اللغة العربية في المجتمعات العربية... هوية ضائعة وقصور معرفي

د. حسين دحو

ما فتئت مكانة اللغة العربية مذ نعاها حافظ إبراهيم تتراجع بوتيرة متسارعة، وتتهاوى بتهالك كبير في المنابر والمحافل العلمية، كيف لا؛ وهرم العملية التعليمية لم يعد يرى في اللغة العربية إلا أنموذجا للتخلف والتقهقر، ولم يصبح راغبا قاطن هذا الهرم في النظر إلى أمجاد هذه اللغة، بل لنقل متكلم هذه اللغة لأنها لم تتغير يوما في أصواتها اللغوية الحاملة للمعرفة الإنسانية العالمية ولدستور البشرية جمعاء.
إن طالب قسم اللغة العربية، اليوم، يترك مقاعد الدرس الجامعي محمّلا بما لذ وطاب من أوسمة علمية وشهادات فخرية، متفاخرا ومتباهيا يطاول عنقه عنان السماء في شموخ وأنفة، سرعان ما يزولان عن هذا الطالب، متى ما سألته عن قاعدة نحوية أو صيغة صرفية، فتراه يهتاج ويغتاظ ويزمجر صارخا: ذاك علم الأولين، وهل سنبقى نحيا على كتاب سيبويه؟ وكامل المبرد؟ وبخلاء الجاحظ؟ لا. إننا في عصر الرقمنة والنصوص والقواعد التفاعلية، التي لا يحتاج معها صاحبها إلى كراسة نحو أو مصنفة صرف أو أرجوزة أدبية. حقا إنك متخلف وجاهل!يا من لازلت  تحيا برمق الكتاب وبين دفتيه، تتفحص أوراقه الصفراء التي تشكوك هجر دُرّاسها وطالبيها.
لقد أصبحت اللغة العربية غريبة في مجتمعاتها اليومية ، وفي المجتمعات المعرفية، لا يكاد يفقهها إلى مثقف غيور ومحب ومريد لها، يهجرها المعلم والمتعلم، فتمسي العملية التعليمية في مختلف أطوارها مشوهة البنية والمضمون، يمتزج فيها الأداء اللهجي الخاطئ والإقليمي باللغة الرصينة الراقية العالية والسامقة، التي تأنف منها مسامع المتعلمين  وتنفر منها خواطرهم وكأنك تحدثهم بما سمعوه لأول مرة، فلو خاطبتهم بلغة أجنبية لأنصتوا وتفاعلوا بل ولعددوا لك الخطأ والصواب متباهين ومتبجحين. وا حسرتاه على لغة القرآن الكريم؛ يتنكر لها أبناؤها ويقبل عليها الأجنبي عنها يدارسها ويحللها وينهل من ينابيع مصادرها العذبة المفعمة بالمعرفة والعاطفة والجمال الذي تستعذبه النفس وتسكن إليه.
إن ما آلت إليه لغتنا، ليس إلا ناتجا عن فساد الأنظمة التربوية والتعليمية في المجتمعات العربية، هذا الفساد الذي يؤاخذ به المعلم والأستاذ والمهندس والطبيب والوزير ... وكل فرد من أفراد المجتمع، يهجر لغة القرآن الكريم ولسان سيد الخلق أجمعين، ومطيته في ذلك قصور اللغة العربية عن احتواء العلوم، كيف تكون اللغة قاصرة، وقد كانت بالأمس لغة الأدب والفلسفة والرياضيات والجغرافية والفيزياء والكيمياء ولغة الطب أيضا، ألم يأخذ الغرب كتب الطبيب والعلم ابن سينا المكتوبة بالعربية وترجموها إلى لغاتهم؟ أم أن لغة ابن سينا والرازي والإدريسي والجاحظ وسائر العلماء المسلمين، هي غير لغة القرآن؟
ما لنا دب الوهن والضعف فينا، حتى تخلينا عن جزء من هويتنا، هذا الجزء الذي تصنعه اللغة، ولم يبق لنا إلا جزء زائف مصطنع ومشوه حفظته لنا عقيدتنا وليتنا حافظنا عليها، فلم يعد شعارنا إلا: إن الله غفور رحيم.
لن تستقيم حال اللغة العربية في المجتمع العربي إلا بالتمسك بالدين الإسلامي وبدستور الله سجانه وتعالى، وبالإقبال على العلم والمعرفة نطلبها ونطورها ونحفظها بلساننا الناطق والزاخر باللغة العربية الراقية والجميلة، التي تخاطب العقول وتراسل العواطف والقلوب، إننا لن نصنع هويتنا ولن نسود العالم كما فعل سلفنا الصالح إلى بالدين واللغة والعمل. فهل من هبة واستفاقة يا طالب اللغة العربية؟ فأنت القدوة والمثال الذي يحتذي به غيرك من طلبة العلم. وهل من استفاقة يا معلم اللغة العربية؟ فأنت قائد النشء وملهمه. فهل من استفاقة يا أفراد المجتمعات العربية؟ هل من استفاقة؟