التـَّوليد سبيلنا في معالجة مشكلة المصطلحات العلمية

أ.د. محمد البكّـاء

 

حاجة ُ اللـّغة العربية إلى المصطلحات العلمية مسألة إتفاق بين الباحثين اللغويين العرب على الرغم من تباين الآراء،والإجتهادات في معالجتها، لأنها تــُعد واحدة من أخطر المشكلات التي تواجه لغتنا الكريمة، فإذ يُمثل المصطلح نوعاً من مشاغل العربية، وهمومها في عصر يشهد نهضة علمية، وثقافية، ومجالات أخرى، فإنه يرتبط  من ناحية بإنتشار اللغة العربية داخل الوطن العربي،كما أنه إستيفاء لعوامل نشرها خارج الوطن العربي، ثم هو من ناحية أخرى محاولة للتخلص من الإزدواجية اللغوية في الميدان العلمي،واللغوي، ولما كانت مسألة المصطلح العلمي في العصر الحديث،تعتمد على المعرفة بلغات الحضارة الجديدة، وإتقان اللغة العربية الفصيحة‘ فإننا لم نجد من اختص  بهذا الأمر في أول  النهضة اللغوية الحديثة، ولا من ألمّ بها لأن الإهتمام، والعناية في أغلب أحوالها كانت منصرفة إلى اللغة التركية إثر سيطرة الأتراك العثمانيين على أغلب أجزاء وطننا العربي، والذين استعملوا في مخاطباتهم لغة هي مزيج من اللغة التركية، والعربية، أما ماتـُرجم منها إلى اللغة العربية، فإن قسماً غير قليل أسيئت ترجمته بحكم ضعف الملكة اللغوية عند بعض المترجمين، وبذا أصبحنا نقاسي الأذى مما خلفته ترجمتهم التي أكلت من جرف العربية الكثير، فضلاً عن المشكلات الأخرى التي واجهتها اللغة العربية عبر تاريخها الطويل.
   وهذا ما دفع المجمع العلمي العربي في سورية ( أسس في سنة 1919مـ)، الذي يُعَدُّ أول مجمع علمي يقوم في الأقطار العربية. وقد عقد أول اجتماع له عام 1919م. وكان نشوءه ضرورة استدعتها مسيرة التعريب في الوطن العربي التي صاحبتها حركة التحرر من الاستعمار، والانعتاق من سلطان الأجنبي. فقد أخذ المجمع على عاتقه : "النظر في اللغة العربية، وأوضاعها العصرية، ونشر آدابها، وإحياء مخطوطاتها وتعريب ما ينقصها من كتب العلوم، والصناعات، والفنون عن اللغات الأجنبية، وتأليف ما تحتاجه من الكتب المختلفة المواضيع." وكان من أوائل أعماله عند تأسيسه إصلاح لغة الدواوين، وتعريب كثير من الألفاظ ، وتزويد المصالح الحكومية بما تحتاجه من مصطلحات فنية، وإدارية وتلبية رغبات الأفراد والصحف، والجمعيات غير الرسمية. كما سعى مجمع اللغة العربية في مصر( أسس في سنة 1932مـ)، وقد سبقه في عام 1892م المجمع اللغوي الذي أنشئ في القاهرة، ولكنه عُطِّل بعد سنوات، وبقي يتعثـّر في مسيرته إلى عام 1932م حين أنشئ مجمع اللغة العربية الملكي. وفي عام 1938م أبدل اسمه إلى مجمع فؤاد الأول للغة العربية، ثم أصبح فيما بعد يسمَّى( مجمع اللغة العربية). وكان أول أعماله البارزة إصدار مجلة ظهر جزؤها الأول في أكتوبر عام 1934م، وفيها مجموعة من القرارات العلمية كقرار التضمين، والتعريب، والمولّد والاشتقاق، وأسماء لمسمّيات في مجالات مختلفة، وكلمات في الشؤون العامة كالملابس، والزينة، ومصطلحات علوم الحياة، والطب، وأسماء عربية لمسميات حديثة. وكانت هذه المصطلحات بداية العناية بالمصطلح العلمي وبألفاظ الحضارة، وقد أصدر المجمع كثيرًا من المصطلحات التي أقرّها. وما يزال يعرض كل عام على مؤتمره السنوي هذه المصطلحات في شتى المجالات العلمية والمعرفية. ثم مجلته التي تضم البحوث والقرارات والمصطلحات الجديدة. بعدهما جاء دورالمجمع العلمي العراقي( أسس في سنة 1947مـ)، بعد أن كانت أول محاولة لتأسيس مجمع علمي عام 1921م، ثم شكلت لجنة عام 1925م من أجل تأسيس مجمع علمي عراقي لم يظهر إلى الوجود إلا في أواخر عام 1947م في بغداد. وقد أصدر مجلة علمية ظهر العدد الأول منها في شهر سبتمبر عام 1950. ويضمّ المجمع العراقي لجانًا للمصطلحات العلمية والمعاجم، ولجنة التأليف، والنشر، والترجمة، وتحقيق المخطوطات، وكان لهذه اللجان أثر كبير في نشاط المجمع واستمراره،بعد أن أصدر عددًا من معاجم المصطلحات العلمية. وقد كانت هذه المجامع الثلاثة النواة لتأسيس مجامع لغوية عربية أخرى تولي مشكلة المصطلح جُلَ اهتمامها،ناهيك عن الإهتمامات الأخرى التي تجلت في الحفاظ على سلامة اللغة العربية، ونشر آدابها، والعناية بتراثها، وتحقيقه تحقيقاً علمياً بغية الإيفاء ببعض ما تحتاجه العربية في عصرها الراهن .
  إنّ إثراء اللغة العربية بالمصطلحات الضرورية التي تحتاجها في هذا العصر الحافل بالكثير من الإنجازات العلمية، والثقافية، وغيرها الكثير أصبح أمراً مهماً لامناص منه، وذلك للتخلص تدريجياً ، ومن ثم الإستغناء عن المصطلحات الأجنبية التي بدأت تتوالد بنسب كبيرة نتيجة التقدم العلمي، وبذا فليس أمامنا  إلا إختيار سبيلين للمعالجة، أحدهما: التــَّوليد،الذي تنحصر طرقه في: الإشتقاق، والتعريب،والنّحت والتركيب،وثانيهما: الترجمة: الذي يأتي في المرتبة الثانية، لأننا لانلجأ إليه إلا إذا أعيتنا الحيلة، ولم تسعفنا لغتنا الكريمة في توليد المصطلح الذي نحتاجه. إنّ تغليب سبيل (التــّوليد) و(الإشتقاق) في مقدمته لم يأت من فراغ، لأنه منذ القديم كان محل عناية علماء اللغة، والصّرف، ورعايتهم لأنه يساعد على إيجاد الجديد مما نحتاج إليه من المصطلحات، ويمد اللغة بأسباب الحياة، والنّمو،ولأنّ العربية لغة إشتقاقية ، لذا جاء في المؤتمر الأول لإتحاد المجامع اللغوية، والعلمية (*) ما يفيد: إنّه العون الأكبر، والملاذ الأخفر للغة العربية اليوم في إعداد المصطلحات العلمية، والفنية، والأدبية، وينبغي الإستفادة من جميع ألوانه، وأبوابه الواسعة.
__________________________

(*) تأسس إتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية صباح يوم الخميس 18 من ربيع الأول سنة 1391هـ (الموافق 13 من مايو سنة 1971م) في منزل الدكتور طه حسين وبرئاسة (أكبر الأعضاء سنًّا)، ثم انتخب الدكتور طه حسين ( 15 تشرين الثاني(نوفبمر) 1889- 28 تشرين الأول 1973م)، رئيس مجمع القاهرة، رئيسا للاتحاد،والذي ضمَّ ممثلين عن المجامع الثلاثة في: دمشق، والقاهرة، وبغداد، مع مشاركة صفوة طيبة من كبار العلماء، واللغويين.