الكفاءة الأدبية
د. أمين عبد الله اليزيدي
في مقالة سابقة استعرضت في إيجاز ضمن موضوع الملَكَة البلاغية وسبل امتلاكها، وكان من سبلها وأسسها تحقق الكفاءة الأدبية، واستكمالا للموضوع تأتي هذه المقالة الموجزة. والتي سأجعلها أقرب إلى أساليب التدريس والتدريب في التعامل مع النصوص الفنية والأدبية.
وأنا هنا لا أكتفي بوصفه معلماً، بل هو معلم مدرِّب، وينبغي عليه أن يراعي أنَّه يهدف من عمله في تعامله مع النصوص الفنية الجوانب الآتية:
1- تحرير القوى الخلاقة للطلبة لإظهار مواهبهم من خلال: تشجيعهم على الصياغة، وتكليفهم بالتعبير الحرِّ المتضمن الصورَ البلاغية، والإشادة بها، أيضاً وبالتدرِّج يكون على الطلبة تخليص أنفسهم من ترسُّبات الأعمال التقليدية وامتلاك شجاعة كافية لإظهار وإبداع أعمالهم الخاصة.
2- العمل على تسهيل اختيار الطلبة لأساليبهم الخاصة من خلال التمارين، والتدريب على الاختيار من الدواوين الشعرية، وتحليل النصوص الأدبية والشواهد البلاغية. وصياغة العبارات عن موضوعٍ ما في تعبيرٍ حُرّ، عن شيءٍ محدد، مثلاً، عن شجرة مقابلة للقاعة، أو عطر فاح بمرور طالب أو طالبة، كواجب منزلي أو داخل القاعة. ثم نناقش أقوالهم دون تحقير. جمع أقوال الشعراء عن موضوع مثل الشيب، أو عيون النساء، أو حركة الفرس، أو صورة القمر، على سبيل المثال ويدرسونها فرادى أو في مجموعات.
3- تقديم المبادئ أثناء، وقبل، وبعد، التدريب. مبادئ التكوين الخلَّاق والفروق الصياغية بين قول الطالب في عبارته: كذا وكذا، وبين كذا، لو استبدل كلمة بأخرى، أو قدَّم وأخَّر، أو أدخل تعديلاً بحرفٍ من حروف المعاني. وعلى سبيل المثال يُطْلَب تقديم عرض لعميد الكلية أو رئيس القسم لغرض القيام برحلة علمية إلى المتحف وبيان احتياجات الرحلة، ثم إعادة الصياغة بما يحقق الرضا، والإيجاز، والجودة.
4- استثارة الاستجابة الفردية للطلاب تجاه الأقوال الأدبية والصور الفنية، بحيث تتحول العلاقة بين الطالب والنص من علاقة تلقي سلبي إلى علاقة تلقي إيجابي تفاعلي.
5- تطوير مهارة التخيل، إذ إنَّ مهارة تذوق البدائل داخل العبارة الواحدة، أو الموضوع الواحد أمرٌ غاية في الأهمية من أجل الوصول إلى درجة من الاستيعاب البلاغي تُمَكِّنه من العمل بمفرده لاحقاً وبعد التخرج. والتخيل والتذوق يفيدان في تقديم عددٍ غير محدود من الإمكانات الجديدة.
ويمكن تحقيق ذلك عبر عدد من الإجراءات، التي قد تكون تراتبية، أو غير ذلك، حسب تقدير المعلم وظروف تدريس المادة:
1- عرض النص، ثم طلب التخيل، وسؤالهم عن شعورهم تجاه النص والتحليل، وربط النص والتخيل بمؤثرات حسية قريبة مثل الأمثال المحلية وضرب المَثَل عبر أحد الطلاب بعد الاستئذان منه، وبعد أن يكون المعلم قد بنى جسراً من المودة والمعرفة بأحوال طلابه ومعرفة عاداتهم حتى لا ينزلق في تمثيله إلى ما يكون غير مرغوب عند المجتمع وهو لا يعلم.
2- تكليفهم/ الطلب منهم اختيار أفضل خمس أو عشر صور بلاغية من الشواهد التي يدرسونها، أو من ديوان يتم الاتفاق عليه، ثم تناقش الاختيارات، أو نماذج منها. ومنها نتعرف إلى محددات الاستجابة لكل طالب وهل هي استجابة حقيقية أم للهروب من التكليف، وهذا التعرف يفيد جداً في عملية تقييم تطور الطلاب ومدى تقدم مهاراتهم الفنية والذوقية، فضلاً عن أنه قد يكون وسيلة مساعدة لإجراء دراسات مسحية وتطبيقية، كما يفيد التعرف إلى محددات الاستجابة إن كانت ميَّالة نحو الفكر، أو القيم الأخلاقية، أو الفنية، أو غير ذلك.
3- عبر اختيارات جماعية في ورش عمل يتبعها اختيار التحليل خاصة كل مجموعة ثم قراءته ومناقشته.
4- اختيارات نصوص يتم الاتفاق عليها أو يختارها أحد الطلاب أو مجموعة منهم أو يختارها المعلم، وتحلل فردياً أو جماعياً ثم تُنَاقَش التحليلات. وقد جربتُ بعض هذه الأساليب في تدريس الأدب وتحليل النصوص الشعرية والسردية، واكتشفت قدرات لدى بعض الطلاب والطالبات في التحليل وصياغة العبارات، والتي تنم عن الاستقلالية إذ عبَّر هؤلاء بأساليبهم دون الاتكاء على المكتوب في المادة. كما أنَّ هذه الطرق أفادت انسجاماً رائعاً مع النصوص، بل لقد مرَّ الوقتُ دون أن يشعروا به، وكان تهامس الطلاب في مجموعاتهم يدل على اهتمام بالغ ورعاية ورغبة. ثم كَتَبَتْ كلُّ مجموعة ما اتُفِقَ عليه، وتبرَّع طالبٌ من كل مجموعة بتلاوة ما كتبوه، وأعقب ذلك نقاشاً.
5- الامتحان المفتوح، من خلال العودة إلى النصوص في المكتبة دون رقابة، وعلى الطالب أن يُعِدَّ مقاربة أو مقالة عن موضوع أو نص/ نصوص تم الاتفاق عليها مسبقاً، وَحُدِّدَتْ ملامح الخطوط العريضة للاختيار والتحليل في تمهيد يقدمه الأستاذ، ثم يذهب الطلاب بمعية الأستاذ إلى المكتبة، ويكون حضور الأستاذ للاستشارة فقط. وبعدها في يوم تال، يُحَدَّد، يعود الطلاب للمكتبة أو لأي مكان يختاره الطالب ليكتب ما استفاده في المكتبة في اليوم السابق، والفرق بين اليوم الأول والثاني، أنَّ الأول كان لتكوين تصوّر عن الموضوع ومظان موارده وتوافره في المصادر، واليوم الثاني يكون لتحرير النص الخاص بالطالب. وقد أفاد هذا الأسلوب جداً وجَرَّبْتُه في درس البلاغة، و في دراسة الأدب والنصوص ومقارنتها.
6- تدريب الطلاب على كيفية استخدام وسائل التعبير المختلفة أثناء التحليل والاختيار والقراءة أو المقاربة، وعرض نماذج لعلماء سابقين، أو عرض تحليل لنصوص أدبية من البحوث والرسائل العلمية والمجلات الأدبية، أو ابتداع نماذج من أجل تدريبهم على:
أ- التفريق بين مدلول العبارات مثل: ينطلق،و منطلق وغيرهما مما ذكره الجرجاني، في تحليله لقول الشاعر:
لا يألف الدرهم المضروب صرتنا لكن يمر عليها وهو منطلق
أو: الفرق بين العبارات: أعجبني ضحكك، أعجبني أن تضحك، أعجبني أنك تضحك، أعجبني أنك ضحكت. وبين مدلول العبارة ولم يتغير من تكوينها شيء غير أنَّا قدَّمْنا وأخَّرْنا في مثل قولك: محمد هو القائم/ القائم هو محمد. فالخصائص اللازمة للجملة وفق النحو لأي لغة تبقى كما هي، والمعاني المختلفة التي يملكها النص لا يمكن أن تُعزى فقط إلى معرفة الفرد باللغة، ولكن يجب أن تعزى إلى أعراف خاصة في قراءة الشعر. وهي الأعراف التي تقود المرء ليتعامل مع اللغة بطرق جديدة من أجل استحداث خصائص ذات صلة باللغة لم تكن مُسْتَغَلَّة سابقاً ومن أجل إخضاع النص لسلسلة من عمليات التغيير( ).
ب- التفريق بين هيئات المعاني: فقول الشاعر:
إن تلقني لا ترى غيري بناظرة تنس السلاح وتعرف جبهة الأسد.
و البيت لأرطأة بن سهية، وتأمل قوله: ( تنس السلاح) ولم يقل: ( تلق السلاح) لأن النسيان فعل لا إرادي. وهو لفظ في غاية الإفادة لشدة الفزع، و(الإلقاء) فيه دلالة الاختيار للمُلقَى مِنْ المُلْقي، أما (النسيان) فهو فعل قهري يغالبه المرء ثم يُغلَب، فكان النسيان أولى وأروع.
ولهذه التدريبات فوائد جمة للمتعلمين نوجزها في الآتي:
1- تقوي خيالهم، وتعزز مهاراتهم، وتظهر مواهبهم، وتصحح أخطاءهم، وتعالج مشكلاتهم الصياغية والنفسية، المتمثلة في: الخوف من الإبداع ورهبة الخطأ، والشعور بأنَّهم لا يستطيعون الإبداع. كما أنَّ هذا الأسلوب ينمي القدرة الذوقية، ويعزز سلوك الإحساس بالجمال الفني، وبالقيمة التعبيرية للجمل والكلمات، ويرشد إلى الإيحاءات المختلفة.
2- تدربهم على انفتاح آفاق تأويل النصوص، فاختلاف التحليلات والرؤى مع عدم تحقير أيٍ منها يفتح هذه الآفاق، وهذا بقدر ما ينمي الموهبة فإنه يخفف من التعصب، ومن التوتر الناشئ عن الخوف من دقة ومناسبة التحليل.
3- تفيد أنَّ الذوق الذاتي لا يكفي وحده لتقييم النصوص، وبقدر ما هو مهم إلا أنَّه لا يكون دائماً كافياً لإعطاء تقييم مناسب. وهذا مما يفيدونه المناقشة والتحليل أو العمل وفق مجموعات.
4- إثراء ثقافتهم عبر المكتبة والبحث عن النصوص ومصادرها، وهذا يدفعهم في نشاط محموم في العمل المطلوب، إن كان اختيار نصوص أو تحليلها أو اقتباسها، حيث يفتشون في رفوف الكتب ويسألون أساتذتهم عن مظان وجود بعض المعلومات أو كيفية استخراجها، أي إنَّهم يعيدون اكتشاف أنفسهم ويكتشفون المكتبة أيضاً، وهذا الاكتشاف يشعرهم بالمتعة لحصولهم على أجر مقابل أتعابهم، فقد حصلوا على المعرفة، وتعزيز الثقة مع مكافأة الاستمتاع.
5- التدريبات والعمل الجماعي يعملان على استثارة الرغبة لدى الطلبة في العمل الخلَّاق، وهو ما يؤدي إلى تنمية أذواقهم واتساع معارفهم.
6- العودة إلى النصوص وانتخابها وتحليلها، احتكاكٌ بالنموذج الراقي وهو هنا الشعر، وذلك يفيد في تنمية الفكر، كما يفيد في انبثاق وسائل وصيغ تعبيرية وتصويرية لم تكن مُكْتَشَفَة لدى الطالب. إضافة إلى إثراء الإحساس بالجمال، فتتبع الآثار البلاغية و" المران والدراسة المتصلة وتمثل النصوص والتشبع بها فذلك يهيئنا لإدراك جودة النص، وتعرّف مواطن الجمال فيه، وبالاستتباع [ أي استتباع النصوص ] يثرى إحساسنا بالجمال ويثقف تجربتنا، فللأدب في نهاية التحليل غاية تربوية وتعليمية"( ). ويساعدنا على تعرف سياقات القول الأدبي وكيف يُقرأ ويُفَهَم مما يُكَوّن وينمي الكفاءة الأدبية. أمَّا النص القرآني فهو ينمي الكفاءة والذوق، غير أنَّه لا ينمي تجربة المحاولة لاستحالتها.
و من فوائد التحليل وتدريب الطلاب على التحليل مع التخيل:
1-فرصة جيدة لدراسة الإدراك، فمن خلال التحليل يمكن أن نتتبع حركة الفنان الشاعر في إبداعه للتشبيه المركب على سبيل المثال. وكأنَّنا نعيش لحظة الإدراك والتعبير ونشارك المبدع العمل.
2- 3- وهذا بقدر ما يجعلهم يحظون بالمتعة والتخيل، فإنَّهم يتأثرون بالعمل، وبهذا التحليل نسمح للعمل الفني بالتأثير في المتلقي/ الطالب.
وعلى العموم فالتدريبات لها أثر تربوي وتثقيفي وتعليمي ومهاري، حيث إنَّها تعمل على تنمية الشعور بالثقة بالنفس وتُحَفِّز القوى العقلية والحسية والروحية للتعامل مع النصوص، تلقياً أو إبداعاً، وبهذا نبني شخصية الطالب المستقلة - قدر الإمكان- التي تبتعد عن التقليد بقدر ما تفيد منه في الآن ذاته.
وإذا وصلنا إلى هذا أو بعضه فإنَّنا سنجعل البلاغة مادة محببة، بصفتها فناً وذوقاً، قبل أن تكون كابوساً امتحانياً.
|
|
|