قراءة النص وفهم التجربة الجمالية

د. أمين عبد الله اليزيدي

هل نستطيع فهم التجربة الجمالية دون معايشة التجربة، ليس في صورتها الأصلية كما وجدت عند المبدع، لكن كما هي عليه الآن بعد أن أصبحت شيئاً مادياً ملموساً عبارة عن صورة أو تمثال أو نص؟.
سؤال طالما تردد ويتردد، وهو سؤال مُحَيّر،هل لتذوق العمل الفني أو اكتمال هذا التذوق والتلذذ والإمتاع علاقة بمعرفة أو فهم التجربة؟ وهل تكفي المعرفة أم الفهم، على اعتبار أن الفهم أكثر عمقاً من المعرفة، إذ إن المعرفة قد لا تتجاوز اكتساب المعلومة، إذا لم تتحول إلى شعور بهذه المعلومة وقيمتها وتوظيفها.يقول (كانت): " فجميع ملكات النفس أو القدرات تختصر إلى ثلاث لا تقبل أي اشتقاق آخر من أرضية مشتركة وهي: مَلَكَة المعرفة، الإحساس بالمتعة أو بالأشياء، مَلَكَة الرغبة. أما التشريع الخاص بالمعرفة فهو الفهم، والخاص بالمتعة أو الأشياء هو التقويم، والخاص بالرغبة هو العقل".
والناقد ليس مطالباً بأكثر من هذا؛ إذ يستحيل الممارسة الفعلية أما الفهم فإنه وإن تيسر يبقى أمراً نسبياً و لا يصدق على التجربة الأولى الحقيقية، فنحن لا يمكن أن نحمل نفس المشاعر والأحاسيس التي حملها الأديب أو الفنان المبدع لحظة الإبداع مهما حاولنا الاقتراب من هذه التجربة.
ولا يعني فهم التجربة أو معرفة حيثيات الإبداع أن نجعلها المُوَجِّه الرئيس في النقد، غير أنَّها – حتماً - ربما أفضت إلى تكوين صورة أكثر وضوحاً عن العمل الفني؛ إذ إن هذه المعرفة أو التجربة ليست مقتصرة على الدافع أو البيئة المادية المحيطة بل تكتنف أيضاً العرف والعادات الاجتماعية والتعبيرية.
ذلك أنَّ الكلمات لها طاقة تعبيرية تتجاوز العلاقة البسيطة القائمة بين الدال والمدلول، لتكون محملة بطاقة تعبيرية قارة في عرف المجتمع، ولولا ذلك ما كان للكلمات أي أثر في النص، وَلَمَا كان لاختلاف موقعها وموضعها ووظيفتها أي فائدة أو أثر، وَلَمَا كان (الكلب) دال الوفاء حيناً ودال القذر حيناً آخر، وَلَمَا كان عنصراً يوظف للتعبير عن البخل أو الكرم:
وكلبك آنس بالزائرين         من الأم بالابنة الزائرة
قال الأخطل:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم         قالوا لأمهم بولي على النار
فتمسك البول بخلا أن تجود به        وما تجود لهم إلا بمـقدار
ولَمَا كان لتقنية المثل والرمز أي إيحاء، إذ إنَّهما بدون طاقتهما الإيحائية ليسا أكثر من سطح من الكلمات قد يضيع الترابط بينها فتصبح  هذراً من القول، ولما كان لبعض الأسماء قدسية قد تفوق قدسية المسمى نفسه، هذا في الكلمات وقل مثل ذلك في الألوان وإيحاءاتها منفردة ومتمازجة.
علينا- إذاً- لفهم التجربة وممارسة تذوقها أن نعمد إلى تحليل التجربة وتجزئتها ومن ثمَّ نحتاج إلى ممارسة الأُلْفَة معها، حتى نُكَوِّن علاقة بيننا وبين التجربة، فنعيد قراءتها ، ومعرفة بعض الأمور عن الأساليب والتراكيب والرموز حتى نستطيع الاستعانة بها والإفادة منها في التحليل، وهذه المعرفة ثمرة من ثمرات الألفة، كما أن التآلف مع النص يؤدي إلى تمييز العلاقات الشكلية وإدراك الفروق الكامنة بينها.
في البداية تكون معايشتنا للتجربة فقيرة جداً وضعيفة وقد لا نستجيب الاستجابة الصحيحة، ومع الألفة نستطيع معرفة التنوع الموجود في النص، موسيقياً وأسلوبياً، ونستفيد أو نتمكن من الاستفادة من هذا التنوع. كما نستطيع تكوين نوع من الترابط بين أجزاء النص لاسيما إذا تعاملنا معه بشيء من الصبر والتسامح.
وزيادة الألفة تجعل الناقد يشعر بروح النص وتمازجه معه، أما في غير ذلك فإنه يشعر أن النص عبارة عن سطح من الكلمات.
ومن الأمور التي يفيدها التآلف مع النص، معرفة قيمة من أهم القيم في النص ، وهي معرفة وحدة التجربة، وهذه المعرفة تأتي من الألفة مع التنظيم الشكلي للنص.
وتفيد الألفة أيضا في تكوين دقة وعاطفة أكثر فضلا عن استعداد ذهني لتذوق العمل، كما تفيد في أنها تجعلنا نستطيع أن ندرك كيف تسهم مختلف عناصر العمل الفني في التأثير، وهذا بدوره يؤدي إلى زيادة قدرتنا على معرفة الدلالات والإيحاءات الكامنة في العمل.
والعمل الذي يفتح لك آفاقاً جديدة كلما عاودت النظر فيه، أو يجعلك تحس بمتعة لم تشعر بها من قبل بسبب تداعي الأفكار والمعاني والتخييلات أو غير ذلك هو العمل الفني الراقي، لأن هذا العمل يجعلك تبذل جهداً في التذكر والتخيل والفهم، وكلما بذلت قدراً من الجهد أعطاك صَدَفَةً من أصدافه، ومن غير الممكن أن يُسَلِّمَ لنا العملُ زمَامَه من أول وهلة، صحيح أن العمل الرائع يثير الدهشة والإعجاب ويلفت النظر منذ البداية لكنه لا يُمَكِّنُك من استتمام عناصر الدهشة فكلما عاودت النظر وجدت شيئاً آخر غير الأول، قد يكون جزءاً منه أو زائداً عليه أو جديدا، أما العمل الذي لا يثير الإعجاب سوى مرة واحدة فربما كان أقل الأعمال فنية وجمالاً وإمتاعاً وروعة، بل ربما قَرُب من الساذج المبسط، ولعل ذلك ما حدى بعبد القاهر الجرجاني أن يجعل من الاستعارات، وهي فن من الفنون، ما هو مبتذلاً عامياً وما هو يحوجك إلى إعادة النظر مرات ومرات، ليس لأنه استغلق على الفهم، بل لأنك تجد فيه شيئاً كلما عاودت النظر متأملاً.
وهذا لا يعني دعوة إلى الغموض، بل لأنَّ العمل الفني لا تستطيع الاستمتاع به، ولا تتأتى القدرة على تذوقه دفعة واحدة، مع أنه قد يثيرنا منذ الوهلة الأولى، سواءً بشكله الكلي أم بسبب صورةٍ من صورِه، أو غرابة تشبيهٍ أو ندرته، أو غير ذلك، لكن هذا الموطن ما هو إلا جزءٌ من أجزاء العمل وليس كل العمل.
وهنا قد يظهر تساؤل مفاده: لماذا لا نرجع إلى الفنان لنعرف منه وحدة العمل وعناصره ونستغني عن هذا العناء؟ في الحقيقة إن الإبداع غير مُدرَكٍ تماماً. إن الفنان ذاته لا يشعر به، فالفن الإبداعي عند المبدع أشبه بعملية التنفس، في اليسر والتلقائية، ولذا فإن تفسير العمل الفني لا يكون إلا من خلال العمل ذاته، دون أن ننفي الاستفادة من المحيط الخارجي المتعلق بالعمل، فهو أيضاً يفيد في التقرب من العمل قدر الإمكان، هذا على وجه الخصوص حين يكون الفن لغة، ذلك أن العمل الفني لغة أو غير لغة، هو المظهر المادي الوحيد الذي يمكن التعامل معه والعودة إليه باستمرار، فالعمل باق والمؤلف غير باق، والعمل ثابت والفنان غير ثابت وقد تتغير نظرته للعمل وأسلوبه، بل قد يتنكر له، أو يعيد النظر في تفسيره وتقييمه، وهذا يحتم العودة إلى العمل من حيث هو فن موجود، مع الإفادة قدر الإمكان من الظروف التي أدت إليه، ومدى علاقة العمل بتلك الظروف أو تأثره بها مثل جو القصيدة أو مناسبة نزول السورة. كحالة أبي ذؤيب الهذلي في العينية المشهورة.
والدليل على عجز الفنان قديماً وحديثاً عن تفسير عملية الإبداع أنه في العصر الحديث أرجع الإبداع إلى العبقرية والخيال، والإلهام الفني، وهي أمور غير مدركة حتى بالنسبة إلى المبدع، وقديماً أرجعوا الإبداع إلى الوحي عند اليونان، وإلى شياطين الشعر عند العرب؛ ذلك أنَّ المبدع  قد يفكر في العمل أو يخطط له، لكنه لا يدري متى وكيف انبثق هذا العمل على النحو الذي هو عليه الآن، إنه يرى أنه قد جعل اللغة تخرج بطريقة لم تتأتى لغيره، لكنه لا يستطيع البرهنة الصادقة عن كيفية حدوث ذلك، فالقصيدة ليست" مركبة بطريقة واعية تماثل الطريقة التي يركب بها صانع الساعات إحدى آلات قياس الوقت" .
وهذا أيضاً لا يعني أن الإبداع وحي وإلهام حسب" فالصانع الشديد البراعة( مثلاً الخطاط الماهر، الرسام) الذي يندمج ويستغرق تماماً في عمله كثيراً ما يحسُّ بهذا الشعور، ولو مضى عمله في طريقه بدون جهد ولم يصادف عقبات، فقد يشعر فعلاً أنه لا يستخدم قدراته الخاصة، بل يشعر كأن العمل يصنع ذاته... لأن مهاراته قد بلغت من النمو حدًّا يستطيع معه أن يسير في طريقه بلا صعوبة".
ثم إنَّ الفنان بعد أن ينهي عمله، أو ينتهي من طرف منه- حتماً- يراقب هذا الجزء ويعيد النظر إليه، إذاً فالإلهام ليس قوة عشوائية مستقلة تماماً- وإن كان يبدو كذلك- وإنما هو يتوقف على النشاط الواعي الخاضع لسيطرة الفنان، إذاً فمن هو الفنان"؟.
يمكن القول: إنَّ الفنان هو" الشخص الذي يتميز بالحساسية نحو الوسط الذي يبدع فيه العمل"  إذاً هل الفنان هو من يريد أن يخبرنا بأشياء مهمة، أم من يحب الكلمات ويستطيع التعامل معها؟  ألم يرَ كثير من الشعراء إيوان كسرى قبل البحتري؟ ألم يمرض شاعر فتصيبه الحمى قبل المتنبي؟ ألم ينظر شاعر أو جمهور القوم إلى ذلك، أو إلى مغنية أثارت ابن الرومي فقال فيها:
وتفتح -لا كانت- فماً لو رأيته         توهمته بابا من النار يفتح
ألم يلحظ أحد سرعة الفرس وأوصافه غير امرئ القيس ليقول لنا:
له أيطلا ظبي وساقا نعامة    وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
ولكن هل يكفي التعامل مع الوسيط حسب؟ أم يحتاج المبدع إلى عملية ثانية تساعده في إنجاز العمل؟ هذه العملية يمكن أن نسميها بالخيال والقدرة على الإفادة من إيحاءات المكونات الموجودة، فالرسام مثلاً يتعامل مع الألوان، لكن التعبير بالألوان لم يكن لأنها ألوان، بل لأنها امتزجت وتوافقت بطريقة ما لتؤدي تعبيراً أراده الفنان، حتى وإن لم نتفق نحن المتلقون مع الفنان في هذا التعبير.
لقد قلنا: إنَّ المبدع يجيد التعامل مع الوسيط الفني وهو هنا اللغة، وهنا لا تكون اللغة سلبية، ذلك أنَّ الوسيط" يعطي العملية الخلاقة اتجاهاً، إذ يوحي إلى  الفنان بأفكار لم تخطر بباله من قبل( وقد يحدث مثل هذا أثناء التدريس أوالخطابة) فالأصوات والألوان غنية بالقيم الترابطية التعبيرية التي يستطيع الفنان استغلالها"  وكذلك الألفاظ تتداعى مع القوافي والاشتقاقات وهمسات النص، لتوحي للفنان ذاته بأشياء لم تكن على باله عند بداية بناء النص، إذاً فالإبداع والفن عملية تكاملية من المبدع وقدرته الفنية ومَلَكَته الخيالية وذوقه، وأيضاً الوسيط الفني وهو هنا اللغة.
إن قرب الصورة في النص من الواقع أو استمدادها منه ومن التجربة البشرية  , يؤكد وجود علاقة وثيقة بين الفن والتجربة الإنسانية . هذه العلاقة وواقعية الصورة أو انتمائها إلى البيئة الواقعية - وإن لم تطابقها - تبعث تساؤلاً حول استجابة المتلقي لهذه الصورة وهل تعتمد الاستجابة الفنية من المتلقي للصورة الفنية أو التعبيرية على مدى واقعية الصورة ومطابقتها للواقع ؟ فتكون استجابة واقعية وعاطفية وحسب وليس جمالية ؟ أم أن حدوث الاستجابة كان لأنها صورة خرجت بهذا الشكل؟ !
لا شك أنَّ الاستجابة الجمالية تعني وجود لذة من نوعٍ ما لدى المتلقي, ووجود هذه اللذة قد يستند إلى نوع المكون المادي للعمل الفني, أو إلى معارف تاريخية أو دينية أو أدبية أو قيمية تضمنها العمل الفني . وهي استجابات مبنية وفق أسس مسبقة لا تنظر إلى العمل الفني بصفته عملاً؛ بل بصفته فكراً ومعرفةً أو عاطفة أو واقعاً. من  هنا تنبثق إشكاليتان : إشكالية تذوق العمل الأدبي, وإشكالية معيارية النظر إلى العمل الفني.