جُعِلَتِ العربيّةُ أنثى!
د. عبد الملك مرتاض
إنّ مِن اللغات ما لا يَحمِل جنساً بعينه يتجنّس به كاللغة الإنجليزيّة، وذلك لافتقارها إلى الأصالة والعَراقة، أو لأنّ نظامَا قام على تلك الطبيعة، فإذا لا هي ذكَرٌ، ولا هي أنثى، وإنما هي هُمَا معاً، أو قل: هي ليستْ أيّاً منهما معاً، ممّا قد يصدُق عليها صفة الخُنثى لافتقارها إلى صفاء التجنّس. ولغتُنا أنثى صُرَاحٌ، كذلك ورِثْناها منذ الأعصار الموغِلة في القِدم. في حين أنّا نؤنّث سَواءَها من اللغات، قياساً على أنّ لغتنا العربيّةَ مؤنّثة أيضاً، وإلاّ فإنّ الفرنسيّة، مثلاً، مذكّرة في نفسِها، في استعمال أهلها. في حين أنّ الإنجليزيّة، كما سبق الحديث، لا هي أنثى ولا هي ذكر، ولذلك لا تُعير مثلُ تلك اللغات المذكَّرة، أصلاً، وزْناً كبيراً للمرأة في تحديد دلالة الضمائر، ولا في تدقيق التَّعْداد!
إنّ العربيّة هي اللغة الوحيدة –أو من القليلات حتى لا نقطع بالحكم- التي تؤنّث المثنّى الدالّ على امرأتين، بحكم أنّ التَّعدادَ في العربيّة يُميّز المعدود المؤنّث من المعدود المذكّر. وما ذلك إلاّ لأنّ المرأة فيها تتبوأ المقام الأوّل، على غير ما نصادفه في اللغات الأخرى، الغربيّة والشرقيّة، التي تُهْمل حقّ المرأة من الوجود اللُّغويّ فيها فتُغيَّب منها احتقاراً لها، وإهمالاً! وكذلك نرَى!
ومن عجَبٍ أنّ بعضَ إعلاميّي الفضائيّات الناطقة بالعربيّة، على عهدنا هذا، لا يعرفون أنّ العربيّة تميّز في قاعدة عَددها بين المرأة والرجُل فتُعطِي لكلّ ذي حقٍّ حقَّه منهما في تحديد الإطلاق، فتراهم يَعيثون في لغتنا الجميلة الدقيقة فساداً، مِن جهلهم لها، وهم لا يستَحُون! فالعدد، في العربيّة، (قبل صَرْفِ الوهم إلى تمييزه الذي يبدو أنّ المعلّمين والمتعلّمين معاً أمسَوْا زاهدين في تعلُّمه فلا يلتفتون، أو لا يكادون يلتفتون، إليه) ينطلق ابتداءً من أوّله إلى آخره متوازياً بين الرجل والمرأة:
فواحدةٌ، يقابلُها واحدٌ (الفرنسيّة أيضاً، مثلاً، تميّز بين المذكّر والمؤنث في إطلاق الواحد والواحدة، فيقال في لغتهم: [Un, Une] ولكنّ هذا التمييز بينهما يتوقّف هنا، إلى أن يصل الأمر إلى الترتيب...)؛
واثنتان، يقابلها اثنانِ،
وثلاثٌ، يقابلهنّ ثلاثةٌ،
وأربع، يقابلهنّ أربَعةٌ، وهكذا...
ونلاحظ أنّ المرأة تأخذ حقّها اللغويّ فتتساوَى في ذلك مع الرجل في هذه القاعدة، إذ يقال:
ثلاثة رجالٍ، وأربعة كُتب، وخمسةُ أيام
فيؤنَّث العددُ للمعدود المذكّر مقابل تذكير العدد للمعدود المؤنّث، فيقال:
ثلاثُ نساءٍ؛ أربعُ غُرَفٍ؛ خمْسُ ليالٍ...
بل إنّ العربيّة تبالغ في ميْلها للمرأة فتراها تُطْلِقُ أبْنِيَةً بعينها على الرجُل وهي مؤنّثة، كقولهم علاَّمة، وفهّامة، وتِلعابة، وتِمزاحة... وما جاء على بناء «فُعَلَة» أيضاً مثل ﴿هُمَزَة لُمَزَة﴾، وهذا البناء، كمعظم أبنية المبالغة تتساوَى فيه المرأة مع الرجل، وهي أولى به لوجود التاء الأنثى في آخره، في حين أنّ الرجل يغتدي تابعاً لها على سبيل الانضواء تحتها... وما يراه النحاة أنّ هذه التاءَ ليست، في الحقيقة، للتأنيث، ولكنّها للمبالغة، شأنٌ ليس له معنىً كبيرٌ، ولذلك لا نتّفق معهم فيه! إنّ هذه التاء (الهاء) هي في الأصل للدلالة على المرأة في العربيّة تتميّز بها، فتكون لها زينةً تتباهى بها على الرجُل، لأنّها بها يزداد اللفظ اتّساعاً في عَدد حروفه وانتشاراً في حيّز الصوت بالكلام، وامتداداً في حيز الورًق بالكِتَابِ؛ إذ يقال «كاتِب»، فإنْ أُريدَ إلى تأنيث الكاتب زِيد فيه الهاء فقيل: «كاتبة» (وهذه الخاصيّة تتفق العربيّة فيها مع بعض اللغات الغربيّة كالفرنسيّة، ولكنْ ليس اتفاقاً مطلقاً). والزيادة في المبنى زيادة في المعنى، كما تقول النظريّة النحويّة العربيّة. ولذلك فلا يُعقل، في رأينا، أن تستحيلَ فَجأةً هذه الهاء إلى شيءٍ غيرِ الذي كانتْهُ، وكان فيها، فتفقِدَ أُنُوثتَها، وتكتسبَ دلالة جديدة هي المبالغة المزعومة، على الرّغم منها.
ومن البرهانات لدينا على أنّ هذه الهاءَ ليست، في الحقيقة، للمبالغة في مثل قولهم: «عَلاَّمَة»، أنّ هذا البناء يجتمع فيه مبالغتان اثنتان: الأُولى، أنّ هذا البناء هو على وزن «فعّال» الذي لم يكُ في العربيّة إلاّ للمبالغة أصلاً. فإذا أضفْنا إليه هاء المبالغة –المزعومة- كنّا أوقرْنا هذا البناءَ بما لا يُطيق! وكنّا كمَن أنّث لفظاً واحداً بعلامتيْ تأنيث، فقال مثلاً: «صَحَارَاة» (بالاستعانة بالألف والهاء معاً)، أو «سمْرَاءَة» (باستعمال الهمز والهاء جميعاً)، وإلاّ فبأيّ حجّة يحتجّ النحاة العربُ حين تواطؤوا على أنّ بناء «فعّالة» تكون الهاءُ فيه للمبالغة، مثل أبنيَةٍ أخرى كثيرة تلحقها تاء التأنيث (ة)؛ ففي أسوأ الاحتمالات كان عليهم استعمال مصطلح: «تاء التأنيث الدّالة على المبالغة المضافة»، أو أيّ مصطلح دالٍّ شبيهٍ بهذا. إنّ النُّحاة العرب لم يستطيعوا البرهنة على تحديد وظيفة هذه التاء، واجتزءُوا بقولهم، مثلاً، كما في لفظ حنيفة على أنّ هاءها للمبالغة، لا للتأنيث! وكأنّ ما وقع التمثيل به هو أوضحُ من المُمَثَّل له!
ولم نرَ عالماً نحويّاً عقَد مقالة توقّف فيها لبحث مسألة هاء المبالغة، والحال أنّها تأتي في الأبنية الدّالّة على المبالغة أصلاً، ولكنّ كُلاًّ منهم فيما قرأناه من كتبهم، كان يقرّر هذا في عجلة وحذَر، ثمّ يقول التالي له ذلك نفسه، قولاً مسلَّماً مصدَّقاً، وذلك إلى يومنا هذا.
غير أنّ هاء التفخيم المتحرّكة (ة) هذه، ليست علاَمةً من علامات التذكير، ولكنّها، في الأصل، العلاَمةُ الأولى للتأنيث، فالشرَف اللغويّ كلّه لهذه الهاء الخالصة للمرأة، فكأنّ العرب حين تريد تفخيمَ المعنى وتعظيمَه والرّفْع من قيمته وقدْره تعمِد إلى الْتِماس تاء التأنيث فتجعلها زينةً له، وتاجاً على آخر لفظه.
وإذن، فهل هذه الهاء العجيبة ترِد في الأبنيَة العربيّة المخصوصة للتكثير الموجود أصلاً فيما تلحَقه، أم هي للتزيين والتفخيم؟
بل إنّ النحاة العرب سَعَوْا إلى المبالغة في تذكير العربيّة التي هي أصلاً مؤنّثة في نظامها النحويّ، فزعموا، مثلاً، أنّ تاء «عاقرة» ليست للتأنيث، ولكنّها للمبالغة! فحتّى المرأة جرّدوها من حقّها الأنثويّ، بجعْل تائها الصريحة الخالصة لإثبات أنوثتها وتعيينها، مجرّد علامة للمبالغة، لا لتخصيص هذا التأنيث.
بل إنّ المرأة تتساوَى مع الرجلِ، في نظام اللغة العربيّة، إذا زال الوهم من الدلالة لدى المخاطَبِ فيقال: حاملٌ (للمرأة والرجل) لِتَساوِي القَدْرِ والمكانِ في الدلالة بينهما، وإن كان حَمْل المرأة مختلفاً عن حمْل الرجُل، وهذه مغالَطة بِنَوِيّة أخرى! فكأنّ اللغة هنا تمرُق من أنوثتها اللطيفة فتترجّل تشبّهاً بالذّكَر، وهو على كلّ حال، في العربيّة، قليل، لا يكاد يجاوز خمسة أبنيةٍ... كما يفقِد الرجلُ الاستئثارَ بـ«حقّه اللغويّ» فيتفرّد بالدلالة على حضوره، تمييزاً له عن المرأة، في طائفة من أبْنية المبالغة مثل فَعُول، وفعِيل ﴿إنّ رحمةَ الله قريبٌ من المحسنين﴾، ومِفْعَال... فيتساوَى معها، حَذْوَ النعلِ بالنّعل، كما يتساوى معها في كثير من أبنية المبالغة مثل لُعَبة، وضُحَكة، فلا ندري أيّاً منهما يدلّ على المذكّر والمؤنّث، إلاّ بسياق الكلام، ولكنّ الرجل هنا ينضوي تحت برنس المرأة لوجود هذه الهاء.
ومن البراهين على الحضور المركزيّ للمرأة في اللغة العربيّة أنّ جمْع الرجال المكسّر إذا أعدْنا الضميرَ عليه يجوز لنا تأنيثه مثل: «الناسُ ذهبَتْ»، وكذلك الجمع بالقياس إلى الأشياء، فمَعاد الضمير عليها مؤنّث أبداً، ممّا يتيح للمرأة أن تستبدّ باستعمالات لغويّة كثيرة تتمحّض لها، دون الرجل. لأنّ ما لا يعقل في اللغات أكثر ممّا يعقل.
(لهذه الدراسة مصادر تعذّر ذكرها في هذا المقام).
|
|
|