جنون الشاعر وصولجان الناقد

د. زياد بن علي بن حامد الحارثي

 

قال كثير من الأطباء وعلماء النفس إن أبرز ما يلاحظ من ظواهر الجنون نجدها عند الشاعر والمبدع ، لأن الشاعر يودع شعره كل آماله وآلامه وصرخاته وشجونه ، فيظهر الانسجام مع الحياة والناس ، فإبداع الشاعر ينعكس في شعره فتظهر قريحته  صافية جلية ، لا تعتريها الشوائب والشكوك ، وهذا ما ظهر قديماً عند شعراء الطبع ، إذ هي سجيّة أودعها الله لأولئك النخبة من الشعراء ، فكرسوا جهدهم في نتاج قرائح صافية ، ونحن نعلم أن الشاعر يدخل باب الجنون ويخرج منه بينما الإنسان العادي إذا دخل باب الجنون لا يخرج منه ، فكم من شاعر أطلق خياله وأشجانه في فضاءٍ رحب لا حدود له ، وكم أطلق جنونه ليصبح حراً في سماء الإبداع إذ يسمع التصفيق والتشجيع في كل مكان ، ولكن سرعان ما تغير الحال ليُقتل الإبداع في مهده الأخير فوجد الشاعر ما يكبح جنونه ويكسر حواجزه ، إنه صولجان الناقد الذي ظهرت بسببه الصنعة فراراً من لهيب سياطه وحرارة ناره ، فأوجع من أوجع ، يا لك من صولجان أشبه بمطرقة الصانع النارية ! إذ لا تقع على شيء إلا وتطحنه طحناً ، فكم أوجع المبدعين والشعراء ، وكبح من إبداعاتهم ، فظل يطاردهم في الطرقات وفي الليالي والسهرات ، فجثم على نفوسهم وقيد قرائحهم ، وربط ألسنتهم ، فأصبحت خطواتهم نحو التفوق مجهولة ، لا ولن يقف هذا الصولجان عند حدود الشعر فقط ، بل تعداه إلى ذات الشاعر ، فأحرقه بلهيب ناره ، ثم نزل على تراثه فبعثره دون رحمة ، وظل يتفحص فيه كيفما شاء وأراد ، فأقحم نصوص الشاعر بما لا تحتمل وألبسه ثياباً غير ثيابه ، فاتهمه بالجنون والعبث ، وأصبح المبدع طريداً شريداً يحلق في سمائه وحيداً دون أن يراه أحد ، فيشكو للكون ونجومه عذاب هذا الصولجان وويلاته ، والأعجب من ذلك أن هذا الصولجان وجد من يطبل ويصفق له ويشجعه على هذا اللعب بالتراث الأصيل الذي اتهمه بالعبث ، ثم الانتقال إلى نقد هذا العبث ليناقض نفسه بنفسه ، ومع مرور هذه العاصفة تبقى صفحة الإبداع مشرقة مهما تعرض لها العابثون ، ومهما حاولوا أن يسقطوا عليها كسفاً من أوهامهم ، فعين الشمس لا تحجب بغربال ! .