الإعجـاز اللّغوي في القرآن الكريم

أ.د. محمد البكّـاء

تُعد النّصوص اللـّغوية مصدراً من مصادر التقعيد اللغوي، وقد شغلت هذه النصوص اهتمام الباحثين والدارسين قديماً وحديثاً. ويأتي (القرآن الكريم) في مقدمة هذه النصوص بعد أن بلغ من الفصاحة ذروتها، فضلاً عن أنه أصدق نص لغوي محكم لا يأتيه الباطل من بين يديه ،أو من خلفه. لذا أجمعت الروايات التاريخية: على أن السبب في وضع النحو العربي ليس اللـّحن الذي فشا على ألسن المتكلمين بقدر ما هو الخوف على القرآن الكريم من أن تمتد إليه يـد ُّالتحريف بعد انتشار الإسلام في بيئات غيــر عربية، ودخول أجناس غير عربيــة في الدِّين الجديد.
   وبذا نرى أنَّ الدَّرس النَّـحوي كان عملاً من أعمال القرآن الكريم في بداية أمره، ثم ظهرت الحاجة إليه بمرور الزمن على أنه غرض حيوي لا يمكن الاستغناء عنه في الأمصار الإسلامية التي التقت فيها العناصر، وتفاعلت فيها اللغات. وقد تضافرت جهود الدارسين لإنماء هذه الدراسة، فاستقلت عن جملة الأعمال القرآنية. وبدأ الابتعاد عن النص القرآني في التقعيد اللغوي، إذ لم يحتل المكانة التي يستحقها في دراسات النـّحويين البصريين اللغوية مثلاً، إذ كان هناك تغافل نسبي عن القرآن الكريم في التقعيد النحوي، وموقف غير منهجي من القراءآت القرآنية لإفراطهم في استخدام الأقيسة العقلية، والشطط في قبول الشواهد النحوية، وخاصة القرآنية، ومحاولة إخضاعها لأقيستهم العقلية، أو تأويلها، أو رميها بالشذوذ تارة، أو بالخطأ تارة أخرى، على الرغم من إيمانهم المطلق بقيمة القاعدة النحوية، أو اللغوية المستندة إلى نص قرآني، والذي يكسبها صفة الثبوت.
وإذا كان هذا هو منهج البصريين في الدرس اللغوي، فإنَّ الكوفيين كانوا أوسع أفقاً، وأرحب صدراً من البصريين في مجال الاستشهاد بالقرآن الكريم، فقبلوا كـُلَّ ما جاء من القرآن الكريم مؤثرين في كثير من الأحيان عدم التأويل والتخريج، وسائرين في الأعم الأغلب على ظواهر الآيات، لا تثنيهم عن ذلك قاعدة مسبقة، ولا يقف دون قبولهم للآيات القرآنية عائق من قياس، لأنهم كانوا يقيمون لكل مسموع وزناً، وليس في المسموعات ما هو أجدر من القرآن الكريم بأن يؤخذ بكل ما جاء فيه من شواهد تمنح القاعدة شموخاً وتعضيداً وقوة. وبذا آثروا عدم تأويل الآيات القرآنيةـ كما فعل البصريون وتخريجها على ظواهر الآيات القرآنية من دون تأويل، أو تقدير، وتعديل القاعدة النحوية لتتلائم مع ما نطقت به الآيات القرآنية. ولعل السبب في ذلك يعود إلى أنَّ الكوفة كانت مهبط كثير من الصحابة، وموطن القراءات القرآنية، كما أن حياتهم اقتضت الاعتناء بكل ما هو عربي أصيل مما دفعهم إلى الإكثار من رواية الشعر الذي يشيد بمجد أسلافهم، وبلائهم في حروب الإسلام، وبذا: كانت الكوفة أغزر شعراً، وشعراء من البصرة، وكثر فيها رواة الحديث الشريف لكثرة مَنْ بها من الصحابة والتابعين، وكانت لها عناية خاصة بفن القراءات، وشهد مسجدها الجامع كثيراً من حلقات القراءة رواية، ودرساً ونقداً، وبياناً لمطردها وشاذها. وكان بها من القراء المشهورين بالضبط والإتقان من قدر لقراءاتهم أن تشيع في الأمصار بعد ذلك كأبي عبد الرحمن السلمي، وعاصم بن أبي النجود، وحمزة بن حبيب الزيات، وعلي بن حمزة الكسائي .
وإذا انتقلنا إلى مسألة الإعجاز فإننا نرى: أن الإعجاز اللغوي هو الإعجاز الأشد بروزاً في القرآن الكريم على الرغم من أن قولنا هذا: لا يتنافى من أن القرآن الكريم كان إعجازاً في المستويات الأخرى التي ترتبط بجوانب معرفية أخرى، وذلك لأننا نستطيع تلمس واقع الإعجاز القرآني عن طريق البيئة الاجتماعية التي نزلت بها الرسالة الإسلامية، ونمط حياتها والتي تمثلت في البعد المعرفي الخاص بالأدب وبلاغته، أي في البيئة الفنية، أو الأدبية، أو البلاغية التي عرف المجتمع الجاهلي بها حينئذ. ولذلك نزل القرآن الكريم وفق أسلوب أدبي خاص جعل البيئة المشار إليها تستجيب استجابة المندهش إلى الأسلوب الأدبي، أو البلاغي، أو الفني برغم ما عرف عن اللغة العربية من رقي في أساليبها، وسعة ألفاظها، وشدة تأثيرها. وفي إشارة لبيان أثر القرآن الكريم حين نزوله على النفس العربية يمكن أن نذكر قول الوليد بن المغيرة: (والله، إنَّ لقوله لحلاوة، وإنَّ أصله لعَذَق). كما حذرت قريش أتباعها من الاستماع إلى النبي الكريم (صلوات الله عليه)، وهو يقرأ القرآن. ووضع الطفيل بن عمرو الدّوسي كُرْسفاً (قطناً) في أذنيه حين غدا إلى المسجد خوفاً من أن يبلغه شيء من كتاب الله، ولكنه قال في نفسه: (واثكل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليَّ الحَسنُ من القبيح، فما يمنعني من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته). وسمع القرآن وأسلم، ودعا أهله وعشيرته إلى الإسلام .
   لقد استوعب القرآن الكريم كل خصائص العربية، ومميزاتها الأسلوبية، ومالها من سعة في التعبير حتى غدا الأساس الذي يحتكمون إليه في صحة اللغة، وإليه يرجعون في معرفة أسرارها، ودقائقها. قال ابن قتيبة: (وإنما يعرف فضل القرآن من كثر نظره، واتسع علمه، وفهم مذاهب العرب وافتنانهم في الأساليب، وما خص الله به لغتها دون جميع اللغات) .
    وليس ذلك بالأمر الغريب فالقرآن الكريم: (نزل به الروح الأمين على أسلوب يعيا البيان، ويتخاذل إن حاول تجلية حسنه، وإبرازه من قرارة النفس إلى دائرة الحس، وحسبه أن يرمى أمراء البيان، وأرباب الفصاحة بالحصر دونه، والعيّ أمامه) . ويتمثل ذلك بانتقاء المفردة والمركبة، وطبيعة الموقع الذي تحتله كل مفردة في سياق ما هو تركيبي يتناغم مع كل واحدة من هذه المفردات من جانب، والمركبة من جانب آخر بإيقاعات خاصة لا يمكن أن يتحدث عنها الناقد، أو الباحث بشكل يستطيع إيصال جمالية هذه اللغة إلى الأذهان لأنها تذوقية صرفة، ولا يسع البحث العلمي، أو التحليلي أن يتحدث عن ذلك على الرغم من أنَّ البلاغيين تحدثوا عن إعجاز القرآن الكريم عن طريق التقسيم المعروف بالعنصر البلاغي، ألا وهو التقسيم الثلاثي القائل: أن البلاغة تنقسم إلى ثلاثة محاور:
 الأول: يرتبط بالمعاني، والثاني: يرتبط بالبيان، والثالث: يرتبط بالبديع، والمقصود بالمعاني هو الأسلوب التركيبي الذي تأخذه النصوص القرآنية من حيث تأليف المفردة، والمركبة، وطريقة صياغتها، وأما البيان فيتحدث عن الصورة الفنية المتمثلة بالتشبيه، والاستعارة والكناية وما إلى ذلك، أما الثالث: فهو ملحقات بديعية أو كما يعبر عنها باللغة القديمة، هي: مجرد محسنات لفظية ومعنوية في محوري المعاني، والبيان .