مواجهة التلوث اللغوي أحد مشاريع الشراكة المجتمعية للجامعات
د. سليمان علي عبد الحق
الجامعة إحدى المؤسسات التعليمية غير الربحية في المجتمع ، والتي تهدف إلى تجسيد حق المواطن في التعليم الذي نصت عليه كل دساتير العالم ، وتهدف الجامعة إلى تكوين مواطن ناضج يمكنه أن يفيد المجتمع بما تعلمه ، وينقل هذا العلم إلى أفراد آخرين بهدف توسيع دائرة التعلم ، وتضييق دائرة الجهل . فالجامعة إذن هي أشبه بالمعمل الذي يمد المجتمع بأجيال متعلمة ومثقفة ، تسهم في النهوض به ، وتشارك مشاركة فعالة في تحقيق التنوير والتطور .
ومن أجل هذا ، فإن أغلب الجامعات تسعى إلى الأخذ بزمام المبادرة في تعزيز الشراكة المجتمعية ، وترسيخ أواصر التعاون بينها وبين المجتمع الخارجي ، بهدف الإسهام في حل مشكلات المجتمع ، ومواجهة ما يعانيه الفرد من أعباء حياتية قد تعوقه عن أداء دوره المنوط به في هذا المجتمع ؛ كمشكلات البطالة ، أو التدخين ، أو الإدمان ، أو التلوث البيئي بأنواعه المختلفة التي من أخطرها ما يعرف بالتلوث اللغوي .
ومما لا شك فيه أن التلوث اللغوي الذي انتشر حديثاً في مجتمعاتنا العربية ، وشاع شيوعاً بشعاً ، قد أصبح يشكل خطراً محدقاً بلغتنا الفصحى ، ونال كثيراً من مكانتها ، وأصبح شبحاً شاخصاً ، وباطناً في كثير من مؤسسات المجتمع ، وإدارته : كالمستشفيات ، والشركات ، وإدارات المرور ، والجوازات ، ومكاتب التخليص الجمركي ، وبعض المؤسسات التعليمية بنسب متفاوتة .
وللتلوث اللغوي أشكال ومظاهر عدة ، تبدأ من الخطأ النحوي في كتابة الجملة ، وتنتهي بالخطأ في نطق بعض الأصوات أو في كتابتها بشكل صحيح ، ومن المؤسف أن هذه الأخطاء لم ينج منها الشخص العادي أو الشخص الذي حقق مستوى وسيطاً من التعليم ، ولكنها طالت كثيراً من الكتابات والمحررات الرسمية أو الحكومية ؛ وهذا هو الخطر الحقيقي الذي يمكن أن يسيء إلى لغتنا الفصحى ، وينال من مكانتها.
والأخطاء التي سببها التلوث اللغوي في مجتمعاتنا العربية أصبحت فجة ، لدرجة أن بعض علماء اللغة عدها كالأمراض المزمنة التي تراكمت عبر حقب متوالية ، وأطلق عليها آخرون اسم " أخطاء شائعة " ، وتساهل فريق ثالث في التعامل معها ومواجهتها ، زعماً منه أن إصلاحها بات أمراً عسيراً !
ومن هذه الأخطاء على سبيل المثال لا الحصر قول بعضهم : ( مشاء الله ) ، والصواب : ( ما شاء الله ) ، ومنه أيضاً قول بعضهم : ( احضرت لك مفاجئة سارة ) ، والصواب : ( أحضرت لك مفاجأة سارة ) ، ومنه قول بعضهم : ( اسعد الله مساؤكم ) ، والصواب : ( أسعد الله مساءكم ) ، ومنه قول بعضهم : ( انا إسمي احمد ابن عبد الله ) ، والصواب : ( أنا اسمي أحمد بن عبد الله ) ، ومنه قول بعضهم أيضاً : ( ارجوا ان تقبل إعنذاري ) ، والصواب : ( أرجو أن تقبل اعتذاري ) ، وهكذا.
وهنا يبرز دور الجامعة ، لكونها المؤسسة التعليمية التي تمثل في الغالب المرحلة النهائية للتعلم ، رغم أن التعلم طريق لا نهاية لها ، لكن المتعلم يتخرج من الجامعة وهو في قمة نشاطه العلمي ، ونضوجه اللغوي ، وقدرته على العطاء ، ومن هنا فقد أصبح منوطاً بالجامعة الرجوع إلى الوراء قليلاً ، أو البدء من نقطة البداية ؛ أي السنة الأولى من الجامعة ، والسعي إلى تكليف الطلاب والطالبات بضرورة إنجاز مشروع في نهاية العام الدراسي ، تخصص له الجامعة درجات أعمال السنة كلها ؛ تشجيعاً للطالب ، وتسميه بمشروع الشراكة المجتمعية ؛ وهو عبارة عن مشروع يقوم خلاله الطالب بعمل زيارات ميدانية لما يتاح له مؤسسات المجتمع ، ويصرح له بمراجعة بعض الخطابات أو المراسلات الرسمية ، ويصحح ما بها من أخطاء لغوية ، أياً كان نوعها ؛ فقد تكون أخطاء نحوية ، أو صرفية ، أو كتابية ، أو دلالية .
ويقوم الطالب بجمع حوالي مائة خطأ شائع في تلك المؤسسات التي زارها ، ويقوم بتصويب تلك الأخطاء مبيناً السبب ، وبعد أن تعرض هذه المشاريع كافة على الأساتذة المختصين ، ويجيزون الطالب عليها ، يعود الطالب إلى تلك المؤسسات حاملاً توصية رسمية من الجامعة بضرورة تصويب تلك الأخطاء ، تبعاً لما هو مبين في تلك التوصية.
فلو فرضنا أن لدينا في السنة الأولى 1000 طالب بالجامعة ، وقام كل منهم بتصويب 100 خطأ ، إذن فنحن سنقوم بتصويب 100 ألف خطأ لغوي في السنة الواحدة ، ومثلهم في السنة التالية ، وهكذا..... وبهذا فإننا يمكننا أن نقضي بنسبة كبيرة على هذا التلوث اللغوي بأشكاله المختلفة.
وبهذا تصبح مشروعات الشراكة المجتمعية تلك مجالاً للتنافس بين الجامعات المختلفة ، للنهوض بالمجتمع ، والسعي إلى إيجاد مجتمع نظيف وخالٍ من التلوث اللغوي ، ولن يكلفنا هذا الأمر كثيراً ، ولا أراه مستحيل التحقيق ، لكن المهم هو إخلاص النية ، والبدء في العمل اليوم قبل الغد .
وإذا تحقق هذا المشروع سيفتح للجامعة نوافذ عدة على المجتمع ، وسيظهر دورها الفعال والمخلص ، والاستطلاعي الذي يأخذ زمام المبادرة لخدمة المجتمع ، ولا ينتظر حتى تتخرج الدفعة النهائية من الطلاب ، هذا فضلاً على الفائدة الكبيرة التي تعوِّد الناشئة من أبنائنا الصغار على استنشاق لغة نقية ، صوتياً ، وصرفياً ، ونحوياً ، ودلالياً ، وبهذا ينمو لديهم الشعور بالانتماء والولاء ، واحترام الأجيال التي سبقتهم ونقلت إليهم هذه اللغة ناصعة بيضاء للناظرين ، ناهيكم عن الأجر العظيم والثواب من الله تعالى الذي سيدخره في الآخرة لمن أخلصوا للغة كتابه العظيم .
|
|
|