أَبَلَغَ الهَوَانُ هُويَّتِي

د. سليمان حسن سعد زيدان

  كنت أُقَدَّمُ على كلِّ شيء .. وكان لي من القَدْرِ الكبير ما جعلني ويجعلني فخرًا ورفعة لمن له صلة وثقى بي . كنت أحظى بحفظٍ واهتمامٍ بليغين فلا أهان ولا أدان ، وإذا قصَّر أحد في حقي تتنافس كثيرون سراعًا يلحقه آخرون للذود عنِّي وإنصافي وبِرِّي. أمَّا القَدْرُ الأعظم لي حين اتخذني الله حجة على قومي ؛ فجعلني معجزة نبيه وخاتم رسله ورسالته محمد بن عبد اللَّه النبي الأمي ـ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم . خير من نطق بي  ... أنا اللغة العربيَّة العزيزة بأنِي لغة القرآن ، المعزَّزة بحفظه من الرحمن .. أبعدَ هذا : من قومي ، وفي داري أهان ؛ فافجع بكرِّ الهوان من خطأٍ في الخطِّ ، ولحن في اللسان ، إلى طعن في الشأن ، حتى غدوت الآمة وضرائري سيدات الزمان والمكان...
     لم يكتفِ أولي رَحِمي من بني قومي بما أسلفوا وأتلفوا من قواعدي وتراكيبي ؛ فأمعنوا في الجحود ، فأصدروا قرارات وتعليمات تنصُّ على أنَّ الطلاب حاملي الشهادات ذات التقديرات الأضعف ممن أتموا الدراسة في المرحلة الثانوية لاحظ لهم في مواصلة تعليمهم الجامعي إلا في اختصاص اللغة العربية ، في تصريح فظيع ، وتجنٍّ ظاهر غير مضمر ، بأني صرت ـ في نظر قومي ـ أقبع في أسفل درجات سلم القيم إن لم أكن خارجه ؛ فأيُّ منطق يقبل ألا يكون نصيبي من أبنائي سوى ضعفاء الاستيعاب والمبالاة : مَنْ لا يبالون بالدَّرس ولا يحرصون على تحصيل العلم والمعرفة المؤهلين لممارسة الحياة ، وهو ما يُلْحِقُ بي ـ تعسفًا وظلمًا وعقوقًا وزورًا وبهتانًا : صفة منفى نفايات العقل والفكر ؛ فهل أنا كذلك...؟!!
       لقد سمعتكم بأذني في الإذاعات ، وقرأت بعيني في الصحف والمجلات وفي بعض الكتب والمراسلات كيف تهزؤون بي ؛ فتخطئون في نصبي ورفعي وخفضي؛ فتشوهونني في نظر نفسي قبل نظر النَّاس ؛ فأرجوكم الإحساس الإحساس بقيمتي .. والإخلاص الإخلاص لقامتي ، لأجلكم قبلي ؛ فأنا وجودي مأمون ، وقدري محفوظ مصون في مكان لا يقبل الخطأ في التعامل معي لا كتابة ولا نطقًا ، ولو بمقدار حركة ؛ فالرفع رفع ، والنَّصب نصب ، والكسر كسر ، والسُّكون سكون ؛ لأن غير ذلك يؤثر على المعنى فيغيره ، وهنا لا تهاون ولا شفاعة ، إذ أنَّ هذا الفعل  يدخل الفاعل في الحذر فالقصاص ممن لا قدرة لمخلوق عليه.
    الشَّاكي أنا (اللغة العربية) التي كرَّمها ربُّ العباد ، وامتهنها فأهانها في هذا الزمان كثير من العباد حتَّى أنَّهم بالغوا في التعدي على حرماتها ، فقللوا من أهمية حضورها في معاملاتهم بالشكل الصَّحيح الذي ينفعهم ويرضيها ، وإنِّي لأشكو امتعاضي من ذلك لربي ثمَّ للمسؤولين عنِّي من محبين لي ، ومن أصحاب سلطة وقرار . وقد أفلح مَنْ حمى ونصر مَنْ به مِنْ ظلم ذوي قربى استجار...
فظلم ذوي القربى أشدُّ مَضَاضَةً      على المرء من وقع الحسام المهندِ
      لا ريب أنَّ الخطأ في اللغة العربية في معاملاتنا العادية والرسمية يهزُّ المعنى ويغيره ، عوضًا عن الإساءة لها بتكسير قواعدها باللحن فيها ، فينعكس السوء علينا فيهزُّ احترامنا لذواتنا ؛ لأنَّنا ـ بهذا ـ نعقُّ هويتنا ، ونعيق الفهم الصحيح الصَّريح لما نطرح ونتناول ، فينتج عن ذلك إصدار أحكام غير متزنة ، وغير صائبة ، لا يتكشَّف لنا أثرها إلا عندما نقف بين يدي التفسير اللغوي والتَّطبيق القانوني.
    إنَّ الواجب الملزم النفاذ رفع شأن اللغة العربية وصون قدرها ، بعدم هتك مقامها ، بأن نجعل اختصاصها مقدَّمًا على سواها ، أو بجعلها في اختصاصات في زمرة الصَّف الأول  أسوة بما اقتضيناه وارتضيناه للاختصاصات الأخرى كالطب والهندسة... إلخ : وهذا بعض العدل ... وأن نحثَّ على عَقْدِ دورات تعليمية تثقيفية ملزمة لشرائح المجتمع كلِّها ، للإلمام بقواعد اللغة العربية وبخاصة المفردات والحروف والتراكيب ذات التَّداول الدائم والاستخدام المتكرِّر الشَّائع ، ولا بأس من رصد مكافأة تضاف إلى الراتب لمن يسند ملفَّه الشخصي في الوظيفة بشهادة في اللُّغة العربيَّة . كما أنَّنا ملزمون بتقديمها للنشء على أنَّها سهلة التَّعلم ، مؤكَّدة الإجادة ، وأنَّ مَنْ يحبها فيتقنها محبَّبٌ مُقدَّم الشَّأن ، صاحب حقٍّ في الأولويات كما هو الشأن ـ واقعًا ـ مع مُجيدي غيرها من اللغات  الأخرى كالإنجليزية والفرنسية..