء الذين أخلصوا للعلم ، ولكنه يغيظ سدنة التوظيف الأممي ويستفز سماسرة الثقافة الكونية، لا سيما منذ بدأت المعرفة اللغوية المتقدمة على المستوى العالمي، وفي الجامعات الأمريكية خصيصا تكتشف ما في التراث العربي من مخزون هائل يتصل بآليات الوصف اللغوي... وفرضية كاميلو سيلو (تتمثل) في تصنيف اللغات المنتشرة في العالم اليوم، والتي لها سيادة في حقول العلاقات الدولية إلى لغات تكتسب الأمومة، ولغات تكتسب لاحقا...، قد تصنّفت اللغة العربية ضمن الألسنة التي يرتبط بها الطفل ارتباطا أموميا.
واللغة العربية لغة عالمية - سواء أجاء بها الخطاب كحقيقة حاصلة أم كحقيقة افتراضية- لدس الحلم المزعج الذي يقض مضاجع المخططين الاستراتيجيين للثقافة الكونية. فاللغة العربية كما الهوية العربية كيان مهدد بالتهميش والتغييب تحت مسميات شتى، كعولمة الهوية ، المجتمع العالمي ، الشرق الأوسط الكبير ، وهنا لابد أن نعي أن محافظتنا على الوجود العربي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمحافظة على لغتنا لأنها، وبها ومنها بدأ تاريخنا وبها يستمر .
وفي نهاية الفترة العثمانية ظهرت كتابات عديدة ممن تناولوا موضوع دور اللغة في تعريف الأمة. فعبد الله العلا يلي رفض التعريفات الغربية للأمة، الأمر الذي شاطره فيه مؤسسو حزب البعث العربي الاشتراكي، والذين تأثروا بالقوميين ممن اهتموا أيضاً بوظيفة اللغة الاتصالية وبصفتها مميزا ومحددا للحدود. فمن جهة الأمة، تجتمع نتيجة لتبادل الأفكار والمشاعر، وهذه الأفكار والمشاعر تميز الأمة عن غيرها، ومن هنا جاءت أفكار جواز ترجمة القرآن حرصاً على خصوصيته العربية.
ويعتبر المفكر القومي ساطع الحصري (1880-1968) – أحد أهم ممثلي الأيديولوجية القومية العربية- الذي كان يرى في التعليم تحديثا للأمة، وقد أصر على أن تكون اللغة العربية، لغة التعليم الوحيدة في مرحلة ما بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، وعلى تعريب المصطلحات العلمية. ويركز الحصري في تعريفه للأمة على العامل الثقافي أكثر من السياسي، فهو لا يرى الدولة شرطا ضروريا أو كافيا لتكوين الأمة. ويهتم الحصري بالعامل الداخلي للروابط العربية دون كبير انشغال بالأمم الأخرى. ويرفض الحصري العامية بديلا للفصحى، لذا يرفض الربط بين الدول القائمة واللهجات العامية واعتبارها أساساً للتقسيم، كما رفض أفكار استبدال الأبجدية الرومانية بالعربية. لأن التنكر للغة العربية معناه ضياع الشخصية العربية وإبعادها عن مسارها التاريخي، لتبدو الأمة بلا هوية.
جزب البعث العربي الإشتراكي
|
|
|