اللّغة العربيّة بين مطرقة الفضائيّات وسندان العولمة
د. نوال بنت سيف البلوشية
تعدُّ وسائل الإعلام سلاح ذو حدَّيْن، لأنّها تؤثر تأثيرًا بالغًا على عقول المتلّقين ولغتهم، تستطيع أن تصعد بها إذا وُجهت البرامج فيها إلى – حفاظ اللّغة العربيّة الفصحى – هدف ما والعكس إذا ما وُجهت عشوائيًّا دون هدف معين ،من هذا المنطلق يمكن بَعْث الفصحى إلى ألّسنة النّاشئة ببث برامج باللّغة العربيّة الفصحى الّتي تجذب الأطفال الّذين يقلدون ما يسمعون؛ فتستقيم ألّسنتهم شيئًا فشيئًا على الفصحى.
لما كانت اللّغة تعني حسب تعريف ابن جنّي لها: "مجموعة أصوات يعبّر بها كلّ قوم عن أغراضهم"، هل يكفي لرجل الإعلام أن يظهر على الشّاشة ويتحدث حتى يفهمه الجمهور فقط؟ ذلك – حقيقة الواقع – أنّ كثيرًا من وسائل الإعلام المرئيّة كانت تعتقد واهمة أنّ الجمهور يفهم رسائلها، في حين أنّ العكس هو الصّحيح .
ونحن نعلم بأنّ العناصر الدّاخليّة لمنّظومة الإعلام تتمثل في: المُرْسِل و مُرْسَلَة النّص والمُرْسِل إلية. لتكون مضمون المُرسلة الإعلاميّة إما علميّ أو أدبيّ، أو سياسيّ، أو اقتصاديّ، تجاريّ تسوقيّ، أو ثقافيّ منتنوّع، وعلى هذا الأساس سأبيّن في هذا المقال للعلم ولفت الانتباه الفرق بين ثلاثة مصطلحات: الإعلاّم والإعلاّن والدّعاية ربما نظّن أنّها تؤدي وظيفة واحدة، والواقع أنّ كلاً منها لها وظيفة مستقلة لكن بينها ترابط، ولعلنا نُدرك بالحِسّ وبالتّجربة أثرها على المجتمع كلّه.
فالإعلام: يُقصد به تزويد النّاس بالأخبار الصّحيحة، والمعلومات السّليمة والحقائق الثّابتة، الّتي تساعدهم على تكوين وجهة نظر صائب في واقعة من الوقائع أو مشكلة من المشكلاّت.
والإعلان :نحن نسمعه في المذياع ونقرؤه في الصّحيفة ونشاهده في التّلفاز يحتمل الواقع أحياناً . ورد في لسان العرب الإِعْلانُ: المُجاهرة. عَلَن الأَمْرُ يَعْلُنُ عُلُوناً.
أما الدّعاية: يُقصد بها الكذب والإدعاء عادة يكون بصورة واضحة في تسويق المنّتج (التّسويق) عمليَّات لنشر المعلومات، باستعمال وسائل الإعلاّم والاتصال المختلفة.
ومن الملاحظ أنّ وسائل الإعلام وبرامجها كثيرة في ظل التّقدم التّكنولوجيّ والثّراء المعلوماتيّ، إلا أنني سأقتصر حديثي عن وسيلتين هما التّلفاز والمذياع، لتوضيح مستويات اللغة العربية المستخدمة فيها.
من خلال مراقبة الانفجار الهائل في وسائل الاتصال الإعلاميّة كمًا ونوععًا، وأثرها على اللّغة العربيّة، نلاحظ أنّها جعلت – اللّغة العربيّة - في مستويات وأشكال عدّة، وقد حددها بعض المهتمّين في العلّوم العربيّة مثل الحاج في كتابه اللّغة العربيّة ووسائل الاتصال الحديثة على أنّها في ثلاث مستويات على مستوى المنظومة الإعلّاميّة :
1. مستوى الفصحى العربيّة السّليمة: نشرات الأخبار وإذاعة القرآن الكريم.
2. مستوى العاميّة العامة: تكون في منطقة إقليميّة جغرافية معينة، كاللهجة المستعملة في منطقة معينة من الدول.
3. مستوى الفصحى المشوبة بالأجنبية: المزج بين الفصحى السّليمة وبين بعض الكلمات الأجنبية.
لكن إنْ تمعنّا في المستويات الّتي قُسمت في استخدام اللّغة العربيّة لا نجد فيها شيء من الصّحة في تقسيمها السّبق وفق المنظومة الإعلّاميّة؛ إذ ما ألبسنها ثوب العلميّة وفق منهج علوم اللّغة العربيّة؛ باعتبار أنّ اللّغة المكتوبة شكلين في أصلها: 1- (فصحى التّراث) . -2 (الفصحى المعاصرة) والباحث المتّعمق في علوم اللّغة يدرك ذلك، وحتى يتبيّن المقصود بفصحى التّراث والفصحى المعاصرة لابد من عرض مستويات اللغة الّتي جاء بها غوبار في كتيبه الّذي نشره في باريس عام 1976, تحت عنوان: التحليل اللغوي الرباعي يبين لنا فيه أنّ في كلّ لغة أربعة مستويات هي: 1) المستوى المحليّ. 2) المستوى النّاقل. 3) المستوى المرجعيّ. 4) المستوى الروحاني.
والمستوى النّاقل في اللّغة العربيّة نوعين: فهناك لغة ناقلة (ناقلة أولى) على مستوى البلدان العربية كلّها, مستخدمة في وسائل الإعلام وفي الكتابة, وهي اللّغة الفصحى المعاصرة, وهناك أيضا لغة ناقلة, ( ناقلة ثانية) على مستوى بلّد عربيّ بعينه لا تستخدم إلا في الحوار, وهذه اللّغة النّاقلة الوطنيّة مختلفة عن الفصحى, ومختلفة أيضًا عن اللّغة المحليّة ذات الاستخدام المحدود, الّذي لا يمتد على نطاق بلد بكامله.
مما سبق يتبيّن لنا بأنّ اللّغة المستخدمة في وسائل الإعلّام المختلفة تتمثل في اللّغة النّاقلة بنوعيها, وإذ ما أخذنا على سبيل التّمثيل لا الحصر التّلفاز كوسيلة إعلاميّة سنجد أنّ عدد القنوات الفضائيّة العربيّة تزيد عن 192 قناة حكوميّة وخاصة, عامة ومتخصصة إلا أنّ البرامج الّتي تُقدم بالفصحى قليلة, ومعظمها بعيدة عن الفصيح والوضع مماثل في الإعلام المسموع (الإذاعة).
وحتى نكون منصفين في استنتاجاتنا نشهد بوجود برامج لها اهتمامات في علوم اللّغة العربيّة لكنها غير ظاهرة بالصّورة الّتي تستحقها اللّغة العربيّة بل جعلتها بين مطرقة الفضائيّات وسندان العولمة.
وممّا سبق يتبيّن لنا أنّ الشّكل الفصيح المعاصر للّغة العربيّة هو الشّكل النّاقل, لذا من الضّروري الاهتمام بالكفاءة اللّغويّة أولاً لتحقيق الكفاءة التّواصليّة الّتي تهدف إليها وسائل الإعلام من خلالها تحقيق الاتصال المثمر مع الأفراد فهمًا وإفهامًا للمرسلة الإعلاميّة سواء أكانت تلك المرسلة مطبوعة أومسموعة أو مرئيّة أو مكتوبة.
لذا ندعو المسؤولين في المؤسسات الإعلاميّة إلى توسيع أفق استخدام اللّغة العربيّة الفصحى في وسائل الإعلام والاتصال المختلفة؛ باعتبارها لغة وقادرة على التّكيّف مع قوانين التّطور المختلفة، وهذا لا يتحقق إلا من خلال العمل الجاد في إخضاع الكادر الإعلاميّ لدورات لغويّة تأهيليّة، يتم التّركيز فيها على مهارات اللّغة أجمع.
|
|
|