بداية اللحن في الكلام العربي وتطوّره
د. مي صالح نصر
قبل أن أتحدث عن تطور اللحن في العربية سأتحدث عن معنى اللحن في اللغة أولاً ، بعده سأورد نماذج من اللحن في مختلف العصور ابتداءً من العصر الجاهلي وانتهاءً بالعصر الحديث.
*أولاً معنى اللحن : ورد في لسان العرب أن اللحن هو : الخطأ في الإعراب ، يقال فلان لحّان ولحّانة أي كثير الخطأ ، والتلحين : التخطئة ، وقد لحن في قراءته طرب بها وغرّد ، وهو ألحن الناس إذا كان أحسنهم قراءة وغناءً يدل على ذلك قول الشاعر :
وهاتفتين بشجوٍ بعد ما سجَعتْ وُرقُ الحمامِ بترجيعٍ وإرنانِ
باتا على غصن بانٍ في زرى فننٍ يـــردّدن لحــوناً ذات ألـــــوانِ
واللحَن بالتحريك : الفطنة وفي الحديث : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم يكون ألّحَنَ بحجته من بعض , فمن قضيت له بشيء من حقّ أخيه فإنّما أقطع له قطعة من نار) ، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم باللحن : أن يكون بعضكم أعرف بالحجة وأفطن لها من غيره .
ومنه أيضا قول عمر بن عبد العزيز : (عجبتُ لمن لاحن الناس كيف لا يعرف جوامع الكلم) أي فاطنهم . واللحن أيضا بالتحريك : اللغة : وقد روى أن القرآن نزل بلحن قريش أي: بلغتهم ، وفي الحديث : ( اقرأوا القرآن بلحون العرب ) أي بلغتهم .
وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( تعلّموا الفرائض والسُنّة واللّحن ) أي اللغة وقد فسرّها أبو عبيد تعلّموا اللحن أي ؛ الخطأ في الكلام لتحترزوا منه .
واللحن أيضا التورية : أي يقول قولا يُفهم عنه ويخفى على غيره , لأنه يميله بالتورية عن الواضح المفهوم ، ومنه قول الطرماح :
وأدت إلي القوْلَ عنهن زولةٌ تُلاحنُ أو ترنو لقول المُلاحن
أي تتكلم بمعنى كلام لا يُفطن له ويُخفى على الناس ومنه قول الشاعر :
ولقد لحنتُ لكم لكيما تَفْقَهُوا وَوَحَيتُ وَحْيا ليس بالمُرتابِ
ومن ذلك قول مالك بن أسماء الفزازي ، حيث يقول :
منطقٌ رائعٌ وتلحن أحيانا وخيرُ الحدّيثِ ما كان لحنا
أي أنها تتكلم وهي تريد غيره , وتعرض في حديثها فتزيله عن جهته ، من فطنتها وذكائها.
واللحن : المعنى، كما قال الله تعالى : ( وَلَتَعْرِفَنَّهم في لحْنِ القولِ ) أي : فحواه ومعناه .
وقد جمع ابن بري معاني اللحن فقال : ( للحن ستة معانٍ – الخطأ في الإعراب واللغة والغناء والفطنة والتعريض والمعنى ) .
* فمن نماذج الخطأ في المعنى : ( الطرب ) : يذهب الناس إلى أنه الفرح دون الجزع وليس كذلك إنما الطرب خفة تصيب الرجل لشدّة السرور أو لشدّة الجزع قال النابغة الجدعي :
وأُراني طرباَ في أثرهم طرب الواله أو كالمختبل
ومن نماذج الخطأ في بنية الكلمة ، أنهم يقولون : (هبّت الأرياح ) وهو خطأ والصواب أن يقال :( هبّت الأرواح ) كما قال ذو الرومة :
إذا هبّت الأرواحُ من نحو جانبٍ به أهل مي هاجَ قلبي هبوبُها
وقول ميسون بنت مجدل الكلبية :
لَبَيتُ تَخفِقُ الأرواحُ فيه أحبُّ اليّ من قَصرٍ مُنيفِ
والعلة في ذلك أصل ( الريح ) هو ( روح ) لاشتقاقها من ( الروح ) وإنما أبدلت الواو ياءً في( ريح ورياح ) للكسرة التي قبلها فإذا جمعت على ( الأرواح) فقد سكن ما قبل الواو وزالت العلة .
ومن ذلك قولهم : ( استهتر الرجل ) فهو مستهترـ بالمعلوم ـ والصواب استُهتر فهو مستهتر بالمجهول ـ وهو الذي يخلط في أقواله وأفعاله كأنه بلا عقل .
ومن ذلك أيضا ما جاء على ( فعَلت)ــ مفتوح العين ــ والعامة تكسره قولهم : عَرِفتُ ـ عقِلتُ ـ كَسِبِت والصواب : عَرَفتُ ـ عَقَلتُ ـ كَسَبتُ .
*ومن نماذج الخطأ في التركيب يقول الكسائي : (شكرت لك ونصحت لك ) ولا يقال ( شكرتك ونصحتك ) وقد ( نصح لفلان وشكر له ) هذا كلام العرب ، قال الله تعالي : ( فاشكروا لي ولا تكفرون ) .
وما ذكره الكسائي في هذه المسألة يخالف جمهور اللغويين ففيها لغتان : شكرته وشكرت له ونصحته ونصحت له ، يتعدى بنفسه وباللام .
وخلاصة القول يمكن أن نعرّف اللحن بأنّه : خروج الكلام الفصيح عن مجرى الصحة في معنى الكلمة أو بنية الكلام أو تركيبه أو إعرابه بفعل الاستعمال الذي يشيع بين العامة من الناس ويتسرّب بعد ذلك إلى لغة الخاصة .
في المقال القادم سأورد نماذج من اللحن في العصر الجاهلي وصدر الإسلام .
|
|
|