الدخول إلى النص
د. أمين عبد الله اليزيدي
في مقالة سابقة كنا مع النص في التآلف معه تمهيدا للدخول إلى شعابه وسبر أغواره، وهو ما تحاول هذه السطور التعرض له. وأحيل هنا إلى كتاب جيد فيما نحن بصدده – حسب ظني- وهو كتاب فن الفرجة على الأفلام.
ليس ثمة أسلوب محدد متعين للتعامل مع النص حتى في حالة الالتزام الصارم بالمنهجية العلمية، كما هو حال البنيوية مثلاً، وفي حالة الالتزام بالأطر العامة المحددة للعناصر التي يمكن أن يتناولها التحليل كما هو حال التحليل الأسلوبي، ذلك أن كل نص جسد وروح قائمان بأصلهما فلا يمكن أن نقرنهما بغيرهما إلا في الأمور العامة للتحليل. وللمحلل أن يألف النص ويعيد الكرة حتى يهتدي إلى الطريقة الأمثل للتعامل معه، وإلى مدخل مناسب.
فقد يكون المدخل هو العنوان، وقد يكون جو النص ومؤثراته البيئية، ......الخ.
ومن خلال التحليل نستطيع معرفة بعض أهم الأساليب الفنية والنقدية وفقاً للمفاهيم النقدية في العصر الحديث.
وينبغي أن نعلم أن تقسيم أي عمل فني/ أدبي، أو فن إلى عناصره المختلفة للتحليل عملية مصطنعة نوعاً ما، لأن عناصر أي شكل فني لا تتواجد أبداً في عزلة عن باقي العناصر، ومع أنه شيء من التكلف والزيف أن تدرس العناصر مجزأة فإن المنهج التحليلي يستخدم هذا التكنيك المُجَزِّئ من باب التيسير والراحة( ).
كما أنَّ علينا أن ندرك أنَّ مبادئ لابد من توافرها لدى الناقد، وهي مبادئ لم يغفلها القدماء، كما أنَّها أساسية عند المحدثين ومن أهمها:
1- الذوق.
2- الممارسة والتمرن.
3- الثقافة.
4- ألفة النصوص.
5- استنطاق النص.
6- فهم النص.
قبل التحليل( ):
1- قراءة العمل المنظور للتحليل أكثر من مرة ذلك لأنَّ القراءة الواحدة/ القراءة السطحية لا تكفي لتمعن عناصر النص اللغوية أو عناصر التجربة الفنية كلها مجملة في قراءة واحدة، لهذا ينبغي علينا أن نقرأ النص مرتين أو أكثر( تكوين أُلفَة مع النص) كلما أمكن إذا شئنا أن ننمي العادات والقدرات السليمة الملائمة للقراءة التحليلية. ففي القراءة الأولى لا نستطيع أن نقرأ بالطريقة المعتادة منشغلين قبل أي شيء بعناصر النص والنظر في سطحه من الكلمات أو موضوعه أو أي مدخل آخر أثار انتباهنا لقراءة النص أو غرض القراءة وربما أمكن أن نلحظ أموراَ مثل:
الأثر العاطفي، الموسيقى الرنانة، بعض الكلمات والتراكيب، الموضوع أو الفكرة الرئيسة، ربما تظهر بعدئذ في القراءة الثانية والثالثة، حيث لم نعد رهن التطلع في النص ابتداءً وحيث قد تقرر تحليله وإجادة قراءته نستطيع أن نركز انتباهنا التام على التساؤل: لماذا؟ وكيف؟.
2- علينا أن ندرك أن التحليل لن ينتهي بمجرد القراءات والانتهاء منها ومن كتابة الملاحظات المستنتجة، ربما نكون حينئذٍ ابتدأنا القراءة التحليلية السليمة، وعليه فإن استحضار بعض مفردات، أجزاء، أفكار، النص وصوره في الذهن ضرورية – ( أي في ذهن القارئ) - لأي تحليل يسعى إلى مقاربة الإجادة.
3- يساعدنا التحليل في إثراء التجربة الفنية والنصية للمبدع وللقارئ وبه يكون ممكناً تجريب الابتهاج والغموض فكرياً وحدسياً كذلك، ونستطيع أن نجرب الخيال الشعري، كما يمكننا بأدوات التحليل أن نكتشف أغوار الفهم السحيقة التي لا يستطيع غير المبدع أن يدركها تمام الإدراك.
4- يعمل التحليل على ابتداع سبل جديدة للوعي والإدراك، وعليه يستطيع التحليل أن يزيد حبنا للفن، للنص، قوة وثباتاً وصدقاً وإحساساً بفاعلية النص وقدرة القارئ على التحليل والتفاعل معه.
5- يساعد التحليل في أن يعين على أن نرى ونفهم كيف يؤدي كل جزء وظيفته ليسهم بطاقته الحيوية في بقاء الكل نابضاً بالحياة والديناميكية، ذلك أنَّ تشريح النص وتجزئته لا يحدث إلا في عقل المحلل، أما العمل فهو تام محتفظ بحيويته وينبض بالحياة كل جزء قيد الدراسة فيه، حيث ما يزال التحليل ينظر لكل جزء على أنه مرتبط بحياة المجموع. ( عندما تقول تريد سيارة نوع كذا لونها كذا لا يعني هذا إغفالك باقي المواصفات) فالتحليل يفترض مسبقاً وجود كلٌّ فني موحد ومنطقي التركيب، إذ يعني التحليل تفتيت الكل لاكتشاف طبيعة الأجزاء وتناسبها ووظيفتها وعلاقاتها المتداخلة.
6- عند التحليل في القراءات الأولى أو المتقدمة علينا أن ندرك أنَّه قد يؤثر فينا العمل أو نتأثر به مباشرة، ومن ثم يجب علينا أن نمتلك فهماً حدسياً للمعنى الإجمالي الشامل، ولبُّ المشكلة هو أنَّ هذا الفهم الحدسي واهٍ وغامض في عمومه، ويقيد استجاباتنا النقدية بتعميمات غائمة وآراء غير مكتملة. غير أنًّ التحليل يهيئ لنا أن نعلو بهذا الفهم الحدسي إلى مستوى واعٍ، لننتهي إلى أحكام أكثر تحديداً وفهماً وصحةً. ولكن لا يعني هذا أنَّ التحليل يستطيع النزول بالعمل الفني إلى نِسَبٍ منطقية سلسة القيادة، فسوف يحتفظ العمل بفنيته وقيمته وسحره.
7- إذا تمكنَّا من أن نفهم عدة أشياء من خلال التحليل بحيث نتعلم أن نراها كالمعتاد فسوف تتحرر عقولنا لتركز على المسائل الأكثر دلالة ومعنوية لتجاوز القيمة السطحية المباشرة للنص. ويجعلنا أكثر تمييزاً في أذواقنا وأصوب اختياراً لِما نُعجب به. ولعل التحليل يعلمنا كثيراً مبدأ التجريد في التعامل.
لعلنا ندرك أن قراءتنا قد أدَّت إلى:
استكشاف الظواهر وتعيينها وهذه الظواهر هي تلك التي لفتت انتباهنا. وأوصلتنا إلى مرحلة القدرة على التأويل وفيها نتجاوز مجرد الرصد والاستكشاف للنفاذ إلى صميم النص، ليتحول رصد الظواهر إلى حكم يُتَثَبَّتْ منه وليس مجرد انطباع( ).
وهنا سؤالان: ما الجائزة المتوقعة من قراءة الأدب والفن؟ إن كان له جائزة؟ هل هي المتعة؟ أم غير ذلك؟
والثاني: إذا كان ذلك كذلك فأين موقع تمتع الناقد في نقده بقدر من التجريد؟ إذ النقد يُعَلِّم الناقد التعامل بتجرد مع الحوادث /النصوص /الأشياء فلا يرى الحسن قبيحاً لأنَّه صدر عمن لا يرغبه كشخص، والعكس كذلك.
أخطاء قد يقع فيها الناقد المحلل( ):
1- الرفض النوعي. يمكن للناقد أن يتناول ما يقع تحت يده دون استباق بنظرة مسبقة تجاه شاعر أو اتجاه شعري أو أدبي أو نوع أدبي أو فني، لأن هذا الرفض النوعي له آثار سلبية أهمها: أنَّه يُفقد الناقد المحلل تجربة كان يمكن أن يعيشها.
2- اعتبار الجزء على أنَّه الكل، وذلك العمى بسبب الاستجابة المفرطة للعناصر المجتَزأة أكثر منها للعمل الفني جملة.
3- توقع الكثير جداً من المتعة أو الفائدة العلمية أو الحكمة أو غيرها، فإذا كان القارئ الناقد يتصور في الشعر المثالية الخُلُقية والحكمة العالية.. فإنه ربما يكون قد وضع أفقاً سامقاً لتوقعاته بحيث قد لا يستطيع هذا النص و لا غيره أن يكون وافياً بنيلها.
4- امتلاك خبرة حاذقة امتلاكاً مفرطاً – مثال يقتنع المصلون بالخطيب في حين أنَّ صاحب اللغة العربية وعلم الاتصال يدرك فداحة بعض الأخطاء، التوقعات، تحرمه من فرصة الاستمتاع بالخطاب ولذا لا ينبغي أن يتوقع الناقد/ القارئ دائماً درجة عالية من الأداء، المتعة، المنفعة.
5- عوامل خارجية قد تؤثر في فاعلية القراءة أو الاستمتاع أو التحليل. مثل المزاج النفسي، والوضع العقلي والذهني، والحالة البدنية كالنعاس أو الإرهاق ونحوهما، أو مكان غير مريح، أو وجود رائحة كريهة، أو أداء صوتي سيء. ومن العوامل الخارجية – أيضاً- حركات وأخطاء المحيطين، إذ يمكن أن تساهم في الحرمان من المتعة بالقراءة، بالمشاهدة، بالتحليل، والعكس كذلك إذ قد يكون لهم دور إيجابي. وهذا ينعكس أيضاً على عملية الإعجاب والاختيار فمثلاً حين تكون على غير وفاق مع أهلك وتجد نصاً يتحدث عن النساء ذماً قد تسقطه على نفسك وكأنه متنفس لك، وكذا إن خانك أو ظلمك قريب أو صديق ثم تجد ما يوافق حالتك النفسية.
6- تصورات مسبقة من خلال معلوماتنا عن الشاعر/ المبدع، الموضوع، النوع الفني، ولذا لا ينبغي للناقد أن يقرأ نقداً لناقد آخر حول ذات التفاصيل قبل أن يكون هو قد بدأ في قراءة وكتابة ملاحظاته عن الموضوع أكثر من مرة ووضع خطوطاً عامةً عن العمل موضع النظر حتى لا يتأثر بقراءته لذلك الناقد. أو أن عليه – أيضاً- أن يقرأ لأكثر من ناقد لكن بعد تكوينه صورة شخصية عن العمل، حتى يتحرر قدر الإمكان من الإطار الذي قد يضع نفسه فيه بتأثير من قراءاته النقدية لآخرين. مثلا لا ننظر في تحليل قصيدة لناقد ما قبل أن نكون قد قرأنا القصيدة/ العمل الأدبي أكثر من مرَّة وشكَّلنا حولها تصوراً تحليلياً وموضوعياً وفنياً ثم نقرأ تحليلات الآخرين و لا نكتفي بقراءةٍ لناقدٍ محدد.
7- أن يجتذب الناقد منهجاً معيناً دون أن يكون متبصراً به ليأخذ منه ما يتناسب ولغته وفنِّه وعاداته. وتُعَدُّ الأشكال والمقاييس الفنية مكوناً من مكونات بنية كل ثقافة، وكل ثقافة متفردة بذاتها، ولذلك لا يمكن مقارنة ثقافة بأخرى، كما لا يمكن مقارنة الفن في ثقافةٍ ما بالفن في ثقافة أخرى. وكنتيجة لكل هذا تبدو النسبية الجمالية هي الموقف الوحيد الذي يمكن اتخاذه، وإلا فإنَّ المرء سيفشل في إدراك حقيقة أنَّ ما هو صحيح فنياً في سياقٍ معين غير صحيح في آخر( ). فقد أدى جلب المصطلح النقدي، وهو مصطلح معرفي ثقافي من الغرب دون تنقيته من عوالقه الثقافية الأم- الغربية- إلى وقوع المصطلح ومستخدميه في فجوة الازدواجية المتعددة الجوانب فكانت ازدواجية الولاء....، القيمة...، الازدواجية الفكرية....، الازدواجية البيئية( ).
وعلينا أن نتجاهل قدر الإمكان أو نتناسى بوجه عام سائر الأفكار والآراء والتحليلات والتأويلات والانفعالات الذاتية الأخرى المطروحة في متون المراجعات النقدية أو مقدمات المحققين والشُّرَّاح. ومن الأهمية ألا نتعمق النظر كثيراً في تقييم أي ناقد بمفرده، أو استجاباته الذاتية للعمل الفني؛ لأن فعل ذلك قد يعوق أو يقيد استجاباتنا نحن بدرجة خطيرة، بحيث نرى الأشياء نفسها التي رآها الناقد الآخر و لا شيء أكثر. بل إنَّ اتخاذ رأي ناقدٍ ما بجديةٍ بالغة لا يقيد استجاباتنا الذاتية الشخصية، وإنما يدمر في أغلب الأحيان استقلال حُكْمِنَا على قيمة العمل الفني/ الأدبي، ويوهن إدراكنا النقدي أثناء عمله. ( أي أثناء عمل إدراكنا ) فكل ناقد/ متلقي اهتماماته التي ينظر من خلالها إلى العمل. ولذا ينبغي علينا دائماً " عند قراءة المراجعات النقدية أن نتذكر أن النقد عملية ذاتية إلى حدٍ بعيد...وإذا اعتمدنا كثيراً على المراجعات النقدية فقد نفقد تماماً ثقتنا في حكمنا ذاته" مع العلم أنك ستجد ناقداً آخر يخالفك الرأي في ما قرأته أو يخالف قراءتك النقدية، فإذا لم يكن هناك قدرة على الالتزام الحيادي تجاه المقروء والاستفادة منه لا التقيد به فقد تجد نفسك في مآزق وتضارب نقدي( ).
|
|
|