قلب الشابي بين الألم وسر البقاء
د. محمد سعيد حسب النبي
ولد لأب يعمل في القضاء، تقياً ورعاً، حياته بين المسجد والمحكمة، لتكتسب نفس الفتى إباء ورثه من القاضي، وفطرة نقية غرزها الدين في وجدانه، نشأ وترعرع متنقلاً بين المدن التونسية متمتعاً بجمالها الخلاب، ليعلو شعره مسحة جمال تأصل بفعل بيئة لابد أن تترك بصمتها على من عاش في ظلها. في هذا الجو الملهم نشأ الشاعر المبدع أبو القاسم الشابي.
رغم حياته القصيرة، ومرض قلبه الذي لم يمهله طويلاً، ليغادر الحياة في الخامسة والعشرين من عمره؛ إلا أن إبداعه الشعري فاق في رصانته كثيراً من شعراء عصره، بدا ذلك في أعماله الشاهدة على نضج فكره، وخصوبة خياله، وعذوبة وجدانه.
وإن الحالة الصحية التي عاناها الشابي كان لها تأثير على إبداعه الفائق، فيبدو أن علم الشابي بمرض قلبه؛ جعله يكتب الشعر رغبة في الخلود؛ عوضاً عن حياته التي أيقن أنه لابد مفارقها، مؤمناً بدور الشعر الذي خُلق ليحيا، بما يحمل من عوامل البقاء وسر الخلود.
حاول الشابي في كل أشعاره البحث عن المطلق، عن النزعة الإنسانية في أسمى معانيها، عن خلود روحه بعد فناء جسده الذي أصبح محتوماً، تجلى ذلك في كل قصائده. إن قلبه المريض هو سر ألمه وشكواه، يقول في يومياته: "آه يا قلبي، أنت مبعث آلامي ومستودع أحزاني، وأنت ظلمة الأسى التي تطغى على حياتي المعنوية والخارجية" وأنا أقول باطمئنان إن قلب الشابي سر إبداعه وخلوده.
والمتتبع لحياة الشابي ليجد دون أدنى شك أن أعماله التي هيأها لتخلد من بعده هي ما كانت تشغله أكثر من مرضه. فقد سأله صديق عن حاله قبل أيام من موته؛ فأجاب: لست أخاف على نفسي، ولكني أخاف على –وأخرج لفافة من قماش تضم بين ثناياها ديواناً له، إنه ديوان الحياة.
ولتحقيق غاية البقاء التي كان ينشدها الشابي؛ ظل يكتب ويبدع، ناسياً مرضه أو متناسياً؛ فساءت حالته المرضية، وضعف بدنه، وتقلبت به أحوال الحياة، ليتخذ مما سبق مصادر إلهام تدفعه للإبداع دون توقف مصارعاً الأيام التي كان يهزمها في كل جولة يُخرج فيها عملاً إلى نور الحياة، ليصرعه القدر مرتحلاً معه في النهاية؛ ليخلف تركة إبداعية تفوق في جودتها كثيراً من الكُتاب الذين طالت أعمارهم وهزل إنتاجهم الأدبي.
لقد كان الخلود شغل الشابي الشاغل، وقد أفلح فيما أراد واستطاع أن يكون بيننا حياً باقياً، يعلن فلسفته في الحياة ببساطة في العبارة، وغزارة في الفكر، وصدق في الإيحاء.
ولنقرأ سوياً أبياتاً تجسد إباء الشابي وفلسفته في الخلود:
سأعيش رغم الداء والأعداء
كالنسر فوق القمة الشماء
أرنو إلى الشمس المضيئة هازئاً
بالسحب والأمطار والأنواء
لا أرمق الظل الكئيب ولا أرى
ما في قرار الهوة السوداء
وأسير في دنيا المشاعر حالماً
غرداً وتلك سعادة الشعراء
أصغي لموسيقى الحياة ووحيها
وأذيب روح الكون في إنشائي
وأصيغ للصوت الإلهي الذي
يحيي بقلبي ميت الأصداء
وأقول للقدر الذي لا ينثني
عن حرب آمالي بكل بلاء
لا يطفيء اللهب المؤجج في دمي
موج الأسى وعواصف الأرزاء
فاهدم فؤادي ما استطعت فإنه
سيكون مثل الصخرة الصماء
لا يعرف الشكوى الذليلة والبكا
وضراعة الأطفال والضعفاء
ويعيش " جباراً " يحدق دائماً
بالفجر .. بالفجر الجميل النّائي
واملأْ طريقي بالمخاوفِ، والدّجى
وزَوابعِ الاَشْواكِ، والحَصْباءِ
وانشُرْ عليْهِ الرُّعْبَ، وانثُرْ فَوْقَهُ
رُجُمَ الرّدى، وصواعِقَ البأساءِ
سَأَظلُّ أمشي رغْمَ ذلك، عازفاً
قيثارتي، مترنِّما بغنائي
أمشي بروحٍ حالمٍ، متَوَهِّجٍ
في ظُلمةِ الآلامِ والأدواءِ
النّور في قلبِي وبينَ جوانحي
فَعَلامَ أخشى السَّيرَ في الظلماءِ
إنّي أنا النّايُ الذي لا تنتهي
أنغامُهُ، ما دامَ في الأحياءِ
وأنا الخِضَمُّ الرحْبُ، ليس تزيدُهُ
إلا حياة ً سَطْوة ُ الأنواءِ
أمَّا إذا خمدَتْ حَياتي، وانْقَضَى
عُمُري، وأخرسَتِ المنيَّة ُ نائي
وخبا لهيبُ الكون في قلبي الذي
قدْ عاشَ مثلَ الشُّعْلة ِ الحمْراءِ
فأنا السَّعيدُ بأنني مُتَحوِّلٌ
عَنْ عَالمِ الآثامِ، والبغضاءِ
لأذوبَ في فجر الجمال السرمديِّ
وأَرْتوي منْ مَنْهَلِ الأَضْواءِ
وأقولُ للجَمْعِ الذينَ تجشَّموا
هَدْمي وودُّوا لو يخرُّ بنائي
ورأوْا على الأشواك ظلِّيَ هامِداً
فتخيّلوا أنِّي قَضَيْتُ ذَمائي
وغدوْا يَشُبُّون اللَّهيبَ بكلِّ ما
وجدوا..، ليشوُوا فوقَهُ أشلائي
ومضُوْا يمدُّونَ الخوانَ، ليأكُلوا
لحمي، ويرتشفوا عليه دِمائي
إنّي أقول ـ لَهُمْ ـ ووجهي مُشْرقٌ
وَعلى شِفاهي بَسْمة اسْتِهزاءِ
إنَّ المعاوِلَ لا تهدُّ مَناكِبي
والنَّارَ لا تَأتي عَلَى أعْضائي
فارموا إلى النَّار الحشائشَ..، والعبوا
يا مَعْشَرَ الأَطفالِ تحتَ سَمائي
وإذا تمرّدتِ العَواصفُ، وانتشى
بالهول قَلْبُ القبّة ِالزَّرقاءِ
ورأيتموني طائراً، مترنِّماً
فوقَ الزّوابعِ، في الفَضاءِ النائي
فارموا على ظلّي الحجارةَ، واختفوا
خَوْفَ الرِّياحِ الْهوجِ والأَنواءِ..
وهُناك، في أمْنِ البُيوتِ، تَطارَحُوا
عثَّ الحديثِ، وميِّتَ الآراءِ
وترنَّموا ـ ما شئتمُ ـ بِشَتَائمي
وتجاهَرُوا ـ ما شئتمُ ـ بِعدائي
أما أنا فأجيبكم من فوقِكم
والشمسُ والشفقُ الجميلُ إزائي
مَنْ جاشَ بِالوَحْيِ المقدَّسِ قلبُه
لم يحتفِلْ بفداحة الأعباءِ
|
|
|