العروض السماعي

د. محمد حسان الطيان

ما درّست العروض مرة إلا كان اللحن والغناء والإيقاع والإنشاد وسيلتي إلى تقريبه وتفهيمه وتيسيره وإتقانه، وأنا أردد للطلبة: العروض علم إرهاف الآذان وإتقان الألحان’، يتطلب أول ما يتطلب ذوقاً سليماً وأذناً مرهفةً تميز الإيقاع الصحيح من الإيقاع المختل، والنغم المنضبط من النغم النشاز.
ولم أكن في ذلك بدعا فعلم العروض ما نشأ مذ نشأ إلا في كنف الغناء والإيقاع، حتى إن الرواة رووا أن صاحبه ومنشئه الخليل بن أحمد ولدت في ذهنه فكرته في سوق النحاسين وعلى وقع مطارقهم (تك تك تتتك). بل إن حسَّان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:
تغنَّ بالشِّعْرِ إمّا كنتَ قائلهُ        إنَّ الغناء لهذا الشعرِ مضمارُ
والعلاقة بين الشعر وبين الموسيقى والنغم والإيقاع علاقة وثيقة لا تكاد تخفى على أحد’، وأمثلتها في أدبنا القديم أكثر من أن تحصى أو تستظهر.
ولعل من أبرز مظاهرها الحُداء الذي كانت تساق به الإبل فإذا ما أسرع الحادي أسرعت الإبل، وإذا أبطأ أبطأت، ومنه الحديث المشهور الذي رواه البخاري في صحيحه: "ارْفُقْ يا أنجشةُ ويحك بالقوارير" يريد أن يبطئ وقع الحُداء لتبطئ الإبل وقع المسير.
ومن نحو هذا ما يروى عن النابغة حين أقوى في شعره فلم ينبهه على ذلك إلا تغني الجواري ومدّهن الصوت بحركة حرف الروي وهو الدال في قوله:
زعم البوارحُ أنَّ رحلتنا غداً         وبذاكَ خبَّرنا الغرابُ الأسودُ
لا مرحباً بغدٍ ولا أهلاً به        إن كانَ تفريقُ الأحبةِ في غدِ
ولأهمية عنصر الموسيقى في الشعر قيل: الشعر موسيقى، وقال النقاد عن البحتري: أراد أن يشعر فغنَّى. ولا أدلّ على ذلك أيضاً من كتاب الأغاني الذي رمى منه مصنفه إلى جمع أشهر أغاني عصره فجاء سجلاً ضخماً لأشعار العرب وأخبار الشعراء والمغنِّين على حدٍّ سواء.
أقول هذا الكلام بين يدي عرضي لكتاب جليل أهدي إلي بذل صاحبه فيه الوسع لهذه الغاية أعني تيسير العروض بتعزيز ملكة السماع لدى الناشئة، والارتقاء بذوقهم الموسيقي.
أما الكتاب فيحمل عنوان: (العروض السماعي- شعر مغنى). وأما المؤلف فهو الأخ الصديق الدكتور جمال قباني، المدرس في جامعة لكويت.
والحق أن في الكتاب جهداً كبيراً، رمى فيه المؤلف إلى تذليل الصعوبات التي تكتنف هذا العلم، حين ربط بينه وبين ما أنشد أو غني من الشعر قديمه وحديثه، مجتنبا الخوض في كثير من مصطلحات هذا العلم التي باتت عبئا على المتعلمين لاتزيدهم فيه إلا جهلا، ولا تمنحهم منه إلا بعدا.
وقد عمد المؤلف إلى تقديم البحور متدرجا من أيسرها وأبسطها، أعني ذات التفعيلة الواحدة، كالمتدارك والمتقارب، وصولا إلى البحور المركبة ذات الأجزاء المختلفة كالخفيف والمنسرح. وأحسن إذ فصل بين تفعيلات البيت بلون مختلف ليقف القارئ بين اللون واللون وقفة ترسخ في أذنه التقطيع المطلوب للبيت، دونما حاجة إلى تلك الإشارات والفواصل والتقطيعات التي تغص بها كتب العروض.
على أن أجلَّ ما صنعه المؤلف – وكل ما صنعه جليل ومفيد - ذلك القرص المرفق الذي حوى نحوا من ألف وخمسمئة ملف مسموع ومقروء، يجد فيها الطالب مئات القصائد المغناة أو المنشدة أو الملقاة بأعذب الحناجر وأجمل الألحان وأجود الإلقاء، وقد صنف كل منها بحسب البحر الذي ينتمي إليه، فجاءت جامعة لبحور الشعر المعروفة، بل هي موسوعة للشعر المغنّى، وهي لعمري خير ما يمكن أن يوصِل إلى إتقان فن العروض، بعد أن بات عصيّا على الفهم، صعبا على الإدراك، لا يكاد يتقنه إلا من رحم ربي من عشاق العربية وسدنتها، وقليل ما هم.
شكرا للمؤلف على ما بذل من جهد، وأنفق من مال، وأبدع من تصنيف. وعسى أن يجد كل محب للعربية وشعرها وعروضها في هذا الكتاب بغيته، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.