تربية الاختلاف

د. محمد سعيد حسب النبي


قال تعالى في سورة الروم: "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ، إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ" (22)، جاء في كتاب ابن كثير في تفسير هذه الآية "أن جميع أهل الأرض، بل أهل الدنيا منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة، كل له عينان وحاجبان وأنف وجبين وفم وخدان وليس يشبه واحد منهم الآخر، بل لا بد أن يفارقه بشيء من السمت أوالهيئة أوالكلام ظاهراً كان أوخفياً، ويظهر عند تأمل كل وجه منهم أن له أسلوباً بذاته وهيئة لا تشبه أخرى ولو توافق جماعة في صفة من جمال أوقبح؛ لا بد من فارق بين كل واحد منهم وبين الآخر" إن في ذلك لآيات للعالمين.

إن المتأمل في معنى ما سبق ليجد مما لا يدع مجالاً للشك أن الله تعالى شاء أن يجعلنا مختلفين في الهيئة والسمت، وكأنها فطرة فُطرنا عليها تبدأ من الاختلاف لتنتهي إليه، وكأن التعددية أصل الأشياء وجزءاً من حكمة نظام هذا الكون الذي أعده إله واحد.

يؤيد ذلك ما نتعارف عليه الآن من أن لكل إنسان منا بصمة إصبع لا يشاركه فيها أحد، وبصمة عين لا تختلط مع أحد، وبصمة صوت تميزه عن غيره، والحديث الآن عن بصمة وجه يتفرد بها الإنسان بملامح لا يتشابه فيها اثنان. وكلها اختلافات محسوسة وملموسة للعيان، فما بالنا بالأمور غير المنظورة على نحو مباشر، أعني بها الأمور المجردة التي لا تُرى بالعين؛ كالإدراك، والذكاء، وسرعة البديهة، ومستوى التحصيل، والتفكير، والانفعالات، والميول، والعواطف، والانطواء، والانبساط... إنها قائمة طويلة من السمات الشخصية والنفسية، والتي لا يمكن بحال من الأحوال أن يتشابه فيها اثنان من البشر، ولا أظن القارئ يختلف معي فيما سبق بعد قليل تأمل في الذات والآخرين.

ومع التسليم بتلك البدهيات؛ إلا أننا نجد كثيراً من الآباء والمربين يقرون الاختلاف أحياناً، ويرفضونه أحايين كثيرة، أعني لماذا نقر الاختلاف في الشكل، والفكر، والميول، والعواطف، ونرفضه في الرأي. إن اختلاف التفكير، والميول والعواطف وغيرها من السمات السابقة سيؤدي بلا شك إلى اختلاف الرؤية والمعتقد والرأي، ولنتأمل التجربة الآتية.

تجربة:
نردد كثيراً ما تعارف عليه الناس من أهمية احترام وجهة نظر الآخر ووضعها موضع التقدير، ولكن هل ندرك ما نعنيه بوجهة النظر؟ خض معي هذه التجربة الآن حتى تزداد يقيناً بضرورة مراعاة وجهات النظر المختلفة، أريد لكل واحد منا مع مجموعة من أصدقائه أو أقربائه.. أن يجتمعوا في شكل دائرة مثلاً أو أي شكل يريدون، ثم حاولوا أن تطالعوا جميعاً شيئاً واحداً، وليكن لوحة فنية، أوقطعة أثاث، أو أي شيء يقع في منظور الرؤية لديكم جميعاً، ولنتأمل الآتي: هل تتساوى وجهات النظرر لهذا الشيء؟ بمعنى هل منظوري للوحة الفنية الآن يتساوى مع منظور من يجاورني؟ هل من يجلس مقابلاً لي تتطابق نظرته نظرتي للشيء؟ الإجابة بالطبع لا، ما أعنيه هنا تماماً أنه لا يمكن بحال من الأحوال أن تتطابق وجهتا نظر مع بعضهما البعض إلا في حالة واحدة، أن أقوم من مقامي، وأقف موقف الطرف الآخر، وأنظر من منظوره. وأذكر في هذا السياق إحدى أساطير اليونان عندما اختلف بعض المزارعين مع بعضهم حال رؤيتهم لأحد الآلهة عندما كان يمر عليهم، حيث كان يرتدي هذا الإله قبعة ذات لونين أحمر وأصفر–هكذا تقول الأسطورة- فيظهر هذا الإله لبعض المزارعين بقبعته من جانبها الأصفر؛ فيقسمون أن قبعته صفراء، ويرى البعض الآخر الجانب المقابل للقبعة بلونها الأحمر؛ فيقسمون أنها حمراء، وكلاهما صادق جزئياً وفق منظوره ومجال رؤيته.

اختلاف لا خلاف:
ما أريد أن أؤكد عليه في هذا السياق أننا نريد اختلافاً لا خلافاً، بمعنى أنه من الطبيعي أن نختلف فيما بيننا كما أسلفنا سابقاً، ولكن ما لا نريده هو الخلاف الذي يزيد العداوة والشحناء فيما بيننا، ولا يصل بنا إلى حل، ولاسيما إذا ما تمسك كل طرف منا بوجهة نظره معتبراً نفسه على صواب، وأن المختلف معه رأياً وفكراً وثقافة على باطل وضلال، ويكفي هنا أن نشير لمقولة الإمام الشافعي رحمه الله: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".

تربية الاختلاف
إن التنوع الثقافي والحضاري الذي نعيشه الآن في ظل عولمة ألقت بظلالها على المجتمعات، وفي ظل انتشار وسائل الاتصال غير المحدودة والتي جعلت العالم يتمثل في هاتف جوال، لابد لنا من التأكيد على ثقافة الاختلاف، ولنجعلها أسلوباً تربوياً واستراتيجية منهجية في التعليم، مؤكدين على أن أوجه الاختلاف كثيرة ومجالاته متعددة، ففي الدين ما يعرف "بفقه الاختلاف"، وفي الأدب يبرز مصطلح "أدب الاختلاف" وفي العصر الحديث تواتر هذا المفهوم على نحو ملحوظ في كثير من السياقات.

ويجب على المربين والآباء استيعاب هذا المفهوم وتمثله جيداً، ولابد من التخلي عن المقولات السائدة في ثقافتنا العربية من أننا هكذا ربينا ونشأنا وتميزنا ولابد لنا أن نربي أبناءنا وفق هذه النشأة، إنه الإرث الثقافي والتربوي المفروض على الأبناء، وكأننا نريد لأبنائنا أن يكونوا نسخاً مكرورة منا، ولا أظن أن هذا سيفلح، بل سيصبحون نسخاً مشوهة لا ينتمون لنا ولا للعصر الذي نعيش فيه. والعجيب أن التراث العربي يحدثنا بغير ذلك، فقد ورد عن الإمام علي رضي الله عنه وكرم وجهه أنه قال: "ربوا أبناءكم على غير شاكلتكم لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم" أي لابد من التأكيد على الاختلاف في النشأة وفق مقتضيات العصر، وما أصطلح عليه شخصياً بفقه التربية المعاصرة. علينا أن نقبل اختلاف وجهات نظر أبنائنا، وألا يكون العقاب قرين من يبدي رأياً آخر أويظهر اعتراضاً أوإعراضاً.

دور المؤسسات التعليمية:
ينبغي على المعلمين والمؤسسات التعليمية التأكيد على ثقافة الاختلاف، وأذكر أنني اختلفت مع أستاذ للغة العربية في لقاء جمعني مع بعض المعلمين، وذلك في معنى بيت من أبيات الشعر لامرئ القيس وهو: أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل، حيث أصر بأن معنى البيت أن الفتاة تأمر قلب الشاعر وهو ينفذ دون جدال، فقلت له: ولماذا لا يكون قلب الفتاة؟ فقال في عجب: كيف ذلك؟! فقلت: في الشطر الأول من البيت نجد الشاعر يقول: أن قلبه قد مات، فكيف تأمر الفتاة قلباً قد مات، ثم إن الفتاة لديها قوة في التحكم في قلبها فتأمره أن يحب هذا ويكره ذاك، فرفض المعلم هذا المعنى تماماً، وكانت حجته أنه لم يدرسه بهذا المعنى. وبغض النظر عن صحة رأيي أو رأيه فالمعنى الحقيقي في قلب الشاعر كما هو معلوم لنا، ولكن القضية تكمن في رفض الاختلاف، حتى وإن كان منطقياً، وإني لأتعمد في كل لقاء مع معلمي اللغة العربية أن أطرح هذا التساؤل: هل تتيحون الفرصة لاختلاف وجهات النظر حتى وإن كانت تختلف مع الكتاب المقرر؟ فتكون الإجابة بالإيجاب، أي أنهم يسمحون بالاختلاف، فأقول: فماذا لو كُتب هذا في الامتحان، فيطالعون بعضهم بعضاً حائرين، لأنه من المعلوم أن الإجابة لابد أن تكون وفق ما جاء في الكتاب المقرر، وما دمنا نصر على ذلك فلن يكون هناك تربية للفكر والاختلاف بل ستنتشر ثقافة الامتثال والخضوع والاستسلام، وباستمرار النشأة والنمو تتلاشى القدرة على إبداء الرأي، وهذا ما أجده عندما أسأل طلبتي في الجامعة عن رأيهم فيما قاله الكاتب، ومن يختلف معه، فيترددون ولا يصلون لرأي لأنهم لا يعرفون كيف يمكن لهم أن يختلفوا مع الكاتب، أويعرفون ولكن يحجبون آراءهم خوف العقاب، وإذا ما طُلب رأيهم في الامتحان تكون المهمة الشاقة والسؤال الأكثر صعوبة في الامتحان!! ولعل لديهم بعض العذر في ذلك لأنهم يخشون الاختلاف ولا سيما لو كان مع أستاذ المادة، فقد يُبنى عليه خصم لدرجة، أو رسوب، وهذا ما أكده لي بعض الطلاب وفقاً لتجارب شخصية مرت بهم. وأقول إن العصر الذي نعيشه الآن قد اختلف، وأصبح الاختلاف قيمة أساسية لابد من التأكيد عليها في تربيتنا الحالية، ولكن تبقى القضية الملحة، وهي كيفية الاختلاف، بمعنى كيف نختلف مع الآخر دون إنقاص من قدره أوتقليل من شأنه؟ كيف تتلاقح أفكارنا المختلفة حتى تنتج أفكاراً جديدة تضيف وتثري المعارف، وتحل أصعب المشكلات؟ إنه دور التعليم الذي يضع آليات الاختلاف، ويدير الحوارات والنقاشات، ويذيب النزاعات بين الطلاب، إنه التعليم الذي يؤسس لحرية الفكر والرأي والمغامرة الشجاعة، والذي يمثل درعاً واقياً من استنساخ الأفكار والأفراد وإذابة الذات والسلبية والقهر والاستغلال.

سيبقى الاختلاف لغة معيارية ترفض الجمود والانعزالية والتقوقع والانطوائية، وسيبقى أصلاً للحوار ومدخلاً إلى تقدير الآخر، وسيطرح الصراع الذي ظل حاكماً مقاصد الحياة البشرية على مدار حركة التاريخ، وسيظل ضماناً أساسياً لسيرورة الأشياء منذ دفع الله الناس بعضهم ببعض، وخلقهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا، ومنذ صارت الرحمة في اختلاف علماء الأمة، وإقرار الإسلام فتح باب الاجتهاد فأثاب من أصاب بأجرين، ومن أخطأ بأجر، مؤكداً بذلك تقدير منزلة العقل البشري، واحترام الفروق الفردية والتعددية والاختلاف.