اللحن في العصر الجاهلي وصدر الإسلام

د. مي صالح نصر

تحدثت في المقال السابق عن معاني اللحن في اللغة وبيّنت أنّ من معانيه : الخطأ والتخطئة وذكرت أني سأعرض نماذج من اللحن ـ بمعنى الخطأ ـ  في مختلف العصور ابتداءً من العصر الجاهلي وصدر الإسلام وانتهاءً بالعصر الحديث فإليكم جزء مما وعدتكم به وهو :
اللحن في العصر الجاهلي وصدر الإسلام :
إنّ اللغة العربية في العصر الجاهلي كان لها مستويات متعددة تختلف فيما بينها باختلاف القبائل ، وعُرف كل قبيلة في لهجتها إلا أنها اتفقت فيما بينها على الفصاحة والبلاغة ، يدّل على ذلك وَعيهم بصحة استخدام الصيغ المفردة والصيغ المركبة ، من حيث وضعها وملاءمتها للغرض الذي بُنيَ عليه الكلام لذلك نجد أن اللحن لم يُوجد بصورة واضحة ونجده متفرقاً وكان حكمهم مُنصباً على الأشعار ، كيف لا ، وقد كان الشعر ديوانهم .
قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه : ( كان الشعر في الجاهلية عند العرب ديوان علمهم ومنتهى حكمهم به يأخذون وإليه يصيرون ) . ومن نماذج اللحن فيه ما وجهه ( طرفة بن العبد) وهو بعد صبي ـ إلى  ( المسيب بن علس الضبعي ) ؛ فقد مرّ المسيب بمجلس بني قيس بن ثعلبة ، فاستنشدوه ، فأنشدهم :  
       ألا عِم صباحا أيُّها الربعُ واسلم              نحُييك عن شحط وإن لم تتكلم
فلما بلغ قوله :    
        وقد أتناسى الهمّ عند ادّكاره                 بناجٍ عليه الصيعرية مُكدِم
        كُميتٍ كنازٍ لحمُها حِميريةٍ                   مواشكةٍ ترمي الحصا بمُثلم
قال طرفة ـ وهو صبي يلعب مع الصبيان ــ (  استنوق الجمل ) وذلك لأنّ ( الصيعرية ) علامة تكون في عنق الناقة لا الجمل ، وبعبارة أخرى أنّ الشاعر قد وّظف صيغة في غير موضعها ، فيكون بذلك قد ابتعد بها عن أصل وضعها في عُرف اللغة وهذا ما يعرف باللحن . ومن ذلك أن الأعشى عندما مدح ( قيس بن معد يكرب ) ـ أحد أشراف اليمن وسادتها بقوله :
             ونبئتُ قيسا ولم آته                       وقد زعموا ساد أهل اليمن
عاب هذا القول أحد المستمعين له وقيل  عابه ( قيس ) نفسه مُعترضا على صيغة ( زعموا ) التي شككت في سيادة ( قيس ) وشرفه وارتفاع مكانته .
ولم تتوقف أحكام القدماء على الشعر عند لفظه ومعناه وأسلوبه وصوره ، بل امتدّت لتشمل أوزان الشعر وقوافيه ـ باعتبارها ظاهرة موسيقية من ألزم العناصر للغة الشعر وأسلوبه ، ومن أدقّ مقاييسه النقدية . ومن تلك الأحكام ، الأحكام التي تناولت عيوب القوافي في أشعار الشعراء ، ومن ذلك ما قاله ابن سلام الجمحي أثناء حديثه عن شعراء الطبقة الأولى من شعراء الجاهلية حيث قال : ( لم يقو أحد من هذه الطبقة ولا من أشباههم إلا النابغة في بيتين قوله :
        أ مِن آلِ مَيةَ رائحٌ أو مغتدي                عَجْلان ذا زادٍ وغير مزودِ
        زعم البوارح أن رحلتنا غداً                وبذاك خبرنا الغراب الأسودُ
حيث جاءت القصيدة بانخفاض ثم جاءت كلمة ( الأسود ) بالرفع ، وقوله :
                سقطَ النصيفُ ولم تُرِدْ                   إسقاطه فتناولته واتقتنا باليدِ
               بمُخَضَّبٍ رخصٍ كأنّ بنانه               عَنمٌ يُكاد من اللطافة يُعقدُ
فجاءت القصيدة كلها بالخفض إلا في موضعين وهما : ( الأسود ـ يعقد )
وقد أقوى من فحول شعراء الجاهلية أيضا : ( بشر بن أبي خازم الأسدي ) ، فقد قيل لأبي عمرو بن العلاء : هل أقوى أحد من فحول شعراء الجاهلية كما أقوى النابغة ؟ قال : نعم بشر بن أبي خازم في قوله :
              ألم تر أن طول الدهر يُسلي                  و يُنسي مثل ما نُسيت جُزامُ
               وكانوا قومنا فبغوا علينا                     فسُقناهم إلى البلد الشآمي
وزاد أبو عبيدة هذا الخبر ، فقال : ( فقال له أخوه سمير أو سوادة : أكفأت وأسأت . قال : وما ذاك ! قال : قلتَ : كما نسيت جزام ثم قلتَ : إلى البلد الشامي . قال : قد بيّنت ولست بعائد . ) .
يتبيّن من هذه الروايات أنها تختص بالخطأ الإيقاعي أو العَروضي الذي لحق بعض شعر النابغة ، وبشر بن أبي خازم ، وهو ( الإقواء ) وهو عيبٌ لاحظه القدماء المتلقون للشعر بذوقهم الفطري ، وفصّل القول فيه العلماء بالشعر على نحو ما رأينا من تعليقاتهم ، فهذه المُخالفة أو التغير في حركة القافية يمكن أن يعتبر ضرباً من اللحن ؛ إذ لم يتقبله المتلقي العادي ذي الذوق الفطري والبصير بالشعر ذي الذوق المثقّف .  
هذا بالنسبة للحن في العصر الجاهلي ، أما بالنسبة لصدر الإسلام فإن كلمة ( اللحن ) قد ترددت بين العرب منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه : ( أنا أعرب العرب ولدتني قريش ونشأت في سعد بن بكر ، فأنى يأتيني اللحن ) . وقد لحن إعرابي في حضرته صلى الله عليه وسلم فقال الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام لأصحابه : ( ارشدوا أخاكم ؛ فإنه قد ضلَّ ) ، ولقد روي عن أبي بكر الصديق أنه قال : ( لأن أقرأ وأسقط أحبّ إلي من أن أقرأ وألحن ) . وروا أن أحد ولاة عمر بن الخطاب كتب إليه كتابا جاء فيه : ( من أبو موسى الأشعري ) فكتب إليه عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه : ( أن قنّع كاتبك سوطا ) وفي رواية أخرى ( اضرب كاتبك سوطا واحدا وأجز عطاءه سنة ) . كما يروى عنه أنه مرّ برجلين يرميان فقال أحدهما للآخر : ( أسبت ) يعني ( أصبت ) فقال عمر رضي الله عنه : ( سوء اللحن أشدّ من سوء الرمي ) . فهذه الروايات تدّل على معرفة اللحن في ذلك العصر وفيما قبل ذلك العصر الإسلامي ، إذ أن استخدام اللفظة في ذلك الوقت وفهم المقصود منها حينذاك قد سبقه ما يسوغ هذا الاستخدام وذلك الفهم ، وفي هذا أيضا دلالة مباشرة على حدوث ذلك في الجاهلية وإن لم يظهر لنا إلا فيما رُوي عنهم في الشعر .